جدلية الموت والحياة في الآداب الغربية

1

إن الفارق بين الأدب العربي، والآداب الغربية، ثابت لا يتغير، فالآداب الغربية التي نخافها أشد الخوف من جهة، ونعجب بها أشد الاعجاب من جهة أخرى، مؤلفة من وحدات أساسية بسيطة، تأصل على نحو لا يمكن انكاره، الموروث الذي يتعلق بالصيرورة والفناء، ففي الآداب الغربية نصوص طويلة مكتوبة، تهتم ببنية الوجود الإنساني، فالإنتقال من مفهوم الحياة المتدفقة بالنشاط والحركة، إلى جزئية الهمود والسكون الأبدي، ليست مجرد عبث أدبي طنان،  ولكنها مفاهيم تنتمي دون شك، إلى الكتابات المبكرة، التي انصب جهدها الفكري، في بحث نظرية نشوء الكون، وحقيقة تأويل التوافر البشري واندثاره، فنحن نرغب في التشديد أولاً، على أن الآداب الغربية، التي امتزجت جميع عناصرها، بثنائية الوجود والعدم، قد تم اقتيادها إلى هذين الشكلين عبر الثقافة الاغريقية، التي هي عبارة عن سلسلة من الأفكار الغامضة، تحتوي على نصوص ذات دلالة كبيرة، على الصعيد الديني والفلسفي،  ففرضية نشوء العالم وانعدامه، هي التي حددت أطر الآداب الغربية وتمازجها، تبعاً لتلك الفلسفة، التي يصعب تجميع أقوالها المتباينة وتنسيقها، وبناء على ذلك، نستطيع أن نقرر بشكل حاسم، أن الآداب الغربية، قد استلهمت

  تلك المفاهيم التي شغفت بتكرارها، من الحضارة الاغريقية التي حملت العالم على الانبثاق،

فمن المناسب القول إذن، أننا نستطيع أن نذهب إلى أن الآداب الغربية، تنطوي على نمط جلي من الترابطات البنيوية الدينية، المستمدة من العقائد والفلسفة، وبطبيعة الحال، يفصح هذا الزعم عن تحد قائم على الافتراض المسبق نفسه، الافتراض القائل بأن الدين والفلسفة، هما اللذان دفعا الآداب الغربية، إلى اختبار الأمور، وتمحيص الحقائق، وهما من أغدقا على أجناسها أيما اغداق، وجعلت أصنافها تلك، تصمد في وجه المتاعب والصعاب.

الكوميديا الإلهية لدانتي

إن من أهم السمات الطاغية على الآداب الغربية، هي الانفتاح المحض على كل شيء، لأجل ذلك لا نجدها تتخبط في ظلماء التيه مثل أدبنا العربي، فأدبنا في مكابدة لا تهدأ، رغم أنه أمست تتجاذبه شهوات الدنيا، تماماً كالآداب الغربية، وأضحى يخوض في وحل "الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء، والصدور النواهد" كما تخوض فيها الآداب الغربية، التي نجحت في أن تلم بطبيعة الفكر البشري وتطوره، وحتى نترك عنا هذا الاستطراد، نقول أن بؤرة النص الابداعي في الآداب الغربية، يدور حول هذين النموذجين منذ (ملحمة جلجامش) البابلية التي تعد من أقدم الآثار الإنسانية، التي لعبت دوراً هاماً في إغناء هوية هذه الثنائية وتقويتها، مروراً بالكوميديا الإلهية "لدانتي أليغييري"، تلك الملحمة الرائعة التي ارتبطت بمفاهيم العقاب، والثواب، والمطهر، قد نهضت على دعائم متينة، ومضت بطريقة منتظمة موحدة، وفقاَ للقواعد والقوانين، التي رسمها لها صاحبها، ملحمة"دانتي" التي خطها في القرن الرابع عشر، من الحقائق التي لا تقبل الرد أو التشكيك، أن تفاصيل هذه الملحمة الغنية والمعقدة، تنسجم فلسفتها، ونظمها المعرفية، وتشبيهاتها، وصورها المحسوسة، وقدراتها التخيلية، مع اللاهوت الإسلامي، فالكوميديا الإلهية التي أسهب وأطنب مؤلفها في ذكر مظاهر الترحيب، والحفاوة، والكرم، تلك المظاهر التي اصطفى بها الخالق أهل الجنة، وأغدق عليهم من المنح والنعم والعطايا، تتناقض في واقع الأمر، مع تلك "الدوائر التسع" من الجحيم التي طاف بها "دانتي" أولاً، لقد حصر "دانتي" عنايته، في أن يظهر لنا التفاوت في  حجم التنكيل والعذاب الذي يصب على أهل هذه الدوائر بلا انقطاع، ثم يختتم رحلته التي وصل بها إلى أحسن غاية، والتي أضحت موضوعاً لمباحث أهل الفن، والعمارة، والموسيقى، والأدب، بالوصول إلى مركز الأرض، لا كواقع يقرره، بل كشرط ضروري للتطهر من أوضارالجحيم، لقد تأثر  "دانتي الإيطالي" أعظم تأثير

