مقدمة ( على محاجر الأمل )

هل هناك ضرورة لمثل هذه المقدمة ؟

كنتُ أسأل نفسي هذا السؤال ــ دوما ــ عندما أقرأ ديوان شعر أو رواية أو مجموعة قصصية ، وكانت قناعتي أن الأثرَ الأدبي ، بخصائصه ومميزاته يقدم نفسَه للقارئ ، وهو الذي يستطيع أن يفتح الآفاق أمام القارئ ليعيش تجربة الأديب والشاعر ، ويتفاعل معها ، ويرى مافيها من إبداعات وإضاءات . وأما المقدمات فإنها ــ في بعض الأحيان ــ تصبغ الأثر الأدبي بلون ما ، وقد ينجح مقدمه وقد لاينجح ، هذا إذا كان صاحب الأثر الأدبي يقدم لأول مرة على نشر إنتاجه ضمن كتاب مطبوع ، فكيف إذا كان شاعرنا صاحب هذا الديوان ( على محاجر الأمل ) له أكثر من عشرة دواوين مطبوعة ، وأخرى أكثر منها مخطوطة ، ومجموعات للأطفال ، ومسرحيات شعرية ، وعشرات القصائد والمقالات المنشورة في المجلات والصحف الإسلامية المعروفة ؟ (1) . فحينها تصبح المقدمة نافلة بالنسبة للشاعر وديوانه الجديد . وإني أعدُّ هذا التقديم نوعا من التكريم لي ، ومجالا لإبداء بعض الانطباعات والملاحظات في مجال الشعر الإسلامي المعاصر . لأن الديوان جدير بتقديم نفسِه ، ومخاطبة القارئ بصوت مسموع يغني عن المقدمة والتقديم ، ولأن الشاعر بما يمتلك من شاعرية أصيلة متدفقة ، وتجربة أدبية طويلة غنيٌّ عن مثل هذه المقدمات .

        لقد شاعتْ في العقود الأخيرة من هذا العصر عباراتٌ و مصطلحاتٌ في مجال النقد الأدبي ، حتى أصبحت لكثرة تردادها ولا سيما في كتابات بعض الأدباء الإسلاميين ، كأنها حقائق لاتقبل النقاش أو الجدل بله الرفض والنقض . وأصبح عددٌ من الدارسين يحكم على الشعر العربي ــ بعامة ــ والإسلامي بخاصة على ضوء هذه المصطلحات والمقاييس الجديدة و وصل الأمرُ إلى الحكم على الشعر الإسلامي كله منذ عهد رسول الله r ، وإلى اليوم بالضَّعفِ والهبوط ، لأنها لم تتفقْ في صورِها و طريقتها مع الأساليب الغربية الحديثة ، التي دفعت بعضهم إلى تفسيرات غريبة للأدب الإسلامي ، والقيم الإسلامية ، والتَّصوُّر الإسلامي : (( فالعبادة في هذا التفسير هي حركاتٌ تعبيريةٌ عن التأمل )) . وأصبح التعبير عن الشكر بضروب من الفنون : (( لاتعدو أن تكون حمدا وتسبيحا )) ، وأن المبدعين يستطيعون أن يصلوا إلى الصورة المبتغاة إذا تجاوزوا الواقع الذي سار عليه الشعر الإسلامي منذ فجر الإسلام حتى اليوم . والسبيل في نظرهم هو في تجاوز الحاجز الذي يحول دون أخذهم من الغرب وآدابه ، بل يقبلون بنهم لايعرف شبعًا ولا ارتواءً على كل ماهو أدبي ممَّـا يصدر في شرق أو غرب . وعدم الأخذ من أدب الغرب يحرم هؤلاء من الرؤية التي تمنحهم إياها هذه الآداب التي تتسم : (( بالعمق والشفافية والنفاذ ، وتعطيهم زادا عزيزا يمكنهم من مواصلة طريق الإبداع )) .

