رثاء الأعلام في شعر خالد البيطار

xfgdsfghbhh941.jpg

خالد البيطار

فن الرثاء فن أصيل من فنون الشعر العربي، وقد برز فيه من القدماء الخنساء التي رثت أخاها صخرا، فقالت:

وان صخرا لتأتم الهداة به

وان صخرا اذا نشتو لنحار

حمال ألوية هباط أودية

شهاد أندية للجيش جرار

وبرز في شعر الرثاء أبو ذؤيب الهذلي الذي رثى أولاده الخمسة بقصيدة رائعة:

أمن المنون وريبها تتوجع 

والدهر ليس بمعتب من يجزع

واذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

ولقد برعت الفارعة بنت طريف من الخوارج في رثاء أخيها المحارب الشجاع الوليد بن طريف الذي قتله الحجاج،  فرثته أخته بقصيدة رائعة، فقالت:

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وأبدع الشاعر الأموي جرير في رثاء الزوجات، وكان من أوائل من ابتكروا هذا الفن، وكان البكاء على الزوجة الحبيبة من قبل يعد عارا وعيبا حيث قال:

لولا الحياء لهاجني استعبار

ولزرت قبرك، والحبيب يزار

صور في قصيدته أروع المشاعر، وأصبح بهذا العمل قدوة لغيره من الشعراء ...

وتمضي الأيام، وترتقي الشهيدة بنان الطنطاوي على أيدي الطغاة، فيبدع الشاعر الداعية عصام العطار في رثائها، وتصوير أخلاقها وصفاتها ومدى تعلقه بها:

رثاء رفيقة الدرب:

يقول الأستاذ المجاهد عصام العطار في رثاء الشهيدة بنان علي الطنطاوي رفيقه دربه في الجهاد :

بَنَانُ يا جَبْهَةَ الإسلامِ دَامِيَةً

ما زالَ جُرْحُكِ في قَلْبي نَزيفَ دَمٍ

بنانُ يا صُورَةَ الإخلاصِ رائِعَةً 

ويا مِثَالَ الفِدَى والنُّبْلِ والكَرَمِ

بنانُ يا مُقْلَةً للبِرِّ ساهِرَةً

لأَبْؤُسِ النّاسِ قدْ ناموا ولم تَنَمِ

بنانُ يا مُنْتَهى الإيثارِ ما شهد الْـ

إِيثارُ مِثْلَكِ في خَفْضٍ ولا عُدُمِ

تَبْكِينَ منْ رَحْمَةٍ بالخَلْقِ خالِصَةٍ 

وما بَكَيْتِ منَ الأَهْوالِ والوَصَمِ

وبعد أن صور الاخلاص والرحمة بالناس والشفقة على الأخرين مضى الشاعر المكلوم يقول:

بنانُ يا أُنْسَ أَيّامي التي انْصَرَمَتْ 

ولَيْسَ يومُكِ في قلبي بِمُنْصَرِمِ

ويا رفيقَةَ دَرْبي والدُّنا ظُلَمٌ

نَشُقُّ دَرْبَ الهُدَى في حالِكِ الظُّلَمِ

ويا ثَباتَ فُؤادي في زَلازِلِهِ

وبَلْسَمَ الجُرْحِ في نَفْسٍ وفي أَدَمِ

ويا وِقَائي إذا ما كُنْتُ في خَطَرٍ

ويا يَميني ويا سَيْفي ويا قَلَمي

يا واحَةَ الأَمْنِ في ظِلِّ الوَفاءِ ويا

نَبْعَ الحَنانِ وبَرْدَ السَّلْسَلِ الشَّبِمِ

يا بَهْجَةَ الحُبِّ يا نُعْماهُ في كَبِدي

وزَهْرَهُ الحُلْوَ في كُوخٍ وفي أُطُمِ

ويا جَنَاحِي إذا حَلَّقْتُ مُنْطَلِقاً 

يَسْمُو بنا العَزْمُ فَوْقَ النَّجْمٍ والسُّدُمِ

فَارَقْتِ في صُحْبَتي الأيَّامَ وادِعَةً

وآمِنَ العَيْش في رِفْهٍ وفي رَحِمِ

لقد فقد الشاعر الداعية بفقدها الرفيق والأنيس وقص جناحه، وعجز عن التحليق فوق سماء الواقع المرير وأصبح وحيدا في مواجهة أشرس الأعداء:

عِشْنا شَريدَيْنِ عَنْ أَهْلٍ وعن وطَنٍ

مَلاحِماً من صِراعِ النُّورِ والقَتَمِ

الشَّرْقُ والغَرْبُ إلْبٌ في خُصُومَتِنا

أَنَّى اتَّجَهْنَا وَرَأْيٌ غَيْرُ مُنْقَسِمِ

وأَعْبُدُ الشَّرْقِ مِنْ أَبْناءِ جِلْدَتِنا

كأَعْبُدِ الغَرْبِ في الكُفْرانِ والظُّلُمِ

نَلْقَى النَّوازِلَ تَنْهَدُّ الجبالُ لَها

شُمَّ الأُنوفِ بِعَزْمٍ غيرِ مُنْهَدِمِ

وقَصْدُنا اللهُ لمْ نُشْرِكْ بهِ أَحَداً

ونَهْجُنا الحقُّ لَمْ نَرْتَبْ ولَمْ نَرِمِ

أَلْوانُ حَرْبٍ تَقَلَّبْنَا بِجاحِمِها

ما بَيْنَ مُسْتَعْلِنٍ مِنْها ومُنْكَتِمِ

الْكَيْدُ يَرْصُدُنا في كَلِّ مُنْعَطَف

والمَوْتُ يَرْقُبُنا في كَلِّ مُقْتَحَمِ

والجُرْحُ في الصَّدْرِ مِنْ أَعْدائِنا نَفَدٌ

والجُرْحُ في الظَّهْرِ من صُدْقانِنا القُدُمِ

وُمُدْنَفُ الجِسْمِ في تَرْحَالِنا مِزَقٌ

على الطَّريقِ وأَلْوانٌ منَ السَّقَمِ

حتى سَقَطْتِ على دَرْبِ الجِهادِ

وقَدْ عَزَّ النَّصيرُ ، بلا شكْوى ولا نَدَمِ

صَرِيعَةً بِرَصاصِ الغَدْرِ ، خالِدَةً 

في مِسْمَعِ الدَّهْرِ ، تَرْتيلاً بكُلِّ فَمِ

وَبِتُّ وَحْدي على الدَّرْبِ العَتيدِ

وقدْ غابَ الرَّفيقُ، بجُرْحٍ غيرِ مُلْتَئِمِ

تَبَّ الجُنَاةُ لَقَدْ أَْصْمَوْا بِخِسَّتِهِمْ

قَلْبَ المُروءَةِ والأَخْلاقَ والذِّمَمِ

رحم الله الشهيدة بنان علي الطنطاوي، ولعن الله من قتلها...

وفي عصرنا الحاضر درج الشعراء الاسلاميون وغيرهم على هذه السنن ...فأبدعوا في رثاء الأمهات والأبناء والزوجات، ورثوا اخوانهم وأحبابهم، كما رثوا العلماء الأعلام الذين رحلوا، وقد تركوا أثرا جميلا في النفوس وفي الناس....

أمي:

توفيت أم الشاعر خالد البيطار بعد مرض ووهن، فكتب يقول في رثائها:

فقدت الصبر يوم فقدت أمي

ولم أملك دموعي وهي تهمي

رأيت بوجهها الراضي ضياء

ونورا للتقى والطهر يومي

أما كانت تقضي الليل ذكرا

وتسبيحا ولا ترضى بنوم

لقد كانت تلك الأم الصالحة توقظ أولادها لصلاة الفجر، وتحبب اليهم طريق الخير:

وتوقظنا لندرك بعض ما في

التهجد من فلاح دون غرم

ترغبنا لنسلك خير درب

ونهجر ما عداه بكل حزم

ويبدو الشاعر، وهو راض بقضاء الله وقدره وحكم الله على عباده بالموت:

وما أنا بالمغاضب حين أشكو

فحكم الله فينا خير حكم

ولكن نفثة جعلت فؤادي

يردد بعض ما يشجى ويدمي

واذا ماتت أم الرجل أحس بمرارة اليتم، ولو كان كبيرا، وناداه مناد: لقد ماتت التي كنا نكرمك من أجلها فاعمل صالحا نكرمك من أجله.

شهيد الظلال:

وعندما ارتقى الأستاذ سيد قطب شهيدا على أيدي الطغاة عام 1966م كتب الشاعر خالد البيطار يقول:

أدمعي فاضت بعيني عندما

قيل لي استشهد ذاك البطل

أدمعي فاضت ولكن وقفت

في المأقي بثبات تسأل

لم لا نفرح بالمستشهد

فهو يدعو الى الفرح بالشهداء، وليس الى الحزن عليهم؛ لأنهم يرتعون في حواصل طير خضر في جنان الخلد...

