الأدب, آخر قلعة لحماية اللغة العربية الفصحى

الأدب, آخر قلعة لحماية اللغة العربية الفصحى

زهير عزاوي

نظرا لما تتميز به اللغة الأم من مميزات و لا سيما في الحفاظ على الهوية وفي اعتبارها وسيلة لنفوذ  إلى مخازن المعارف و فلسفات السابقين و إبداعاتهم حرصت الصين و اليابان و كوريا و دول أخرى على إحيائها في مختلف المجالات, و اعتز كل بلد بلغته, وآمن بها, مما جعلهم يخطون خطوة كبيرة نحو التقدم. لذلك كان من الضروري الحفاظ عليها و صيانتها من كل الشوائب و تنميتها تنمية سليمة و اثراءها بكيفية متواصلة و ليس العكس.

فساد اللسان العربي

عانت اللغة العربية من التغيب منذ القديم, و مع مرور الزمن بدأ هذا التهميش يتضح شيئا فشيئا, في الداخل و الخارج.

داخليا: أمام كثرة التداول بالعامية أو اللهجة المحلية في مختلف الأقطار العربية ( و أحيانا عامية ممزوجة ببعض الكلمات الأجنبية المعوجة التي أصبحت عادة سائدة في مجتمعاتنا العربية) وخاصة انتشارها الواضح في مجالات معينة: كالإعلام بجميع أنواعه, و المؤسسات الإدارية, و المجال الثقافي, والمؤسسات التعليمية...خرج علينا بعض الدعاة من عدة بلدان عربية مطالبين بتدريس اللهجة العامية مكان العربية الفصحى بحجة أن التداول بالعامية و التواصل اليومي بين أفراد المجتمع يعتمد بالأساس على اللهجة المحلية, ومنهم من وضعوا كتبا لقواعد اللهجة العامية و طالبوا أن تكون العامية لغة الآداب و العلوم و الفنون... وفي بعض الأقاليم العربية: كإقليم كردستان بالعراق تم إقصاءها بشكل رسمي من المقررات المدرسية الإعدادية و الثانوية.

إلى جانب هذه الخرافات و الأوهام المحلية لإقصاء اللغة العربية العالمة أو الفصحى توجد أخرى غربية, لكن بممارسات شبه مختلفة.          

خارجيا: تساهم الدول الغربية و بعض المحسوبين عليها بشكل كبير في التشجيع على استعمال العامية مكان اللغة العربية داخل المؤسسات التعليمية, حيث عملت فرنسا على إدراج الدارجة أو العربية العامية ضمن لغات فرنسا و ذلك عند إقرار الميثاق الأوروبي حول اللغات الإقليمية  و لغات الأقليات, وأيضا سعت إلى إدخالها كمادة اختيارية في امتحان شهادة البكالوريا, تاركة للتلاميذ خيار كتابتها بالحرف العربي أو اللاتيني, و كذلك تم إحداث شعب وتخصصات بالكليات و المعاهد الفرنسية لدراسة الدارجة أو العامية (المغاربية). و يظهر التخاذل أكثر في دعم اللغة العربية بفرنسا في عدد المناصب الشاغرة لمباراة شهادة الأهلية للتعليم الثانوي (لمادة اللغة العربية) حيث منصب واحد كل سنتين, و بالنسبة لشهادة التبريز منصب واحد كل سنة بباريس و الضواحي. و من جهة أخرى, توظيف بعض الأساتذة و المبرزين, من العرب و الأجانب, لتدريسها في الثانويات و الجامعات, و هم لا يمتون لها بصلة.

كما تجدر الإشارة إلى أن كثير من دور النشر و الإعلام لا يدعمون أدباء و كتاب اللغة العربية إلا إذا تضمنت نصوصهم بعض التوابل التي تستهوي أولا الناشر و المترجم قبل القارئ, فما هي يا ترى؟! هي أن تسخر من المواطن العربي البسيط, و تصوره تصويرا فولكلوريا, أو  تصوره في مشهد ’’إروتيكي’’ مبالغ فيه دون أن يكسوه حياء...(و هذا موضوع آخر, يستحق مقالا مستقلا).

 إن التضييق على اللغة العربية تساهم فيه أيادي داخلية و خارجية. و الهدف وراء هذه المحاولات التي تبناها هؤلاء هو فساد اللسان العربي, و السعي إلى نزع هذه اللغة العريقة و الراقية من ألسنة العرب, و تشتيت تكتلهم.

 فعلا, عانت اللغة العربية من منافسة العامية لها شفاهيا, فهل تتطاول عليها كتابيا؟ وهل يساهم أدباؤنا, من حيث يعلمون أم لا,  في هذا التخريب؟!