        وإذا وقف الأدباء الإسلاميون موقف المتريث المستريب من الأدب الغربي: (( فسوف ينتهون إلى ردم منابع التجدد والعطاء في نفوسهم ، والانحدار صوب المباشرة والتقرير ، أو تسطيح التجربة على أقل تقدير )) . بل قرنَ هؤلاء بين الإجادة الأدبية ، وبين البعد عن خطب الجُمُعة : (( إننا إذا أردنا ألا يكون أُدباؤُنا خطباء جمعة ، فعلينا أن نلزمهم من خلال مؤسساتنا وندواتنا بأن ينهلوا من الأدب العالمي ، ويتابعوا معطياته شهرا بشهر ويوما بيوم )) (2) .

        هذه العبارات وأمثالها ... التي تنظر إلى العبادة ــ الصَّلاة ــ على أنها حركات تعبيرية ، وتربط بين الإبداعِ والأخذ بنهم من الأدب الغربي ، بل متابعته يوم بيوم ، وشهرا بشهر ، أكثر من متابعة المسلم لكتاب ربِّه ، هذه العبارات أصبحت تتردد ــ مع الأسف ــ في كتب عدد من المبدعين والأدباء ( والمنظرين ) ، مع ترداد عدد من المصطلحات التي ينظرون إليها نظرة سلبية ، ويرون أنها علامات ضعف الشعر ، وأسباب لعدم تطوره نحو الأفضل ، ومن هذه المصطلحات : الخطابيَّة ، والتقريرية ، والمباشرة ، والوعظية ، والتسطح ... وهذه المصطلحات ــ كما سنرى ــ حديثة ، ترددت على ألسنة أُدباء الحداثة ونقَّادِها ، وعَدُّوها عيوبا وسماتٍ على تخلف الشعر الإسلامي ، و دَعَوا إلى لغة جديدة للشعر ، وسمات جديدة له ، ورفض كلِّ الأُطر القديمة . وإذا تردَّدت هذه المصطلحات في كتابات الرافضين للأدب الإسلامي مصطلحا وفكرة ومضمونا وإبداعا و وجودا ، فذلك أمر غير مستغرب ، ولكن انتقال هذه المقولات والمصطلحات إلى بعضِ دعاة الأدب الإسلامي هو الأمر الغريب حقا . وهو الخطر على هذا الأدب و دعاته ، والأمر الذي ينبغي معرفته أن دعاة الحداثة لن يقبلوا من دعاة الأدب الإسلامي هذا الموقف أو غيره ، لأنهم يرون الإلحادَ ، ورفضَ أيِّ نصٍّ ثابت ، وأيِّ قيمة ثابتة ... بدايةَ تحرر الإنسان و ولادته ، الإنسان الذي يريدونه عدوًّا لله وملائكته ورسله وعباده المؤمنين ، فكيف يقبلون من مسلم قولا أو فعلا ؟! .

        ولهذا فإن هذه المصطلحات التي يرددونها صورة من صور الرفض لأيِّ شيءٍ يتصل بالإسلام ، مهما كان نوعه ، ومهما كان أُسلوبه ، هم يرفضون أن يقبل الإنسان شيئا خارجا عنه ، بل يضعون أنفسهم موضع الخالق ذاته ــ سبحانه وتعالى عمَّا يقولون علوا كبيرا ــ يقول كبيرُهم : ( لايمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن نهدم صورة العالم الراهن ، وقتل الله نفسه ، مبدأ هذه الصورة . هو الذي يسمح لنا بخلق عالم آخر ، ذلك أن الإنسان لايقدر أن يخلق إلا إذا كانت له سلطته الكاملة ، ولا تكون له هذه السلطة إلا إذا قتل هذا الكائن الذي سلبه إياها ، أعني الله ) . (3) فهل هناك أكثر صراحة و وضوحا من هذا الذي يريده الحداثيون ؟؟ وهل هناك عذر لأديب مسلم أن يقبل أيَّ مصطلح من مصطلحاتهم التي يريدونها هدما للتوحيد وللإيمان وللإسلام ، ولكلِّ القيم الفاضلة . وهاهم يقولون : ( ومن هنا كان رفض التقاليد : شرائع كانت أم عادات ، شكلا من أشكال الأمل بنظام آخر ، ينتفي فيه القمع بشتَّى أنواعه ، وفي مثل هذه اللحظات تكون سيادة الفوضى هنا إنما هي سيادة لقانون الحرية الفطرية على قانون الحرية الوضعيَّة ) . ( 4 )

