الرواية باعتبارها نسقا ثقافيا، رواية" سنوات قبل الفجر" لرشيد الجلولي أنموذجا

SFHDGJGDHJ940.jpg

تقديــم:

إن النقد الثقافي في أبسط مفهوماته ليس بحثا

أو تنقيبا في الثقافة إنما هو بحث في أنساقها

المضمرة، وفي مشكلاتها المركبة والمعقدة[1].

ولأن رواية رشيد الجلولي "سنوات قبل الفجر"

تعكس مجموعة من السياقات الثقافية والتاريخية

والاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والقيم الحضارية

التي تجعل النص نسقا ثقافيا، يضمر أكثر مما يفصح. فقد حاولنا مقاربتها انطلاقا من آليات النقد الثقافي، ذلك لأن النقد الثقافي بوابة لفتح النص. أعني الخطاب وفهمه بحيث يصبح الخطاب وسيلة لكشف أنماط معينة ملتصقة به ومتحاورة معه.

  1. قراءة في عنوان: "سنوات قبل الفجر"

يعد العنوان من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية، نظرا لكونه مدخلا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة والروائي بصفة خاصة، فالعنوان عتبة النص، وبدايته وإشارته الأولى، فهو في الحقيقة مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي بمعنى علامة فارغة ضمن علامات أوسع هي التي تشكل قوام العمل الفني باعتباره نظاما ونسقا يقتضي أن يعالج معالجة منهجية أساسها أن دلالة أية علامة مرتبطة ارتباطا بنائيا لا تراكميا بدلالات أخرى[2].

وعنوان رواية "سنوات قبل الفجر" يؤشر زمنيا على زمن أحداث الرواية التي هي سنوات قبل بزوغ فجر الحقيقة في ذهن "عيسى" بطل الرواية.

  1. السياقات الثقافية والإنسانية والاجتماعية والأخلاقية التي جعلت من رواية "سنوات قبل الفجر" نسقا ثقافيا.

تعتبر رواية سنوات قبل الفجر للروائي رشيد الجلولي امتدادا لرواية الروائي الأولى "الخوف" إن لم نقل الجزء الثاني لهذه الرواية بعنوان مختلف، فالروايتان معا تشاركتا في نفس التيمات والشخصيات والفضاءات والهموم والمعاناة والقضايا والرؤى.

فالشخصية "البطلة" عيسى الذي تحول إلى كلب في نهاية رواية الخوف هو نفس الشخصية المحورية في رواية سنوات قبل الفجر.

كما أن الفضاء الذي تجرى فيه أحداث الرواية الأولى "عين الجسر" "أبيدوم نوفوم" مدينة القصر الكبير بأحيائها[3] وهو نفس الفضاء في الرواية الثانية "سنوات قبل الفجر"، ومثلما تقاطعت الروايتان في الفضاء تقاطعتا في باقي المكونات ومنها الأساليب وطريقة البناء، كاعتماد تقنية الاسترجاع، والهذيان، والترميز، والإيحاء، والسخرية، والمفارقة، وهي أساليب تعكس على أن الحياة نفسها مفارقة وغامضة وتحتاج إلى تأويل. فالأساليب الماكرة والمحتالة والخادعة هي ما تجعل من النص خطابا يحتاج إلى جهد معرفي ونقدي للقبض على دلالاته الثاوية بين الحروف والبياضات والعبارات. لأنها تبطن ما لم يقله الكاتب صراحة، وقاله تلميحا وترميزا وإيحاء وسخرية. وهي التي تسمح بالانتقال من الجملة الصريحة والجملة الأدبية إلى الجملة الثقافية المتولدة عن الفعل النسقي في المضمر الدلالي للوظيفة النسقية في اللغة[4].

فمسخ عيسى وتحوله إلى كلب مع بداية الرواية، يحيلنا مباشرة إلى المسخ عند كافكا كاحتمال ممكن أن يمس الكينونة والكائن، وإلى التراث العربي القديم ونوادر الجاحظ.

فعيسى الذي يرمز للطهر والنبوة، يرى بأن الحياة فيها نوع من المسخ، مسخ لإنسانية الإنسان، بل أكثر من ذلك تدمير لهذه الإنسانية بالحط من قيمتها، وهذا ما عكسته عربدة وتسكع وضياع عيسى باحثا عن الله وعن الحقيقة، والعدالة الاجتماعية، انطلاقا من الوعي الذي تشكل لديه من خلال ثقافته وتجربته في الحياة، وتبنيه للإيديولوجيا الاشتراكية، وهي الإيديولوجيا التي ولدت بالضرورة إيديولوجيات معارضة لها خاصة إيديولوجية الدولة التي من وسائل فرضها العنف والقوة، وهي الإيديولوجية التي سوف تحوله إلى كلب، باعتباره حيوان له رمزيته وعلامته المفارقة.