بأساليب اللاهوت الإسلامي ومنهاجه، فكيف "لدانتي" الذي عاش في عصر انحطاط، أن يقرر أحكاماً هذا مبلغها من الصحة والعمق، هذه الأحكام التي تستحق منا أن نعطف عليها بمقالات أخرى مترفة، تسوغ لنا بلا ريب، أن نزعم أن تفاصيلها العديدة هي التي أرغمت صاحبها على ذلك التوسع، ومن الحق أن ندعي بشكل قاطع، أن هذه التفاصيل لم تنشأ من الفلسفة الإسلامية وحدها، بيد أنها وجدت وترقت في ظلها، ولكنها ليست من صنعها، والكوميديا الإلهية التي لم تكن تصل إلى شيء مما وصلت إليه من الاتساع والتعقد، العامل الجوهري في اتساعها هو اللاهوت، والفلسفة الإسلامية، التي تسامى إليها" دانتي" وتوغل في فهمها ودراستها، وهذه حقيقة مهمة تماماً من وجهة نظري، لا نستطيع أن نتركها وشأنها، فالكوميديا الإلهية كانت عبقريتها الحقة، ستكون ضيئلة جداً، لو لم يلم الشاعر الإيطالي بفلسفة ابن سينا، وابن رشد، وعبقرية رهين المحبسين المعري في رسالته، ويتخذ من هذه المقومات مقاماً لرحلته.

هاملت لشكسبير

ونجد في مسرحية "هاملت" للكاتب الانجليزي الشهير "ويليام شكسبير"، تلك الشخصية المحورية التي أمست من أعظم الشخصيات التراجيدية التي عرفتها مسارح العالم، شخصية اعترت حياتها الكثير من الأحدات المروعة، التي استند "شكسبير" في صياغتها إلى تخيلات تذهب أحيانا مذهب الاغراق والمبالغة، شخصية شديدة الغموض والاتساع، لا تمضي على وتيرة واحدة، ومنهج مستقر، وإنما تنتقل من حال إلى حال، وتتشكل بأشكال مختلفة، فهدفها الذي شبت في كنفه، وتحركت في اطاره، هو أن تشيد ملكها، وتقهر خصومها، ولكنها لا تنتهج إلى ذلك طريقة منظمة مضبوطة، بل تسعى لأن تحقق هذه الغاية التي ارتطمت بجدار التردد والتسويف، بالتأني، والتمحيص، وكثرة التأمل، الأمر الذي قاد إلى أن تلتزم الصمت إزاء كل ما يشين مجدها، وفكرة الانتقام التي امتزجت مؤثراتها في حنايا" هاملت" واتحدت، هي التي أدت لأن ينحصر طابع حياته في ثلاثة أشياء.