        وترديد هذه المصطلحات في كتابات بعضهم ليست إلا صورة من صور التأثر بالأدب الغربي ، والهزيمة أمام أمواج المادية القاهرة ، لأن هذا الأدب بقيمه وجمالياته وأساليبه بعيد كلَّ البعدِ عن حياة المسلم والمجتمع الإسلامي ، وبعيد كل البعد عن منهج الله عزَّ وجلَّ الذي جعله دستورا شاملا متكاملا ، وبيَّنــه في كتابه الكريم . والغربيُّ الذي كفر ــ عمليا ــ بما عند الله عزَّ وجلَّ ، كفر به إلها قادرا مهيمنا عليما حكيما ، وربًّـا معبودا له الأمر وبيده الملك وهو على كل شيءٍ قدير ، وأبقى على صورة ساخرة بالمعبود محنطة في الكنائس والأديرة ، وهؤلاء الذين يعيشون بهذه الصورة لايعرفون معنى الإيمان وطعم الإيمان ، ولا يعرفون حلاوة اليقين و روحانية الطمأنينة والثقة بالله ، والسمو والكرامة التي يمتلكهما المسلم من إيمانه وصلته بالله عزَّ وجلَّ ، فهم محرومون من تذوُّقِ أيِّ شيءٍ يعبر عن هذه الحياة الإسلامية الإيمانية ، وهذا المنهج الرباني الدائم . إنهم يعيشون حياة القلق والتشاؤم والتردد والحيرة ، حياة بائسة لاتعرف الطمأنينة ولا الاستقرار ، حياة تُقاس بالأرقام والحسابات ، تتأرجح بين الشهوات الحيوانية ، والمتطلبات الحياتية ، ولذلك تراهم يبحثون عن كل جديد ، يريدون كسرَ كلِّ قاعدة ، والانتقال من حالة لأخرى ، وتجريب كل غريب و شاذ ، لعلهم يجدون طمأنينة واستقرارا و سعادة ، وكلما جربوا لونا شعروا بالخيبة والخواء ، وراحوا يبحثون عن لون آخر ... حياة ملؤُها القلق والتعاسة والاضطرابات ، واللهاث وراء الحاجات الضرورية وغير الضرورية ، لأنهم يفتقدون الطمأنينة التي تنبعثُ من الإيمان واليقين . ركضوا إلى ملذات الدنيا ، وغرقوا في الشهوات والترف والتَّبذل والعربدة ، واستباحة كل المحرمات ، والخوض في كل الآثام ، واجتراح كل الرذائل والأمور الشاذة ، ومع ذلك بقيت حياتهم الداخلية في خواء ، وبقيت تعاستهم تسكن أرواحَهم ، وتحفر في أدمغتهم ، وتطفح بالتصرفات الشاذة في سلوكهم وأعمالهم . بحثوا عن كل شيءٍ يسدُّ هذا الفراغ الفكري والروحي الذي يعيشون فيه ، عادوا للماضي ، للأوثان والأساطير ، وساروا وراء كل ناعق ، وقبلوا بالشعوذات والخرافات ، وخاضوا في الظلمات ، وضربوا في التيه ، ولكنهم لم يصلوا إلى الطمأنينة والسعادة التي يحلمون بها .