فبقدر ما يحيل مفهوم الكلب إلى الوفاء بقدر ما يحيل إلى التهميش والاحتقار، فالوفاء يحيل إلى وفاء عيسه لرسالته ولأفكاره ورؤاه ولماضيه هذا الوفاء بالضرورة سيخلق له معاناة ومعارضين سيكون من نتائجه التهميش والعنف والتعذيب والسجن.

فعيسى سوف تتنازعه داخليا مواقفه وواقعه، والمحرك الأساسي لهذا الصراع هو الوعي الشقي باعتبار عيسى مثقفا عضويا يطمح للمكن ويرفض الكائن. يقول السارد: "لم تكن الليلة التي تحول فيها إلى كلب هي أول ليلة في حياته قضاها خارج البيت، فقد من قبل بالعديد من ليالي العربدة والتسكع في متاهة الظلمات على طول بلدة عين الجسر وعرضها"[5].

هذا الوعي سيدفعه إلى التمرد والثورة على كل أنواع الظلم والتسلط والقهر، بدءا بظلم والده وانتهاء بظلم الواقع له، الذي حاول أكثر من مرة التعايش معه لكن محاولاته انتهت دائما بالفشل ، وفي فشله غربة أخرى .وتشظ من نوع آخر. ويمكن تقسيم هذه الثورة عبر مسار أحداث الرواية إلى أشكال.

1)- ثورة بطل الرواية عيسى على الطرق التقليدية في التربية والعنف المصاحب لها:

مثل هذا العنف أبو عيسى السي عبد الله الرجل الفقير الذي يقتات على ماتجود به عليه الطبيعة هذا العنف الذي كان يمتد إلى أفراد الأسرة كلها بما فيهم الأم، وقد ترك هذا العنف جروحا على جسد وروح ، وذاكرة الطفل عيسى .حيث دفعه تارة إلى التمردن وتارة إلى التسليم وتارة أخرى إلى الهروب منه عبر العربدة والسكر ومحاولة النسيان "هاربا من حزام والده الجلدي، هاربا من عيني والدي الجاحظتين"[6].

2)- الثورة على القيم والعادات والجهل والتخلف:

وهي مرحلة تجسدها تحول عيسى من طفل فقير معنف من طرف والده السي عبد الله إلى زعيم للاحتجاجات والثورة، والعربدة والتسكع. ليجد نفسه في النهاية مترددا على السجون والزنازين السرية.

وسوف تعمل الرواية عبر السارد إلى تقسيم حياة البطل إلى مراحل زمنية، وأحداث واقعية مترابطة فيما بينها، ومتداخلة باعتماد تقنية الاسترجاع وأسلوب السخرية .وهذه المراحل يمكن ربطها في نفس الوقت بأنواع الثورات والتقلبات والمعاناة التي عاشها البطل ورسمت مسار حياته في علاقته بذاته وبالواقع وبالآخر، يقول السارد مبررا محاولة نسيان عيسى لواقعه وتمرده عليه "في الواقع كان يشرب ليكذب على نفسه ويداري أحاسيسه أنه دون الآخرين مكانة وقيمة"[7].

ولم يكن الخمر وحده وسيلة للنسيان وشكل من أشكال التمرد على القيم، والانتقام منها، ورد الاعتبار للذات المسلوبة والمقهورة ،وإنما كان هناك إضاف إلى ذلك العشق والحب حيث أحب عيسى ليلى بنت الجيران منذ الطفولة ، فليلى في الثقافة الشعرية العربية ترمز للحب العذري، وفي ذلك مفارقة أخرى . فعيسى البطل الذي يحمل رسالة الأنبياء، وثورتهم من أجل الفقراء، والعدالة هو عيسى نفسه الذي يعشق، ويسرق ،ويكذب ويمارس كل أنواع الرذائل وفي ذلك ثورة على نظم القيم العربية بأكملها، فعيسى من الداخل يعتبر نفسه ملعون ومطرود من رحمة الإله والناس. وأن النحس، والشؤم رفيق دربه، جعلا منه نبيا عاجزاعن حمل الرسالة وإصلاح الكون " يا عيسى أنت إذن رجل ملعون ... هكذا كان يصارح نفسه، أينما حللت يحل النحس والشؤم"8.