العربية الفصحى والعامية و الأدب

يرى فريق من الأدباء انه لا يصح ان نقدم بعض الحوارات أحيانا بالعربية الفصحى, و يفضلون اللجوء إلى العامية أثناء السرد لنقل قسم من المواقف و الانفعالات, و ذلك حسب رأيهم لجعل شخصية النص تتكلم بلغتها الخاصة بها؛ حيث يختفي السارد و تظهر هذه الشخصية لتعبير عن مواقفها بلسانها حتى لا يبتعد الكاتب عن الصورة الواقعية و الحقيقية لنص. طبعا, لا يمكن أن ننفي كل ما ورثناه عن العامية من اساليب و تعابير خاصة تلك المفعمة بالدقة و الحرارة, لكن انتقالها من الشفهي إلى الكتابي تعد خطوة غير ناجحة لأن الكتابة بالعامية تفقد النص الأدبي هيبته  و جماليته. يرى المفكر المغربي المهدي المنجرة أن الدارجة أو العامية: "تفقد قيمتها كليا إذا خرجت عن نطاق الاستعمال الشفهي و انتقلت  لمرحلة الكتابة"*. و الحديث هنا لا يخص اللغة العربية وحدها فحسب, و إنما حتى اللغات الأخرى بإمكان لغة الشارع الإساءة إليها. عن المفكر الفرنسي تزفيتان تود وروف: " لأعتقد أن لغة الشارع تعد خطوة كبيرة في إثراء اللغة الكلاسيكية أو لغة الضواحي الباريسية "**.

 تعتبر اللغة اللبنة الأساسية للنص الأدبي, حيث لا يمكن تذوق الأدب في غياب لغة صحيحة و راقية. لأن الأدب هو الاشتغال على اللغة في حد ذاتها, أي السمو باللغة, و إدراج العامية في الأعمال الأدبية يجعل النص قاصر عن تحقيق هذا الهدف, و محصور في محليته. و أكثر من هذا أن التساهل في استعمالها كانت له اثار سلبية على التركيبة اللغوية؛ حيث تدرج الأمر من توظيف كلمات, ثم جمل, إلى أن وصل الحال إلى ما وصلنا إليه ( أي المطالبة بتدريس الدارجة). و هذا لا يجوز إذا أرادت أن تلعب دورا أخر غير دورها لأنها ستنخر اللغة من الداخل مثلها مثل المرض العضال الذي يطفأ شمعة الإنسان, حيث لا يمكن تشخيصه بشكل دقيق في مراحله الأولى لكن سرعان ما تظهر أعراضه و يصعب علاجه.

أمام هذا الفساد و التخريب الذي تتعرض له اللغة من كل الاتجاهات يبقى الأدب آخر قلعة لحماية اللغة العربية الفصحى و صيانتها.

إجمالا, يمكن القول على أن فساد اللغة العربية العالمة ناتج عن غياب وعي الأنا بخطر اللغة وأهميتها في التنمية والتقدم, بينما نجد الآخر يعمل وفق برنامج برؤية واضحة لتحقيق أهداف معينة, سواء متوسطة أو بعيدة المدى, لصرف الناس عن لغتهم, و فرض سياق لغوي هجين يوقع بهم في الحضيض الأوهد. و بذلك يسهل ابتلاعهم. أقولها ملء الفم: لا تناموا ملء جفونكم. لقد حان الوقت لتنظيف البيئة اللغوية  و إعادة اللغة العربية إلى الحياة خاصة في المجال التعليمي و البحث العلمي والإعلام و الإدارة, و تحبيبها إلى الناس, وذلك في إطار عمل منظم,  تتظافر فيه الجهود بين جميع فصائل المجتمع من لسانيين ومفكرين و أدباء و حكومات. أصبح من الضروري العمل على تطهير اللغة العربية الفصحى, و الاعتماد عليها كلغة فكر وعلم و أدب و فن... على الأقل ليعيش الإنسان العربي في ذاته بدل العيش في ذات الآخر.

 إن اللغة العربية مثلها مثل الحبل السري الذي يغذي الأجنة في الأرحام فهي تغذينا جميعا كعرب أو غير العرب الناطقين بالعربية و توحدنا.

 و خير ما أختم به هذا المقال هو ما قاله عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عن اللغة العربية. قالَ: ’’ تعلموا اللغة العربية فإنها تنبت العقل, و تزيد في المروة’’.

  المصادر:

*"جريدة المساء", عدد 18 07/08, اكتوبر2006

** المنتدى الثقافي, صحيفة "الشرق الأوسط", ع 10389, الأربعاء 9/5/2007,ص 4