        من أجل ذلك أصبح الغموض والشذوذ والخروج على كل قاعدة ، والاجتراء على الأخلاق والقيم هدفا ، فابتعدوا عن المألوف والمعروف ، واستخدموا الألغاز بصور شتَّى ، وألبسوا هذه الوثنيات شخوصا و حياة ، وتوهموا أنها نوع من التحديث والتطوير . ومن أجل ذلك حاربوا عالَمَ المسلم بكل صوره وأساليبه وأفكاره وإبداعاته وجمالياته ، وحاربوا المسلم طائعا كان أو عاصيا ، مادام ينتسب إلى عالم القيم ، عالم الإيمان بالله الواحد الأحد العليم القدير الخبير ، وحاربوا كل شيءٍ له علاقة بالإسلام من آداب وعلوم وفنون ... وادَّعوا أن الإسلام لاعلاقة له بالأدب . وعندما عجزوا عن إقناع الناس بهذه الفرية راحوا يطلقون الأحكام الشائنة على هذا الأدب ، واستطاعوا عن طريق هيمنتهم على منابر الثقافة والأدب في المحافل والجامعات ... تطبيق مقاييسهم وآرائهم وفرض مناهجهم وأذواقهم وإصدار الأحكام على الأدب الإسلامي ، ورميه بالجمود والتخلف والبساطة والارتجال وفقدان الجمال ، والبعد عن الإبداع ، والوقوع في الخطابية والتقريرية و ... واخترعوا لذلك منظومة من المصطلحات التي تنزُّ بالحقد ، وتوحي بالعداء لكل ماهو إسلامي ، وتسيءُ إلى الكثير من قيمنا و عباداتنا. و وقع بعضُ الأدباء الإسلاميين في شِراك هؤلاء الخبثاء ، متأثرين بأذواقهم وآرائهم ، ومردِّدين لأحكامهم ومقولاتهم .

        وإذا توقفنا عند بعض هذه المصطلحات تبيَّنَ لنا أنها تتناقض مع حقيقة الأدب و واقعه ، وتتناقض مع خصائص الشعر بعامة والعربي بخاصة ، لأن الشعر مهما كان لونه وعصره : فنٌّ جماهيري يعيش ويزدهر مع تجاوب الناس معه ، وانفعالهم لخطابه وصوره وأفكاره وأسلوبه ، ولذلك لابدَّ أن يسلك مسلك الأسلوب الخطابي المباشر ، كما لابدَّ أن يسلك مسلك التصوير الموحي ، والصورة الطريفة حسبما يقتضي الموقف والأسلوب . ومثل هذا ينسحب على بقية المصطلحات والخصائص الأسلوبية التي يذكرونها في مجال الإساءة والذم لشِعرِنا العربي . وهذا ناتج عن نظرتهم للشعر ، وجعله وحيا وكتابا للبشرية . يقول أدونيس : ( الشعر في الجاهلية فاعلية أولى في مستوى العمل والحلم والدين ، أي في مستوى الطبيعة والغريزة ، فهو حدس أساسي في المعرفة ، بل هو الحدس الأكمل ، غير أن النبوة في الإسلام هي الحدس الوحيد ، والمعرفة كلها تصدر عن هذا الحدس ، وهكذا حلَّت النبوة محل الشعر ، وتراجع الشعرُ إلى مستوى الفاعلية الثانية ... صار أداة لخدمة الدين ، ينشره ويدافع عنه و يمجده ، وهذا يعني أن الإسلام ألغى الشعر من حيثُ أنه مصدر للمعرفة ، أو من حيثُ أنه طريقة أصيلة في استبطان العالم ، والكشف عنه ومعرفته ) . (5) ولذلك فإنه لابدَّ من تهديم الدين ليعود للشعر مكانته في تصوُّرِ هؤلاء ، وهذا ما تفعله الحداثة ، وهذا ناتج عن نظرتهم للإنسان بأنه مكان الله عزَّ وجلَّ : ( إنَّ جوهر الإنسان ليس في كونه مشروطا ، بل في كونه يفلت من الشروط كلها ، ليس في كونه مخلوقا بل في كونه خالقا ، فجوهر الإنسان هو في أنه كائن خلاق مغيِّر ، وجوهر الثقافة في التالي هو إذن في الإبداع المغيِّر ) . (6) .    

