"مفلح العدوان" يحلق عاليا على جناحي طائر الفينيق ليحط في "فلسطين"

fdddghds952.jpg

لم يختر الأديب الأردني مفلح العدوان طائر الفينيق الأسطوري؛ ليصاحبه في رحلته إلى فلسطين من فراغ، فقد كانت زيارته لفلسطين حلما لم يتحقق بسهولة، رفض الكيان الصهيوني طلبه ثلاث مرات قبل حصوله على تصريح الدخول إلى وطنه الثاني فلسطين.

طائر الفينيق الذي اشتهر بأنه يخرج من رماد الحريق، ما هو سوى رمز للتحدي والصمود والتجدد والاندفاع نحو مستقبل أفضل.

هذا الطائر الأسطوري الذي سكن الوجدان، بقي رفيقا مخلصا للإنسان، يستمد منه القوة، يرافقه في رحلة الحياة الصعبة، ليمضي صامدا مبادرا لا يستكين. فهو الطائر الذي يغالب الموت ويخرج حيّا من الرماد.

في كتابه " سماء الفينيق ( رحلتي إلى فلسطين) الذي صدرت طبعته الأولى عام 2017 عن وزارة الثقافة الفلسطينية، ويقع في 126 صفحة من القطع المتوسط، وصف رحلته القصيرة إلى وطنه الثاني فلسطبن.

 أراد العدوان أن يعرف كل ما يستطيع عن هذا الوطن المسلوب. لم يرتب أيّ برنامج مسبق خلال خمسة الأيّام المعدودة التي قضاها، مأخوذا بعبق تاريخ فلسطين، انتابته حالة من الدّهشة، عكست هذا العشق الذي يسكن الضّلوع.

وعلى الرغم من أن كتابه يُصنف ضمن أدب الرّحلات، إلا أنّها لم تكن كأيّ رحلة عابرة، ولم يكن أيّ كتاب، كان فيض بالحنين، دمج بين الماضي والحاضر في سرد جميل مفصّل جمع بين جمال المكان وامتنانه وتقديره للانسان، اختلطت فيه الذّاكرة بكل ما تحوي ألم وأمل مغموس بالجمال والأصالة، مدموجا بمشاهدات الأديب الحيّة، فخرجت لوحة دامعة ناطقة تستجدي الإنسانية.

أنسن خلالها أعدل قضية في التّاريخ، قضية فلسطين التي تتنقّل في أروقة الأمم المتحدة، تدور في حلقة مفرغة تائهة وسط "اللاءات" التي تزيد من حجم الظّلم على شعب أصيل، يصرّ على العيش بكرامة في وطن حرّ.

تسلّلت بين السّطور حالة الدّهشة التي انتابته تعلن عن نفسها بوضوح، خاصّة بعد أن عبر الجسر الذي يصل بين الضّفتين الشّرقية والغربيّة، وهي بمثابة الرئتين للأديب، فهل يكفيه أن يعيش برئة واحدة؟

عبر الجسر منتشيا بمحبة الأصدقاء الذين استقبلوه استقبال الأحبة فور وصوله، ولم ينكّد عليه سوى الذّباب الذي كان أشبه بالاحتلال، فقد فرض نفسه عنوة، ليزيد من حجم الضّيق والمعاناة.

وجبة ثقافيّة دسمة، وثّقت التاريخ، وربطته بالحاضر، زيّنها الأديب بالأغاني والقصائد التي عكست حبّا يسكن الضلوع بين الشعبين الفلسطيني والأردني، اللذين لا يعترفان بحدود، ولا يريان الجسر إلا واصلا لا فاصلا.

كانت تتقمص الكاتب روح هذا الطائر السّحري، فيسأل عن سرّ عشقه الحقيقي لتلك البلاد وأهلها.

ذكر الأصدقاء والمعارف من المثقفين والكتاب والفنانين الفلسطينيين اسما اسما. فهو يشعر بالامتنان على حفاوة الاستقبال. هي كلمة شكرا، على الجولات التي اصطحبوه فيها لعدة مدن فلسطينية عريقة، تعرّف خلالها على تاريخ كلّ منها، وما تتميز بها من معالم أثرية ودينية، وأكلات شعبية...الخ، وذكر أسماء العائلات المؤسّسة لبعض المدن، وكان للشجر قصص، وللممرات ذاكرة، وللمساحات الخضراء موسيقى مغلفة بالشّجن.

ذكر المراكز والمؤسسات الثقافية ومؤسّسيها بتفاصيل وافية أغنت الكتاب.

تنقّل صاحبنا من أريحا إلى رام الله إلى نابلس ثم بيت لحم والخليل وما يحيطها من أماكن تتحدّث عن نفسها، تستحق الوقوف عندها، والكتابة عنها.

كان طائر الفينيق يبتعد عنه في بعض الأماكن التي كان يشعر فيها أن صاحبه بأمان، بينما كان يظهر من جديد في الأماكن التي كان يحتاج رفيقه إلى دعم ومساندة، فيشحنه بروح العزم والإصرار من جديد. رافقه عند عبور جسر الأردن الذي يصل بين الضفتين، كما رافقه أيضا عند حاجز قلنديا العسكري، الذي حرمه من دخول القدس. فقررا سويا أن يزوراها افتراضيا. فكتب عنها عدوان أجمل الكلام. كانت لفتة جميلة يقدّرها كل مقدسيّ، لما حملت كلماته من حسّ إنسانيّ يفوق الوصف.  

حان وقت الإياب، مضت الأيام الخمسة مرورا سريعا، ودّع البلاد، وكان طائر الفينيق يرفرف بجناحيه وهو في طريقه إلى عمّان وكأنه يقول: لك عودة.

مرّ بأشجار الزيتون، ففهم ما قصده الفلسطينيون ممن هم خارج البلاد عندما كانوا يقولون بحميمية عالية: هذا من زيت البلاد، وهذا من زيتون البلاد.

تجاوز الجسر وفي الشونة الجنوبية، استقل سيارة إلى عمان، وهناك رأى طائر الفينيق وقد صار جناحاه نجمتين، واحدة تومض فوق عمان، تقابلها أخرى تتلألأ في فضاء القدس، ومن ثم بدأ يكتب "سماء الفينيق: الأردن.. فلسطين".

"سماء الفينيق" كتاب غنيّ ممتع.. يؤجّج مشاعر الوطنية عند كل عربيّ حرّ.. ويوثق التّاريخ الأصيل، في ظل محاولات الاحتلال الجادة في تزوير التاريخ، بصورة تخدم أهدافه الاحتلالية، فيحلّل نهب البلاد وخيراتها، ومن ثم يقنع العالم بشرعية ما يقدم عليه من موبقات.

وسوم: العدد 952