رواية (قبل اكتمال القرن) للمبدعة "ذكرى محمد نادر" (4)

تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

رواية (قبل اكتمال القرن)

( قرن الخراب العراقي العظيم )

للمبدعة "ذكرى محمد نادر" (4)

د. حسين سرمك حسن

# الواقعية السحرية العراقية :

ولكن "ذكرى" لا تترك عملية الموت تنتهي عند حدها المقرر المتعارف عليه ؛ أن يموت الفرد ويُحشر في حفرة القبر ويُهال عليه التراب المتشفي ، وكفى. إنها تلاحق الميّت بعد موته .. إنها "أخّاذ أرواح" من نمط آخر.. أخاذ أرواح يقوم بواجباته بالتقسيط.. فلا تنتهي العملية مرة واحدة وبصورة مباشرة ولكن بمراحل مراوغة ومناورة . ولعلّ هذا من العوامل الكبرى التي تقف وراء الكثير من التقنيات الإبداعية عموما والسردية خصوصا . منها على سبيل المثال ما اصطلح عليه بـ " الواقعية السحرية " ، حيث يتلاعب المبدع بأدق سمات ومواصفات وآليات الأشياء ومكوناتها .. يقلب تسلسل الظواهر ومحتواها .. يعطّل ما مقرر أن يحدث في الحياة البشرية باكرا عادة .. ويعجّل بموعد ما يأتي فيها متأخرا ؛ يعكس الأدوار بصورة لا تتناسب مع إمكانات مؤدّيها .. وهكذا ، يصبح كل شيء غير مالوف بصورة خارقة .. سحرية .. لكن جذور هذه الظواهر تبقى غائصة في تربة أرض الواقع وإن لم نعد نمسك منها غير أغصانها الغريبة الأشكال الطافية وكأنها مقطوعة الصلة بتلك التربة . إن هذه التلاعبات الخلاقة التي يقوم بها المبدعون ما هي إلا عمليات دفاعية تحاول ، ولو عبثا ، مقاومة زحف الموت وتلاعبه هو الذي لا يرحم وجودنا. قُتل العاشق الهندي مذبوحا عند قدمي العاشقة المنخذلة التي ماتت بعد أن عضّت لسانها المبيض . هذه هي النهاية المأساوية التي علينا أن ننفض أيدينا منها وننتقل إلى محطة سردية أخرى . لكن ميزة الإبداع - كدفاع خلودي - هو أن مبدعه يسنطيع ملاحقة ما يجري بعد الموت ويغيره ويحوّره .. ويتلاعب بحيثياته المقررة منذ فجر خليقة البشرية ؛ حيثيات رسمتها الإرادة الإلهية التي لا تعرف التطويع أو المراجعة أبدا. وكل إرباك لتسلسلات واقعة الموت يصبح "سِحْرا" : ( شهقت الفتاة ، عضت لسانها المبيض وماتت ، تبلل غدائرها الطويلة المزيتة دموع ساخنة مبتورة الشكوى ، إذ ظلت تفور من عينيها بقطرات كبيرة حتى المساء . ويُقال إن دموعها كانت تفيض من حافات قبرها ممتزجة برائحة زيت اللوز الهندي الذي خضبت به شعرها. وأشيع أن بعض النسوة كن يطلين شعورهن المتساقطة بدموع الغرام تلك فتستطيل الضفائر حتى تغدو كموج النهر – ص 23). ولا أستطيع هنا إلا أن أؤكد هذا الاستنتاج فأقفز إلى التوظيف الفذّ الذي قامت به الكاتبة لواقعة رهيبة أخرى على الصفحتين ( 221 و222). توظيفها لواقعة دفن الجنود العراقيين أحياء من قبل القتلة الخنازير الأمريكان في حرب عام 1991 ، الحرب العالمية الثالثة ، على العراق. إن الواقع العراقي ومنذ اكثر من عقدين كان يشكّل "واقعيته السحرية" الخاصة به .. واقعية سحرية كوصف مجازي لأنها في صلبها لا صلة لها بالسحر والتسحير والإنسحار . إنها "أقصى الواقع" ؛ الواقع النفسي والواقع المادي حين يتم تمزيق حدودهما "الرسمية" ويتحدان في وحدة عاصفة يغذيها لهيب الآمال المجهضة. فالواقع النفسي هو الوحيد الذي يطابق الواقع السردي .. والواقع العراقي صار "واقعا سرديا" .. واقعا نفسيا تحركه وتسيطر عليه وتفعّل "غرائبيته" القوى النفسية اللائبة. وقد بذل الواقع العراقي الجحيمي عطاياه هذه بكرم لا متناه، كرم لم يستثمره المبدع العراقي للأسف إلا في اضيق الحدود ووفق طرائق تابعة ومقلدة. يأتي التوظيف المقتدر من "ذكرى محمد نادر" في روايتها هذه وهي "تهبط" إلى أقصى الواقع العراقي ، وهي تصور الكيفية التي يلتحم بها الواقع النفسي للمبدع بتفجرات الواقع الموضوعي الماحقة ليقدم "تركيبا" سرديا فريدا : ( كانت العاصمة تقبع تحت ظلٍ ثقيل لحرائق لم يُعرف مصدرها بعد، ولكنها تأتي من الجنوب ثقيلة مشحونة برائحة زيوت أجساد البشر ، فتغمر الغيوم متكدسة؛ جبال سود توهم أن القيامة ستحدث الآن. إلا أن الأكيد هو أن قيامة الأرواح في الجنوب قد قامت من أجسادها إلى سماوات الغياب ، تنظر من بعيد إلى الأجساد المتهشمة والمهروسة عظامها تحت سرف الدبابات الساحقة لمخابيء الجنود الرافضين العودة ، فدفنتهم أحياء تتشقق رئاتهم بخوف الموت ونفاد الهواء ، تجحظ مآقيهم فيطفر منها الدم بلا غوث وتمهد السبيل إلى قبور جماعية ممتزجة الأحشاء ، حتى أن بعض الجيولوجيين بعد زمن لابأس به من توقف الحرب وجدو المكان المدفون فيه آلاف الجنود أحياء تحت متاريس لم يتركوها ، فوطأتهم الدبابات مكركرة بعزف قرقعة رعبها ، بصوت جنازيرها الأجش غير آبهة بحمى الموت المستعرة تحتها – ص 221). وصف قاس لجريمة بشعة لا تصرح ذكرى بأطرافها بصورة فجة ، ففوق ان المجزرة معروفة الطرفين : الجلاد والضحية، إلّا أنها أوصلت القاريء إلى موقع يدرك فيه كل جهات الصراع حتى دون أن يكون بحاجة لأي تلميح بهوياتها . والأهم ، هو هذه الشدة في التعبير.. الضراوة في نقل الاحتدام الفاجع الساحق الذي يقطع روح المتلقي الذي سمع حتما أن آلافا من الجنود العراقيين قد تمسكوا بمواضعهم حتى الموت .. وأن الدبابات الأمريكية قد دفنتهم أحياء. ومن المؤكد أن هذه واقعة تسبق المخيال العادي. تعجز اللغة ببنائها التقليدي عن توصيفها .. يقول الكاتب الجيكي (جيري موريك) مصوّرا قصور اللغة في تجسيد وتشخيص الأبعاد الانفعالية المهولة لمفردة مثل (الحرب) :