        إنَّ هذه الدعوات والمصطلحات جزءٌ من مؤامرة كبرى على هذا الدين وأهله ، وعلى المجتمعات الإسلامية ، بكل قيمها ومقوماتها ولغاتها وأذواقها ومعارفها ، ولإفساد اللغة وتفجيرها ، وإخراجها من دلالاتها ، وتمزيق بنيتها ، والخروج بالتالي عن جمالياتها، وعن المذاق العربي ، و وضع معايير للجمال والمعرفة ، والفنون تخضع لشهواتهم ، وتقطع الصلة بين هذه المجتمعات و دينها . وحين يستطيعون إفساد الذوق الأدبي ، وجماليات اللغة وإبداعاتها الأسلوبية ، وبلبلة الأفكار ، وتحطيم المعتقدات ، وبث الشكوك وإثارة الشبهات ، و دفع الأجيال للقبول في هذه المصطلحات يصلون إلى أغراضهم ، ويستخدمون في ذلك الغرائز والشهوات ، ويثيرون لدى الناشئة كلَّ الدوافع الحيوانية ، ويمجدون كلَّ انحرافاتهم ، ويطلقون عليها صفات الإبداع والعبقرية ، ليستخدموهم في هدم القيم و اللغة والدين ، ويشجعوهم على الخروج من قيمهم ، والاجتراء على دينهم ومعتقداتهم . ولذلك يدعون صراحة إلى خرقِ كل الثوابت   لهذه الأمة في لغتها وعقيدتها وقيمها : ( وما نحتاج إليه هو إذن خرق هذا الحجاب ، ولا يتحقق هذا الخرقُ إلا بلغة تخرق تلك اللغة العامة المشتركة ) . ويصف هذه اللغة بأنها : ( لاتقدم الشيءَ بوصفه يقينا ، بل تقدمه بوصفه احتمالا ) ... وتصبح الأشياء : ( إشارات وعلامات أو آثارا غير مادية ) . (7) فهم لا يريدون أن يكون للإنسان مرجعية إلا نفسه وشهواته ، وعليه أن ينكر الله والدين والقيم ، وكل ما أنتجته البشرية من تراث جميل ، وقواعد وأصول وثوابت ترجع إليها . ويدعون إلى تغيير الذائقة العربية وإلى تكوين ذائقة مبنية على رؤية تتنكرُ لكل القيم ، وتدعو إلى الإلحاد ، وتأليه الإنسان : ( الإنسان هنا ــ لا الله ــ هو مقياس الأشياء ) . (8) وحين يدعون إلى ذلك يفتخرون ، ويعدون ذلك دعوة للإنسانية الصحيحة : ( فتجاوُزُ الوحيِ هو إذن تجاوز لإنسان الوحي، أي الإنسان المؤمن بربه ، والمصدق بما يوحي به إلى أنبيائه و رسله ، أي تجاوز الَّلإنسان إلى الإنسان الحقيقي ، إنسان العقل ، فالإلحاد لذلك ثورة حقيقية تهدف إلى تهديم سلطة يمارسها الإنسان باسم الوحي على الإنسان ، أو يمارسها باسم الغيب على الواقع ، إنه تهديم للبشرية وتجسيداتها الاجتماعية والسياسية ... الإلحاد توكيد على إرادة الإنسان الخاصة بحيثُ يكون عقله شريعتَه وقوته ، المقدس بالنسبة إلى الإلحاد هو الإنسان نفسه ، إنسان العقل ، ولا شيء أعظم من هذا الإنسان ، إنه يحل العقل محل الوحي ، والإنسان محل الله ، ومن هنا كان الإلحاد نواة لحياة المستقبل ، وفكر المستقبل مقابل التديُّن ) . (9) .

        هذه الفقرات وغيرها ممَّـأ صرَّحَ به زعماء الحداثة واضحة في مراميها و أهدافها ، ولا حجة لأحد في قبول أيِّ صورة تدعو إلى الحداثة ، أو استعارة أي مصطلح من مصطلحاتهم ، لأنها منبثقة عن عقيدة إلحادية كافرة ، تحطم كل القيم الإنسانية ، لأنها تحترم العقل لا الإنسان ذاته ، فلو اختار العقلُ الإيمان بالله ، و وصل إلى يقين وطمأنينة لمنهج الله عزَّ وجلَّ يخرج من مفهومهم عن العقل وعن الإنسان . العقل هو الوحي ــ هو الله ــ والإنسان هو كلُّ شيءٍ ، أما إذا كان غير ذلك انتفت إنسانيتُه ، وهذا هو الكفرُ والحقد والطيش والشذوذ الذي توحي به الشياطين ، وتدعو إليه الحداثة والحداثيون .