أولها هو التردد، تلك النزعة التي طرأت عليه، بعد أن أدرك أن عمه هو الذي أقدم على قتل والده، من أجل أن يستحوذ على أعنة الحكم، وعمه هذا الذي سلبه الملك، لم يكتفي بقتل والده، بل تزوج من والدته المتآمرة، وجرّها إلى مخدعه، تلك الأم التي لم تصنع شيئاً من أجل أن تعيد الأمور إلى نصابها، قد أظهرت الرضا والاغتباط بالزواج من عمه، ولم يفصل بين زواجها من عمه، ومقتل والده سوى ثلاثة أيام فقط، لقد كانت نزعة التردد أكثر انتظاماً، وأبلغ نفاذاً عند "هاملت"، ولم تجد هذه النزعة الشاسعة جداً في طبعه، عقبات تعينه على تذليلها، كان كل ما يفعله "هاملت" المسكين حيالها، عينان تحدقان في الفضاء وتتأمل، ومهجة خائرة لم تحتفظ بمركزها، ولم تعرف كيف تلحق الهزيمة بخصومها، لأجل هذا السبب كانت شخصية "هاملت"، التي لم تجد من يدحضها ويعدلها،  تتعرض في غداة كل يوم، لتلك الأغلال والقوى التي تمزقها، وتشوهها، وتهيئ لها أسباب الخبل والجنون، والعته الذي كان يجاذب "هاملت" ويجاذبه، كان موضوعاً خصباً لمباحث فرويد، وإرنست جونز وغيرهم، تلك المباحث التي لم تراعي فؤاد "هاملت" الذي تصدع من الأسى، وتثبت له نوعاً من الهيبة بوصفه رجل بلاط، تحميه في الظاهر على الأقل، من أسنة علماء النفس، التي كانت أكثر تمحكاً، ولجاجة، وتعريضاً بفشله في تنفيذ مقصده الرابض في داخله.

والوهم الذي سد كل حاجات علماء النفس، وكفل لهم السعادة، كان أكثر شيئاً يضني" هاملت" ويحزنه، لأن ذاته تنفجر لهذا الوهم انفجاراً هائلا، ويشعر بنار تملأ نفسه، وتذكي حسه، "فهاملت" الذي كان يسعى لاغتيال والده بأي حجة فيما مضى، بات أبوه يتردد عليه، كلما أغمض" هاملت" عينيه، ويحثه على أخذ الثأر من عمه الذي أزهق حياته، وجعل منه شخصاً خامل الحياة، مسلوب الإرادة، ذلك الوهم الذي عكر صفو حياة" هاملت"، لم يكن يستطيع  أن يطعن عليه طعناً نهائياً، أو يجاهر بأنه اختلاق لا فائدة منه،" فهاملت" بزعت عبقريته الجمة في التماهي مع هذه الأوهام والصور، فهي التي أثرت شخصيته، وجعلت المجال يتسع لتحصيل ثمار ترفها، فلو لم تكن تلك الأوهام، والالتباسات، والحيرة، مؤثلات في طبع "هاملت"، لما وجدنا فنوناً حقيقية يتعين علينا أن نتعلمها، وأن نتمرن عليها، لولا ذلك الغموض، والعبقرية، وخصوبة الخيال، لتداعت الأسباب التي تجعلنا نتخذ من شخصية "هاملت" أنموذجا للتفرد، ونعتبرها أوثق مصدر يمكن الرجوع إليه في تصاعد المشاعر واضطرابها.

