رسالة الشعر: نبوة الخراب

وفتنة الإقامة في الأنقاض

بن العربي غرابي، ميسور المملكة المغربية

إلى: سكينة تلميذتي التي تحب الشعر و لكنها

لا تطمئن إلى الشعراء الذين برأيها

لا حقائب لديهم يملأونها بالحلوى والفطائر

وأقراص البينيسيلين.

كل اتجاه معرفي وأي نشاط فكري يستطيع بكل وضوح أن يعلن عن مادته ومنهجه: فالفلسفة تشتغل بالمنطق وإمكانات الاستدلال والبرهان للبحث في قضايا الفيزيقا والميتافيزيقا للإجابة عن الأسئلة التي تؤرق العقل الجمعي ويقف عاجزا حيالها، والعلم النظري يستثمر العقل والتجربة لإيجاد حلول لأسرار الكون المستغلقة، ثم تتلقف العلوم التطبيقية كشوفات العقل النظري لإنتاج الوسائل المادية والتقنية لتسهيل حياة الإنسان والاستعانة بخدماتها لسبر أغوار الكون ومجاهله، وعلم التاريخ يقلب الوثائق التاريخية والأخبار لأخذ العبرة من الماضي واجتنابها في الحاضر والآتي، وكذلك البيولوجيا تدرس الحياة البشرية والحيوانية قصد الاستفادة منها في إسعاد الإنسان وتخفيف الآلام بالقضاء على الأمراض وابتكار الأدوية الناجعة، وكذلك الجيولوجيا وعلم النفس والسوسيولوجيا والنحو والبلاغة وعلم الأخلاق والجغرافيا والفيزياء و...

 ولكن الشاعر لا يستطيع أن يعلن جهارا عن مشروعه فيقول كغيره من العاملين في الفكر: إن رسالتي أن أنشر في المجتمع القيم التالية وأن أغير كذا وكذا وأضيف وأنقص ، ولا يستطيع أن يقنع الناس أبدا بصلاحية أفكاره ونجاعتها. فكلما أراد الإنسان امتلاك معرفة فتح كتابا في الفلسفة أو العلم، وإذا أراد أن يستمتع استمع إلى الموسيقى وديونيزوس الجسد، وإذا أراد أن يعرف الخير لاجتناب الشر قرأ كتابا في الأخلاق أو الدين، وإذا أراد التعمق في أسرار اللغة التجأ إلى القواميس وعلوم النحو والاشتقاق...وهنا بلسان القارئ العادي الذي لا يؤمن سوى بنفعية العلوم والأشياء أطرح السؤال التالي: ماذا أستفيد من قراءة الشعر وماذا أفيد الناس بكتابته؟

 إن مجتمعنا العربي المتخلف في كل أنماط التفكير وضروب التقنية والأخلاق والسلوك في أمس الحاجة إلى الفيلسوف والعالم والطبيب والإحصائي والإعلامي والصحافي والمحلل الاستراتيجي والضابط العسكري والسياسي المحترف، لكن ماذا يستفيد من الشاعر؟ كيف يسهم الشاعر في حل مشاكل الجماعة التي يتواجد فيها؟ أو كيف يشارك في تجاوز أو تخفيف ركام التخلف الذي يتوغلنا بشكل لولبي لا تخطئه العين الرمداء؟ إن عالمنا العربي لا يستوفي بحال من الأحوال حاجياته من الخبرات الحية التي من شأنها النهوض بالأمة من علماء وباحثين و مفكرين، ولكن الشعراء يتكاثرون كالفطر في خمائل الجرائد والمجلات والأكشاك يرتعون فيها بالمجان ودون حاجة إلى وجودهم وحضورهم ودون أن يستدعيهم الواقع العربي الذي لن يندم أبدا لو زموا رواحلهم وغادروا المكان بروح رياضية، ينتجون كلاما لا يقدم ولا يؤخر ولا نفع ولا طائل من ورائه، وعوض أن يتواصلوا مع الناس بكلام يفهمونه ليتحاور الجميع في القضايا التي تؤرقهم، تراهم يتعالون ويتخفون ويتشحون بكلام غامض أقرب إلى الطلاسم السحرية لا يفهم تأويله إلا هو، وقد يدعي في لحظات نبوة كاذبة أن شعره لارتفاع قامته الإبداعية فوق التأويل، وأن الاقتراب منه للتناول النقدي هو مجازفة غير مضمونة العواقب...

هكذا يقول القارئ العادي الذي لا يؤمن سوى بنفعية القول والفعل.