        هذه الخواطر تجعلنا ندعو الأدباء والشعراء والنقادالإسلاميين إلى تجديد هُويتهم ومناهجهم على هديِ هذا الدين ، و وفق منهج الله عزَّ و جلَّ وشريعته ، واستخلاص مصطلحاتهم وأساليبهم من التراث الأدبي المستند إلى كتاب الله عزَّ و جلَّ وسُنَّةِ رسوله r ، والتخلص من التردد والخوف والتزلف إلى تيارات الحداثة المختلفة ودعاتها المتلونين بكل وسيلة و طريقة . وشعرنا الإسلامي المعاصر مدعو لتجاوز مراتعه الحاضرة إلى استشراف آفاق الغد المأمول في حمل القيم الإسلامية . وحمل قضايا الإنسان المكرم من الله عزَّ و جلَّ ، المعذَّب بيد الجلادين باسم العصر والعولمة والتقنية والتقدم المادي . إنه مدعو لطَرْقِ شتى الموضوعات بجدِّية وأصالة وجمال . وعدم الانكفاء على صور محدودة ، وتعابير مكررة ، مع الحفاظ على الثوابت والأصول والقواعد التي ترسخت لهذا الفن . وأصبحت من أسرار الجمال لهذه اللغة الجميلة ، إنه مدعو لتجاوز قصائد المناسبات و وصف الأحداث ، والتباكي على الماضي ، لاستشراف المستقبل وكشف الزيف وبعث الهمم وإحياء الكرامة وتحويل الهموم إلى جهود واعية منظمة هادفة ، وجهاد عملي على صعيد الكلمة الطيبة ، والعمل الصالح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، والفدائية في سبيل الله لكشف الزيف الذي يجلل المدنيات الحديثة المتألهة ، والقوى المادية الفاجرة ، والصور المأساوية للإنسانية والطبيعة في ظل النُّظُمِ التي خرجت عن شرع الله ، وراحت تحارب ناموس الحياة بجبروت متمرِّدٍ ، لا بدَّ وأن يتحطم ولو بعد حين . ومجال هذا الشعر ودنياه وموضوعاته واسعة ومتعددة و رحبة ، وآفاقه وعطاؤه بعيد ... بعيد ... وممتد .

        أما شاعرنا ــ شريف قاسم ــ الذي كان له الفضل في إثارة هذه الخواطر بما أبدع و نظَمَ ، فهو من هؤلاء الشعراء الذين يحاولون أن يتمردوا على هذا التيار المنحرف الجارف ، ويقفوا بصبر و ثبات أمام هذه الدعوات المضللة ، وكانت قصائده جولات في عالم الإسلام ، تُصوِّرُ وتُسجِّلُ وتدعو للأمل ، وتحزن للواقع ، وتبعث العزم والثقة ، وتفضح الزيفَ والدجل والتآمر ، وتحاول أن ترسم للمسلم طريق الخلاص والفلاح ، يقول :

تفنى القرونُ ، ويبقى سِفرُ دعوتِنا
يا أُمَّتي فانهضي ، يكفي تضرعنا
تفيضُ بالخيرِ للدنيا منابعُنا
ويهدأُ القَلِقُ الحيرانُ في ظلمٍ
قد غرَّه المبطلون . الزَّيغُ أقعدهم
لم يخترمْ حقدُهم إلا سفاهتَهم
معكومة بالهوى أفواهُهُم ، ولها
الثَّابتُ الفخرُ . لم يبرحْ عقيدتنا

 