( اشتعلت الحرب ، وهذا لا يعني شيئا خاصا ، لأننا جميعا نكتوي بنارها. ونعلم جيداً ماذا تعني كلمة (حرب). إنها تماما كلمة تتكون من ثلاثة حروف ، لكنها ليست الكلمة الجيدة للحرب نفسها ، لأنها كما يبدو لي كلمة رخوة جدا . إنها يجب أن تكون كلمة تدمّر ، وينبغي أن تؤذي. ينبغي أن يخرج من ثناياها دخان البارود ، ينبغي أن تجمّد الدم في العروق. ستبقى هذه الكلمة: (حرب) ، لاشيء إذا قورنت بالحقيقة ..).

ومن المعضلات الكأداء التي يواجهها الكتاب العراقيون بمختلف الأجناس التي يشتغلون عليها هي الكيفية التي يسوْقون بها اللغة كي تلاحق – لاهثةً - المتغيرات الجحيمية التي تعصف بواقع بلادهم. قلة من الكتاب العراقيين استطاعوا خلق "شكل" لغوي يجعلك تشعر بفداحة الواقعة التي كنت شاهدا على قساوتها المميتة . لم يدرك الكثيرون منهم المصائد الخطيرة التي يمكن أن توقعهم بها استعارة اللغة الشعرية إلى لغة القص . وقد كنت أخشى على "ذكرى" من الوقوع في الشراك نفسها وأهمها الإفراط في استخدام اللغة الشعرية ، وقد أفرطت في مواضع كثيرة لكنها لم تضيّع زمام القيادة اللغوية أبدا. على العكس من ذلك ، لقد قدّمت أشكالا تعبيرية فجّرت فيها إمكانيات المفردات الكامنة عبر وضعها في موضعها المناسب من الصورة الكلية. ولعل هذا الشاهد الذي سقناه عن دفن الجنود أحياء واحد من الأمثلة الساطعة على ذلك . لقد تحدّثت عن الرئات المُتشققة والمآقي الجاحظة للجنود المختنقين بتراب الملاجيء المسحوقة بسرف الدبابات ، لكن هذه صورة غير مؤذية .. لا تدمّر .. ولا يخرج من ثناياها دخان البارود .. ولا تجمّد الدم في العروق كما قال (جيري موريك) . هو تصوير سردي لا يجعل الواقع الموضوعي يلهث وراءه.. إن مقتل الأدب يكمن حين يحاكي الواقع .. الأدب العظيم هو الذي يلهث الواقع وراءه.. هو الذي يقطّع أنفاس ما اختزنته ذاكرتنا من شراسة المثكل مهما كانت فظة ودموية وبشعة ومرعبة. الحقيقة السردية يمكن ، ويجب ، أن تكون هي الأنموذج الذي يشعرنا بأن ثمة مِيْتة تحز الأنا بصورة يعجز عنها المثكل في رسم أية ميتة فعلية . وهذا يتحقق مرة أخرى من خلال التلاعب بسياقات وتسلسلات واقعة الموت الواقعية . تقول ذكرى :