يا الهي أنت أدرى بالألى

هيأوا السفن، فغاب القائد

أنت أدرى بالأولى حثوا الخطا

ومشوا صبحا فمات الرائد

من لهم في السير ان لم تجد ؟

فهو يتمنى أن يعوض الأمة خيرا ، ويصور الشاعر أحواله وأحزانه بعد رحيل الامام الشهيد سيد قطب:

غير أن الخطب قد أرهقني    وانتظار الصبح قد أرقني

انني ألمح فجرا مشرقا        لكن النفس غدت تسألني

من لهذا الفكر بعد السيد ؟

فمن المؤكد ان الله سوف يهيئ لهذه الأمة قائدا ربانيا يجري على يديه النصر المؤزر.

يا أبا حسان:

وعندما توفي الشيخ المجاهد مصطفى السباعي مؤسس الحركة الاسلامية في سورية رثاه خالد البيطار بقصيدة حزينة، فقال:

حزن القلب عليه وبكاه

وجثا بين بين شرود وانتباه

كلما فكر كيف انطفأت

هذه الشعلة خانته قواه

وانحنى يبكيه دمعا شابه

دفقات ساخنات من دماه

وصور خالد البيطار عظمة المصيبة التي نزلت برحيل القائد المجاهد:

ايه يا دنيا لقد ودعت من

باع دنياه لكي يرضي الاله

قدم الروح اليه ومشى

لا يهاب الموت لا يبغي النجاة

كلما أبصر دربا للهدى

حمل المشعل واحتث خطاه

ليرى الركب الذي تاق الى

منبع النور وميضا من ضياه

لقد رحل الشيخ الامام مصطفى السباعي قبل أن يعم الضياء أرجاء العالم :

يا أبا حسان قد فارقتنا

وضياء الحق لم يبد سناه

يا أبا حسان قد ودعتنا

والظلام المر طاغ في مداه

يا أبا حسان من ينقذنا

من تراه ان دجا الليل محاه

لقد كان - رحمه الله- جبلا من الجبال المحصنة المنيعة، وكان لا يفتر في احياء الأمل، وبعث الهمم، وغرس الهدى في النفوس:

أيها الرابض في تربته

كنت كالطود منيعا جانباه

كنت لا تفتر عن بعث المنى

في قلوب خمدت فيها رؤاه

كنت لا تفتر عن غرس الهدى

في قلوب لم يطوقها حلاه

ولقد كان السباعي -رحمه الله- أمة وحده يمثل جيلا من الجهاد والثبات والمفاخر:

كنت جيلا ثائرا عن ثقة

ان للحق وان نام الحماة

وثبة تخرس أفواه الألى

تبعوا الباطل وارتادوا حماه

وثبة ترجع للكون الهدى

وتعيد النور في كل رباه

يافارسا:

توفي الشيخ المجاهد أبو النصر البيانوني - رحمه الله- عام 1987م، وكان مشهورا بالصدق والأريحية والغيرة على دينه والنشاط في سبيل نشره ونصره، وقد تأثر الشاعر خالد البيطار بوفاته، فكتب يقول:

يافارسا ما كنت أحسب أنه

يكبو ويترك ساحة الميدان

ياشعلة ما كنت أحسب أنها

تخبو ونحن من الظلام نعاني

لكنها الأقدار أقدار الفتى

تأتي بلا ريث ولا استئذان

ولقد صحبه الشاعر زمنا طويلا، فما وجد فيه الا الصدق والأمانة والتواضع والأخلاق الفاضلة:

صاحبته زمنا فما ألفيته

الا الأمين المخلص المتفاني

وجميع من عرفوه كان جوابهم

نعم الأخ المتواضع الرباني

عرف الطريق فسار فيه مشمرا

ودعا الى الاسلام دون توان

ويعلن الشاعر حزنه لأنه حين مات البيانوني كان بعيدا عنه لذا لم يراه، ولم يلق عليه نظرة الوداع:

لم أبكه يوم الفراق لأنني

شاهدته قد نام باطمئنان

والبشر يعلو وجهه وكأنه

يرنو الى حلم جميل هاني

لكنني لما انفردت وجدتني

أبكي ولا أدري الذي أبكاني

ورغم رحيل الشيخ المجاهد الا أن منزلته ما تزال تعمر القلوب:

يا فارسا لك في فؤادي موطن

لا زلت تسكنه على اطمئنان

وندي صوتك لا يزال كأنه

رطب يصب اللحن في أذاني

قد غبت لكن لم تفارق خافقي

أبدا ولم تذهب من الوجدان

رحل الشيخ:

وعندما رحل شيخ حمص (محمود جنيد) في عام 1993م رثاه الشاعر بقصيدة باكية يقول في مطلعها:

رحل الشيخ بعد صبر طويل

طاهر القلب طاهر الأثواب

واستراح الجسم النحيل وكم

كان حمولا للهم والأوصاب

كم زهت حوله الحياة لتغريه

فلم ينخدع بلمع سراب

ولكن ضاقت الحياة فما ضاق

ولا حاد عن طريق الصواب

ولقد عاش عمره مستقيما

فجزاه المولى جزيل الثواب

وصور الشاعر خالد البيطار أحوال حمص بعد رحيل الشيخ محمود جنيد الذي كان الأب الروحي لأهل المدينة:

هذه حمص بعد موتك صارت

كيتيم ملقى بأرض يباب

ماله والد يعود اليه

أو مثيل له من الأتراب

هذه حمص قد عراها اكتئاب

وهي تبكي في حرقة وانتحاب

خرجت تحمل الفقيد وتمضي

خلف جثمانه بحشد مهاب

رفعته فوق الأكف احتراما

ووفاء لشيخها الأواب

فقدت عند فقده الحلم والعلم

وزين العباد في المحراب

فقدت زاهدا عفيفا حييا

عالما عاملا بما في الكتاب

ويمضي الشاعر في تعداد صفات الراحل الكريم، ويختم القصيدة بالدعاء له بالجنة:

أنت حي في كل قلب وان غبت

وواروك في ثنايا التراب

كنت بدرا تنير درب الحيارى

عندما ترتئيه دون ارتياب

ان رب العباد زادك فضلا

بالتقى والنهى وفصل الخطاب

لك أرجو أعلى الجنان مقاما

عند رب العباد يوم المأب

يا هذه الدنيا:

وعندما توفي صديقه عبد الكريم العطار ( أبو علي) عام 1999م ذرف عليه الدموع بصمت، فقال:

العين فاضت بالدموع أبا علي

وتضرجت أعليك تبكي أم علي ؟

بالامس كنا في الحديث عن الحياة

وما تخبئه الحياة لكل حي

عن حلوها عن مرها عما يدور

بساحها المأهول من رشد وغي

واليوم واراك التراب فأكمل

القبر الحديث ونحن لم ننطق بشي

ماذا أقول:

وكان خالد البيطار صديقا عزيزا للشاعر محمد الحسناوي عمل معه عدة سنوات، فلما مات بكاه أحر البكاء:

ماذا أقول وقلبي كاد ينفطر

مما ألم به اذا جاءه الخبر

الموت حق ولكنا نضيق به

أليس فيه الفراق المر والكدر

حاولت اخفاء دمعي مظهرا جلدا

فما استطعت وصار الدمع ينهمر

وأشاد الشاعر بجهود الأخ الراحل، فقال:

أخي الحبيب أبا محمود كم سهرت

عيناك كم كتبت يمناك تبتكر

وكم شهرت سلاحا أنت تتقنه

فارتد لما رأه الكاذب الأشر

ورب قول له في الحرب موقعه

يصيب مالا يصيب القوس والوتر

لقد كان رحيله خسارة كبرى لدعوة الاسلام في بلاد الشام:

أخي الحبيب أبا محمود يا قمرا

أضاء والليل مسود ومعتكر

أخي الحبيب أبا محمود يا بطلا

أمام خصم غدا بالزيف يستتر

أخي الحبيب أبا محمود يا أملا

قد كان يحفزنا اذ يحدق الخطر

اليوم غبت فلا الأحلام تسعفنا

ولا الأماني كذا الأمال تنحسر

وهكذا نرى الشاعر خالد البيطار قد رثى العلماء والدعاة والأدباء والشعراء، وكان متألق المشاعر متوهج العواطف، وجاءت ألفاظه فصيحة سهلة واضحة وكان بعضها قوية جزلة تملأ الفم وتقرع الأذن وأما الجمل والتراكيب فهي متينة متماسكة ...

ولقد نوع الشاعر في الأساليب، فجاء أسلوبه جامعا بين الخبر والانشاء ..

وكان محلقا في الخيال متفائلا في أغلب الأحيان ويصور الواقع بريشة الفنان وأغلب صوره الفنية تقليدية وقليل منها المبتكر ...ولقد حافظ على وحدة البيت ووحدة الوزن والقافية....

فجاء شعره متكامل الأدوات الفنية واني لأرجو طلبة الدراسات العليا أن يفردوه بالبحث والدراسة فهو جدير بأن تعرف الأجيال ابداعه ...كما أني أرجو ورثة الشاعر أن يسهموا في طبع الأعمال النثرية والشعرية الكاملة لتسهل دراستها لدى الباحثين .....

وسلام على شاعرنا الداعية في الخالدين.

مصادر البحث:

1- معجم البابطين لتراجم الشعراء المعاصرين.

2- ديوان ياربيع الحياة.

3- ديوان لم يزل لي أمل.

4- ديوان أشواق وأحلام.

5- ديوان أجل سيأتي الربيع.

وسوم: العدد 942