للعالمين مدى الأيامِ تبيانا
للكافرين ، فإنَّ الكفرَ أدمانا
فيرتوي ــ العمرَ ــ مَنْ قد هامَ عطشانا
إذْ باتَ ممَّـا عراه اليومَ عريانا
كفرُ الحداثةِ إذْ لم يلقَ غُرَّانا
حلَّتْ محلَّ الحِجى زيغًـا و نكرانا
صاغَ الدنيءُ لذي التمتامِ أرسانا
أما التَّحوُّلُ للأدنى فما كانا

وهو في شعره يرافق الأحداثَ ، وينفعل معها ، ويعبرعن مشاعر المسلم الصَّادق نحو ما يجري هنا وهناك . في أفغانستان وفي البوسنة والهرسك وفي الشيشان ، وفي كل بقعة من عالم الإسلام . ويبقى ــ في كل قصائده ــ شاعرا إسلاميًّـا ، عاش لدعوته ، ومضى واثقا من نصر ربِّه ، إذا صدقت النيات والعزمات ، ولذلك ظلَّ يردد مخاطبا قلبَه :

فامضِ يا قلبُ ، ولا تركنْ ألى
إنَّ مَنْ ينسلُّ من حانوتِه
قد مضى العمرُ حثيثًـا لم يقفْ
صاغَ للأُمَّةِ شـــعرًا صافيا
في الدواوين التي عطَّرَها
لم يزلْ يحدو ، وتحدو حوله
وأبى النَّسجَ على منوالِهم
إنَّ مَنْ ضيَّعَ في التيه النُّهى
والُهوياتُ التي اختلَّتْ على
وأساليبُ الأفاعي اضطربتْ
تعسَ الإلحادُ ســـمًّا قاتلا
دينُنا الأعلى منيعٌ ثابتٌ

 

عبثٍ يهفو إلى الخالين ســـلوى
لم يجدْ في غيرِه خبزًا وحلوى
عندَ زيفٍ أو إلى الزِّينةِ ألوى
وتخطَّى ملعبَ العانين بأوا
شوقُه الأغلى إلى العلياءِ قنوا
همساتُ الفجرِ بالإيمانِ نشوى
وارتقى بالآيِ توحيدًا وصحوا
لم يكنْ في السَّعيِ نحو الخلدِ كُفوا
منهجِ الرِّدةِ لم تستهدِ ربوا
عبثًـا ــ تلك الأساليب ــ و نزوا
لأُولي الإلحادِ لم يبرحْ ونجوا
جنَّة تزهو ، وحقلُ الكفرِ أحوى

        والديوان زاخرٌ بالمعاني والصور ، وهو يحمل هموم شاعرنا في رحلة الحياة ، ويعبر عن فنِّه ، ولذا فإن الوقتَ حان لأترك القارئَ مع هذا الديوان الحافل بشتى الصور ، والذي يحمل سمات الشاعر ، فلقد خرجت عن طريقة التقديم لتسجيل هذه الخواطر ، ولكنني اعتذرتُ منذ البدءِ ، وحسبي أنني وقفتُ على شاطئ هذا الشعر فرحا معجبا ، أدعو القرَّاءَ للخوضِ والسِّباحةِ في عبابه ، والتعرف على مافيه من لآلئ ومحارات ، ففي ذوقِ القارئ وفهمِه ما يمكنه من التعرف على مكانة هذا الديوان . والله الموفق .

الهوامش :

  • انظر مؤلفات الشاعر في آخر هذا الديوان .
  • كتاب ( مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي ) .
  • (( الثابت والمتحول )) لأدونيس 2/113
  • المصدر السابق ــ2/114
  • المصدر السابق نفسه ــ 3/235
  • المصدر السابق ــ 3/248
  • جريدة الحياة ــ العدد 11928 ص20 تاريخ 25/جمادى الأولى 1416 هـ
  • مقدمة في الشعر العربي 25
  • الثابت والمتحول ــ 1/89

* نُشرت بمجلة البلاغ الكويتية ــ العدد 1710 ــ   في 10/8/1427هـ

وسوم: العدد 1021