 ثم يأتي النقد الحداثي في أبرز اتجاهاته وممثليه ليفرغ الشعر من كل مضمون نفعي وفاعلية وتأثير وإيجابية حين يقولون إن الشعر الحقيقي هو الذي يتعالى عن السياسي واليومي والعابر ويتحاشى الخوض في القضايا التي تتنفسها العامة وتشغل يومهم، فذلك من شأنه أن ينحدر بالشاعر إلى دركة المؤرخ أو رجل السياسة كأن الشاعر أشرف وأنظف من ذينك المذكورين ولا ينبغي مقارنته بهما، وهكذا يحتفي النقد الحداثي في غالبيته بالغموض والالتواء، فالشعر( لغة إيحاءات، على النقيض من العلم التي هي لغة تحديدات )* وباعتبار شاعر الحداثة ( صار أمام نهر معرفي متدفق متعدد المنابع متلون الروافد يختلط فيه العلمي والخرافي والتاريخي والأسطوري والديني والفلسفي وكل ألوان معارف العصر)**. والاحتفاء بالغموض قاد بالضرورة إلى فتح آفاق التأويل والتفكيك على مصاريعها، حيث برأي الدكتور عبد العزيز حمودة ( وصل الناقد التفكيكي بفكره إلى ذروة العدمية والاغتراب والغموض ) ***.

 هكذا يشعر القارئ العادي ويفكر ولكن لا تطاوعه آلياته المعرفية على التعبير والنقد. وما تذمُّرُه وقلقه آتيان من فقدان ذائقته الشعرية ونصيبه من حاسة الجمال، ولكن السبب الحقيقي كامن في كون الشعر اليوم لم يعد كما كان في لحظات تاريخية معينة يوفر الجمال للجميع دون استثناء ولو بدرجات متفاوتة...

 لو أطعنا القارئ العادي وسايرناه في تفكيره ما بقي للشعر وجود ولتمَّ هندسة أكبر مقبرة على الأرض يسكنها الشعراء فقط دون غيرهم، بغير ذنب سوى أنهم يقولون كلاما غير مفهوم لا تستطيع العامة استساغته وهضمه يختلف عن لغة التواصل اليومية المتداولة التي تجود بالمعنى والمقصدية دون إعنات، والغريب أن هذا الكلام الغامض بشهادة الكثير من القراء غير المتخصصين يحمل في طياته وآهاته الكثير من الخدَر الفاتن والجمال المكنون اللذين تفتقر إليهما لغات ولهجات التواصل الوظيفي اليومي، هذا الجمال الدفين الغائر هو الذي جعل الشاعر إنسانا يختلف عن غيره فنعته البعض بالكاذب مناوأة والفنان والعالم ممالأة والساحر مناوأة وممالأة معا.

 لقد وقف النقد طويلا أمام غواية الكلام الشعري وانفلاته وحَرَنه عاجزا عن القبض عليها في لغة إجرائية صريحة، فسماها انزياحا وسحرا وإلهاما وفتنة وتوترا وفجوة ومجازا وتخييلا واستعارة وانفعالا و...لذلك عجز الكثير من النقاد الأشاوس عن الإحاطة كليا بالرؤيا الشعرية تاركين القصيدة كتابا مفتوحا للقارئ يشارك بتأويلاته وانطباعاته.

 أيها القارئ العادي: أنا معك في الخسارة التي تلقيتها من تعالي الكلمة الشعرية وتمنعها، ولكن آن الأوان لنفهم أنه لا ينبغي أن ننتظر من الشاعر فعلا ثوريا في الواقع أو تأثيرا نفعيا مباشرا ملموسا، فتلك مهام من اختصاص طاقات مجتمعية أخرى تطوّع إمكانات اللغة والعقل للأداء البراغماتي الذرائعي، بل تجنبا لمزيد من الإحساس بالخسارة وجب علينا أن نقتنع بما يلي: كلما تناءى الشاعر عن الخوض في السياسي والعابر واليومي امتلك وقتا كافيا لتفجير طاقات اللغة ودفائن المعاجم الراكدة والمحنطة، وكلما استنكف الشاعر أن يلغ من المضامين العامة المتداولة استطاع الغوص أعمق في مجاهل النفس والآخر وأسرار الأشياء وكيميائها.ينبغي أن نكون على بينة من انشغالات الشاعر المتمثلة أساسا في الاشتغال على اللغة لخلق كلام من أرحام المعاجم، كلام فردي يتعدد بتعدد الشعراء ( فالشاعر الذي لا يصوغ كلامه الخاص ليس بشاعر، بل هو مقلد أو سارق أو هو الصدى بتعبير الشاعر المتنبي العظيم).

 أيها الشاعر الحقيقي، ستخسر بالتأكيد حب العامة الذين يحتفون بالنافع والعابر والعاجل، ولكن الطريق أمامك موحشة غير سالكة: فأنت مطالب باستخراج الكلمة الشعرية النابضة بالحياة من لغة التواصل الاجتماعية الميتة من التوظيف الوظيفي البائس، وأنت مطالب بتأسيس رؤيا فنية بلباب الفلسفة والدين والتصوف التاريخ والعلم والأسطورة والفكر المبطن بالسؤال والشك والرفض، وطّنْ نفسك على الإقامة في بؤر المخاطر والأنقاض فإنك هادم فاتن وما علينا سوى التلذذ بوقع معاولك على السائد الآسن المعتاد. أما الشاعر الزائف فليس لي إليه من وعظ سوى أن يدع الشعر جانبا.

* زمن الشعر، أدونيس، طبعة 5، ص 40.

** الإبهام في شعر الحداثة، د.عبد الرحمان محمد القعود، عالم المعرفة العدد 297،ص 24.

*** الخروج من التيه، عبد العزيز حمودة، العدد 298 صفحة 272.