ونزعة الانتقام، الخصيصة الثالثة التي تفرعت منها عند" هاملت"، هي أمزجته المتصارعة التي لم يكن يجمع بين حيثياتها رابط، ونحن لا ندري أي هذه "الأمزجة" قد انتصر، ولكننا نجزم بأن "هاملت" قد ذهب ضحية هذه  الأهواء، فإنه من المدهش حقاً ألا نصل إلى هذه النتيجة، بعد أن اجتهدنا، وقدرنا بالضبط ما استحدثته هذه الطبائع، فقد ساءت سيرة "هاملت"، وساء تقديره للأشياء، وقادت لأن يكون القتل عملاً منظما متواصلاً في حياته، لقد رأينا هاملت يقتل خاصته ومحض وادده، الواحد تلو الآخر، ويعجز في ذات الوقت، عن قتل من عرضه لمخاطر الفوضى، بيد أن" هاملت" في جميع أحواله، لم يسعى أن يتكلف الجد لمحق هذه العناصر، التي فرغنا لها نحن وكتبنا فيها، العناصر التي لا نعتقد أن عبقرية شكسبير وحدها، هي التي صنعتها وابتكرتها ابتكاراً، فشكسبير مهما بلغ من أدوات البحث، والاستقصاء، والتعمق، لا يمكن أن يحيط بعناصر هذه الشخصية،  إذا لم يعياشها ويرصد كل حركاتها، وسكناتها وخباياها عن قرب.

**************************************************

جدلية الموت والحياة في الآداب الغربية 2

رواية موت "إيفان إيليتش" لليو تولستوي

إن فكرة التناهي، لا تتخذ في واقع الأمر، شكلاً واحدا في الآداب الغربية، فالموت الذي يقوم الرعب بتعريته، وتقديمه إلى الناس، هو الجملة الأخيرة التي تقول كل شيء، هو الحجة الصادقة، التي زادها التماهي القائم في الوعي الغربي، بين الفلسفة والدين، رهبة واسعة طاغية، في أوساط التيارات الأدبية، التي تعددت منهاج تأويلها، وفكرها المتمحور حول الحتف نفسه، فالمنية صياغة اطارها المنهجي مكتمل الدائرة عندنا نحن، لأن الوفاة في مجتمعاتنا المسلمة، مرتبطة بديمومة الحياة واستمرارها، فنحن نعجب بالفوت، ونأنس إليه، ونسعى أن يتصل شبابنا به، بعد أن تشدقنا بألفاظ التضحية، والفداء، في بيئاتنا العربية الخاصة، فحقيقة الهلاك التي لا نفكر إلا فيها، ولا نعني إلا بها، يخشاها الغرب، ويتوجس منها، ويعتبرها انجراف إلى نمط من المتاهات العصيبة، يصعب التوفيق بين مقتضياتها، فتأويلات الغرب لفكرة الفناء، لا تمضي على وتيرة متشابهة مثلنا نحن، فالغرب يقر بأن الفناء، تأويل واف لتاريخية الإنسان، ودورة تكوينه الأزلي، و يدرك بأن من المستحيل  تجاهل الربط التلازمي بين الحياة والموت، ويعينه مخزونه العقدي والثقافي، لئلا يمعن في اتجاهات ومشارب شتى، في تعليل تلك الحقيقة الغائبة الحاضرة، التي لا تطرح أي اشكالات نظرية، ترتبط بمباحث البرهان، والتأويل العقلي، فهو إذن يؤمن بهذا الترابط،ولكنه يخضعه لأدبيات التحسين والتقبيح، فالغرب لا يتدبر في كثافة وحميمية هذه الروابط، التي يزخر بها تصورنا الإسلامي لحقيقة الاندثار، لأن آدابه وما اتصل بها من أساطير وفلسفة، نشأت في منظومة بنيوية، سياقها الأيديولوجي الرائج، يقدس الحياة وينفر من الردى.

