قراءة في رواية مشانق العتمة للروائي يسري الغول

 xfndghhfhj952.jpg

أنهيت بالأمس قراءة رواية مشانق العتمة للكاتب الروائي يسري الغول والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، وتقع الرواية في 222 صفحة من الحجم المتوسط، كما قامت برسم وتصميم الغلاف الفنانة رشا حلاب. وقد جاءت لوحة الغلاف معبرة عن واقعة الغرق في اليم الذي انتهت إليه الرواية في تشابك أحداثها. ورغم أنني لست ناقدا لأن عالم النقد له علمه ومناهجه وأدواته، لكن كوني كاتبا أدبيا ذهبت نحو تسليط الضوء على بعض الجوانب الهامة في هذه الرواية، والتي شكلت غوصا وتشريحا للواقع الفلسطيني والعربي. فالبعد المكاني تقاطع في أمكنة أربعة تقريبا هي فلسطين وسوريا والمملكة وتركيا وانتهت مأساة الرواية قرب شاطئ الحلم في اليونان.

أما البعد الزماني؛ فرغم عدم تسلسله في الرواية إلا أنه يطرح الواقع الزماني في غزة بعد انقلاب حركة حماس في غزة عام 2007م، وسيطرتها على قطاع غزة كحكم واقع. وأيضا تمتد زمنيا إلى سوريا بعد قيام الثورة في 2011. ورغم أن الكاتب يقر بعدم تسلسله الأحداث زمنيا، وقيامه أحيانا بحالات رجوع إلى الخلف زمنيا بفتح حقائب سرد الذاكرة، لكنه حافظ على تشابك الأحداث زمنيا وتقاطعا وصولا إلى لحظة الصعود الأخير إلى القارب، والانتظار في قارب تتلاطم به الأمواج على ضفاف الحلم، وضجيج الأمل، وصخب الأمنيات بالوصول سالمين وهو ما لم يحدث.

الرواية تنتمي إلى الأدب الواقعي. فهي تنطلق من غزة وسوريا لتحلق في فضاء حياة معاشة لشخوص الرواية. ولذلك لم يكثر في الرواية الرمزية كما عهدناها في كتابات الكاتب، بل نقل دقيق وتفصيلي بشكل مباشر وغير مباشر لواقع معاش من قبل أشخاص عاديين كباقي أفراد المجتمع لا يتمتعون بمزايا خارقه بل أشخاص نراهم على ضفاف الغرق أو النجاة يوميا.

لقد طرق يسري الغول جدران الخزان في موضوع الهجرة الذي أصبح يسيطر على تفكير الشباب العربي، ويغوص الكاتب في أسباب ذلك من إحباط فكري ونفسي، وواقع اقتصادي وأمني قاتم. وملاحقة من أنظمة أمن محلية وعربية. هي حالة من فقدان الثقة في إصلاح الواقع القائم فكريا وسياسيا فيتجلى الحل في الوعي الفردي بضرورة الهجرة بعد اليأس في التأقلم فكريا وأمنيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا مع الواقع المعاش.

شخوص الرواية ليسوا أقارب أو تتقاطعهم صلات اجتماعية كما في  بناء الرواية التقليدية، شخوص متناثرين اجتماعيا ولكن جمعهم معاناة الواقع وطحن الظروف الأمنية والسياسية والانغلاق الفكري والصراع السياسي. جمعهم حلم واحد أمنية واحدة قارب واحد. تركوا واقعهم وامتطوا صهوة لحظة الخلاص، بحثا عن الجنة الموعودة. حالة تتكرر كل ساعة وكل يوم على ضفاف شواطئ البحر المتوسط بلا استثناء، حالة عناق مستمر بين واقع صعب، وحلم صعب، وبين الواقع والحلم يتربص الموت بالضحية مع هامش ضئيل من الأمل يبقى حالة الاستمرارية مفتوحة بلا نهاية تقترب في الأفق.

عالج يسري الانغلاق الفكري والسياسي في غزة، وأعطى صورة قاتمة لنهاية كل من يؤمن بالتعايش والتسامح والانفتاح على الآخر من خلال شخصية ابن رشد، في رمزية تكاد تكون الوحيدة في الرواية، كي يطل على فكر الاختلاف وما هو مآله ونهايته، ولذلك اختار يسري رمزية اللقب كي يبرز جوانب واقعية قائمة في احتكار الحقيقة وعدم تقبل الرأي والرأي الأخر، والتعصب الحزبي والانغلاق الفكري وما ينتج عنه من واقع مرير. ويصل بنا الكاتب إلى نهاية تشائمية لمن يتسامح ولمن يغرد خارج سرب الانغلاق داخل التنظيم.

    في نهاية الأحداث أوصلنا يسري إلى نظرية المشيئة الإلهية في عقاب من يفسد في الدنيا ويستبيح القتل وسفك الدماء وهتك الأعراض، يجعله حيا يذوق عذاب فقد زوجته وحبيبته وفقد ابنه الوحيد، وهو عقاب دنيوي رغم أنه قد فقد إنسانيته وضميره، فهل سيشعر بالعذاب والقهر على فقده فلذة كبده أم سيستمر في حالة ضياع وتيه بربري.

   أبقى يسري على فسحة النجاة مفتوحة من خلال نجاة هاجر، وما تم من انتشالها من خفر السواحل، وكأنه يوحي باستمرارية ظاهرة التضاد بين الموت والحياة. فكما هناك موت هناك حياة.

أبدع الكاتب عندما جعل إمكانية الخلاص الفردي إمكانية واردة ولكن استحالة الخلاص الجمعي. فالخلاص الجمعي لا يكون إلا بالصمود في الأوطان والعمل على تغيير الواقع. والنضال من أجل إنسانية الإنسان وكرامته. فجاء الغرق للغالبية المطلقة، لأن النجاة للجميع في القارب هي إعطاء الفرصة للعقل الجمعي للهرب خارج الوطن. وهذا يعني انهزام شعب وقضية ووطن. قد يحدث خلاص فردي هنا وهناك ولكن الخلاص الجمعي لا يكون بالهرب خارج الأوطان.

  قد لا يكون يسري الأول الذي طرق موضوع الواقع المعاش ومحاولات الهروب والهجرة، حيث تم تناول ذلك في روايات ومجموعات قصصية كثيرة، ولكن يحسب ليسري أنه حلق في أكثر من مكان أبرز فيها معاناة الإنسان الفلسطيني والعربي، وشرح الواقع الاجتماعي والاقتصادي والأمني، بل النفسي والفكري أيضا في تشابك رائع نجح في جذب القارئ وتشويقه حتى المشهد الأخير من الرواية.

    لقد أعطى يسرى فضاءات عدة حول كتابات آخرين، مثل عبد الرحمن منيف وإبراهيم نصر الله، كما أنه دغدغ عواطف القارئ بأغنية أصبحت تائهة في غياهب الذاكرة وهي أغنية سيد مكاوي "الأرض تتكلم عربي"، فهي لم تعد تتكلم سوى معاناة البشر والحط من كرامتهم. هي محاولة استرجاع لذاكرة جميله، في واقع صعب.

   وأخيرا لقد دافع يسري عن المظلوم في مواجهة الظالم، دافع عن الضحية في وجه الجلاد. دافع عن الإنسان في مواجهة البربرية. هي محاولة تشخيص الواقع بحثا عن الخلاص الفردي والجمعي في سردية رائعة.

وسوم: العدد 952