3)- الثورة على السلطة والساسة:

ينتقد عيسى من خلال وعيه كمثقف عضوي جشع وكذب الساسة ونفقهم وظلم الدولة واستبدادها مما دفعه إلى الاحتجاج والثورة خاصة في المرحلة الجامعية، وما بعدها.

حيث عانى من العطالة ومرارة الواقع .هذه المواجهة بينه وبين الواقع ،والسلطة كانت تنتهي به تارة إلى التشرد والضياع والعزلة وتارة أخرى إلى السجن بسبب الثورة على السلطة .وتقف الرواية طويلا على الفترات المظلمة التي ذاق فيها عيسى مرارة التعذيب في السجن وخلفت نذوبا وجروحا لا يمكن للزمن أو النسيان رتقها وعلاجها، يقول السارد واصفا هذه المعاناة: "دفعه الحارس أمامه، واضعا يده بين كتفيه في اتجاه غرفة يطلقون عليها مخدع العرسان، فيها يتم افتضاض بكرة الهمة والاباء لدى الوافدين الجدد "9،

ومعاناة عيسى تذكرنا بما قاساه رجب بطل رواية "شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف.

4)- الثورة على الرموز الثقافية والفكرية والسياسية التي آمن بها ودافع عنها:

بعد صراع مرير مع الذات والسلطة استسلم عيسى للواقع بعد أن قام بإحراق كل الكتب كشكل من أشكال الاحتجاج عليها وعلى الواقع محاولا رسم حياة أخرى، لكنه سرعان ما عاد إليها، وعاد إلى طبيعته ووعيه الشقي عندما رأى الطفل الفلسطيني يقتل بدم بارد على شاشة التلفاز مما حرك مشاعره ووعيه من جديد يقول السارد كاشفا عن الهزة العاطفية التي أثرت في نفسية عيسى: "وقد نجم في الحقيقة عن هزة عاطفية لا تطاق، سببها الطفل الذي شاهده على الشاشة يموت رصاصة رصاصة في حضن والده"10.

III- لغة رواية "سنوات قبل الفجر" وأسلوبها وعلاقتهما بخطاب الرواية:

إن الانتقال باللغة والحدث من مستوى واقعي إلى مستوى غرائبي "متخيل" هو انتقال من الكائن إلى الممكن، بانتقال أحداث الرواية بفضاءاتها وشخوصها من حدود العقل والتصور إلى "الغرائبي" بأحداثه وفضاءاته وشخوصه باستثمار الأسطوري "أسطورة الفنيق" و"المسخ" واعتماد تقنية المحاكاة الساخرة بقلب الحقائق، والأحداث والفضاءات والملفوظات، حيث يتم في ظلها إفراغ اللغة من حمولتها الدلالية المتداولة، وملئها بحمولة لغة اللامنطق واللامعقول، لغة الهذيان، ولغة الكوابيس والوهم والجنون وفي ذلك دلالة على عنف الواقع والآخر خاصة السلطة.

والرواية عبر السارد وعبر الشخصية الرئيسة عيسى تدين هذا العنف المزدوج عنف الواقع بمظاهره المختلفة، والمتخلفة "التهميش، الفقر، البطالة، التخلف، النظم التقليدية في التربية..." وعنف السلطة" البطالة السجن، التعذيب، الحرب..." وذلك بوعي عيسى كمثقف بالأسباب الخفية التي تؤدي إلى هذا العنف، وبرفضه وإدانته لها.

خاتمـــة:

تعكس رواية "سنوات قبل الفجر" نوع من الصراع الداخلي ما بين الكائن والممكن ما بين الواقع المرعب، والحلم أو الرغبة في تغيير هذا الواقع وهدمه وبنائه من جديد، واقع أفضل تسوده العدالة الاجتماعية والديموقراطية انطلاقا من القيم التي تشربها عيسى من الكتب وشكلت وعيه النقدي الثائر ورؤيته للذات وللآخر وللعالم.

1- النقد الثقافي، د. سمير خليل، ص 7 – ص 15، دار الجواهري الطبعة الأولى.الهوامش

2 - د. شعيب حليفي: النص الموازي للرواية – العدد 46، السنة 1992، ص 84-85

3- رواية "الخوف" رشيد الجلولي.

4- النقد الثقافي، د. سمير خليل، ص 31، دار الجواهري الطبعة الأولى.

5- سنوات قبل الفجر، "رشيد الجلولي"، ص 7، منشورات دار التوحيدي الطبعة الأولى: أبريل 2019.

6- نفس الروابة، ص 13

7- نفس الرواية، ص13

8- نفس الرواية ص17

9- نفس الرواية ص160

10- نفس الرواية ص318

وسوم: العدد 940