( في ذلك المكان [ = مكان دفن الجنود أحياء] تحديدا ، استيقظت على نحو غريب نباتات صبيرية ليس لها شبيه قيل أنها تبث عطرا فوّاحا باعثا على البكاء ، وقد احتار الجيولوجيون من الندى الأحمر المتجمع فوق الأشواك الصحراوية ، وفسّره البعض ممن لا خيال لهم بأنه انعكاسات شمس المغيب على قطرات الماء ، إلا أن الصوت المنطلق في نواح حزين متناغم مع عطر دموع الصبير الدامي ظل لغزا بلا تفسير ، فيروح عطره يطوف في أرجاء المكان حتى الصباح . ونقل بعض الرعاة أن الحجارة تئن هي الأخرى وتنادي متفجعة بصوت هامس :

يمّه .. يـ .. مــّ .. ــه .. ص 221 ) .

إن النداء الأمومي العراقي ( يمّه ) هو من أشد النداءات المثكولة تاثيرا في النفس .. إنه – حتى صوتيا – يخرج من مكان لصيق بسويداء القلب الوحيد . وقد وظّفته الكاتبة في موقعه المحكم حيث ينطلق هذا النداء الفاجع من الحجارة في الصحراء المترامية حيث الأرواح الهائمة :

( لم تنفع كل التحليلات العلمية والمختبرية باكتشاف أسباب خليقة صبير الأنين . واعتاد الرعاة بعد ذلك على شهقات الأنين كل مَغِيب ، وقد ساد اعتقاد راسخ بينهم أن جوقة الأرواح التي فاضت في غروب حزين بقيت تعلّق أنفاسها ملتاعة لأحضان الأمهات – ص 222).

# درس من كازنتزاكي :

 يصف كازنتزاكي الصباح اللاحق لليلة مجزرة قام بها الأتراك ضد المسيحيين في كريت :

( سألتُ أمي : هل ذهبتِ إلى المجزرة ؟

وأخافها سؤالي ، فقالت : إهدأ يا بني . لا تذكر اسمها فقد تسمعك وترجع .

إنني أكتب الآن كلمة "مجزرة" ويقف لها شعر رأسي لأنني حين كنت طفلا لم تكن هذه الكلمة عبارة عن عدد من الأحرف الأبجدية المتجاورة ، بل كانت هديرا هائلا ، وأقداما ما ترفس أبوابا ، ووجوها كالحة تحمل السكاكين بين أسنانها ، ونساء يرتجفن في كل مكان من الجوار ، ورجالا يخشون الأسلحة وهم راكعون وراء الأبواب . بالنسبة لنا نحن الذين كنا أطفالا في "كريت" . في ذلك الحين هناك كلمات أخرى عديدة تمتزج أيضا بالدم والدموع ، كلمات صُلِب عليها شعب بأكمله : الحرية ، المسيح ، الثورة .

مصير الإنسان الذي يكتب مصير قسري وتعيس . وذلك عائد لطبيعة عمله التي تجبره على استخدام الكلمات . وهذا يعني أن يحوّل جيشانه الداخلي إلى سكون . فكل كلمة صَدفة صلبة تحتوي على قوة انفجارية عظيمة . ولكي تكتشف معناها يجب أن تدعها تنفجر في داخلك كقنبلة ، لكي تحرّر الروح التي تحتجزها .

مرة كان هناك حاخام يدلي بوصيته ويودّع زوجته وأطفاله بالدموع كلما ذهب إلى الكنيس ليصلي لأنه لم يكن يعرف ما إذا كان سيخرج من الصلاة حيّاً . وقد اعتاد أن يقول : حين ألفظ كلمة ما ، ولتكن : يا رب ، فإن هذه الكلمة تمزّق قلبي . يجمّدني الرعب ، فلا أعرف ما إذا كنت سأستطيع القفز إلى الكلمات التالية : "إرحمني". آه ، من يستطيع قراءة قصيدة بهذه الطريقة ، أو قراءة كلمة "مذبحة" أو حرف من اسم المرأة التي يحب – أو هذا (التقرير) الذي كتبه إنسان كافح طويلا في حياته ولم يستطع إنجاز إلا القليل ) ( كازنتزاكي "تقرير إلى غريكو" ) .