إلا أن السؤال المطروح هنا بقوة، إلى أي حد، قد أثرت هذه التيارات العاصفة، والمرجعيات الفكرية والفلسفية، التي شكلت حركة التثاقف والوعي الغربي، على "ليو تولستوي-1828-1910" وهو يخط روايته التي نحن بصددها، المرجعيات التي يجوز لنا أن ننظر إليها كعقبات مقيدة، أزرت بكنه الموت حتى في نسقه العقدي، من المؤكد أن رواية" موت قاضي" كما أسماها صاحبها، لم تتحرر من تبعاتها، أو تخرج من ضائقتها، فنحن لا نستطيع أن نتتبع المسار الاجتهادي الحر، لهذه الرواية التي خلت تفاصيلها من المعاظلة والالتواء، لأنها  بتعبير قاطع، مكبلة باشكاليات الأطر والمدلولات، التي تنهض على تصورات مغايرة للالوهية والخلق، فتلك المعاني والمفاهيم البالية، يحتاج الغرب لاعادة صياغة أصولها، وفق مقتضيات عصرنا، وتحولاته المتعاقبة،  ومن الحق أن الرواة، ينبغي أن يصطنعوا كل الوسائل من أجل اقصائها، وتحييدها عن الأعمال الأدبية، فما هي هذه المضامين والسياقات، التي كان من الممكن أن يستحدثها " ليو تولستوي" في مستقبل أيامه، وتعينه أن يمضي في هذه الحياة في غير سأم، أو ملل أو فتور؟؟. لقد اتخذ "ليو تولستوي" هذه الرواية أداة قيمة لابلاغ ما يريد أن يبلغه لقرائه، فرواية موت "إيفان إيليتش" التي تم نشرها لأول مرة عام 1886م 

على وجه التحديد، تعبر عن سياقات خارجية، وبنيات اجتماعية، اصطدم بها مؤلف الرواية، وهو يتحدث إلى الكنيسة التي هجر دينها ردحاً من الزمان، ودعاها في صراحة ووضوح، إلى أن ترافقه في أفكاره، أفكاره التي كانت أوسع مجالاً، من الخصائص الصورية التي تؤمن بها كنيسته،  أخذ "ليو" يتحدث إلى وجوه "دولتها"، ويدعوهم في عزم لا يعرف الضعف، وتصميم لا يعرف التردد والفتور،  لأن يجددوا الصلة "بانجيلهم" الذي بات لا يهضمه أو يستسيغه، فتعاليم  كتابهم التي لا يقفون عندها، ولا يفكرون فيها إلا قليلا، تحثهم على نبذ العنف، وبسط السلام، و تحقيق العدل، وهم أنأى الناس عن هذه الخصال، أخذ" تولستوي" ينفق أيامه ناقداً، ساخراً، متندراً على الكنيسة وطابعها الاشكالي المعقد، والكنيسة التي انصرفت عنه، ولم تجبه، استقر في نفسها، أن تسلك معه غداة كل يوم طرقاً جديدة، تكفل لها أن يرعوي ويصمت، فتارة تلقاه رفيقة به، عطوفة عليه، وتارة يجدها نافرة منه، معرضة عنه، ساخطة عليه، فلما أضناها اصراره و تعنته، رمته بفرية الخبل والجنون، لقد كان حقاً نفور "تولستوي" من الكنيسة عاماً شاملاً، يمسه في أشد الأشياء لزوماً له، فطبيعته الإنسانية في مستوياتها المتنوعة، تتدفعها تلك التصرفات الممجوجة، عن الاحجام، والرضوخ، إلى تعاليمها، خاصة بعد أن تجافت عن قيمها الضابطة لسلوكها، واستباحت لنفسها أن تجدد في بنيتها الأصولية الكلاسيكية، بممارسات شاذة، وعسف قضّ مضاجع الأشقياء، هذا الجور  المتعاظم، كثافته المطلقة، يجوز لنا حصرها، في الزام الشرائح الكادحة، التي تجد بالكاد ما يقيم أودها، ويسد رمقها، بأن تقتطع من نفقات حياتها اليومية، لتمدها بالمال، اتخذت الكنيسة التي اعتادت على نهب الثروات، هذا  المنحى الذي لا ينسجم مع رسالتها،  و"ليو" لما رأي كل هذا الحيف والطغيان، لم يخرج أهله من الصمت إلى الكلام، ثار على هذا النظام الطبقي الملتحف بالدين، والقوى الغيبية، وأعلن في سياق محاربته لرهبانها، وقساوستها، وأساقفتها، بأن مبادئهم العقدية والدينية، إضافة لسلوكياتهم الفجة، لا تقنع الناس بأن وضعهم الراهن هو الوضع الأمثل، الذي يجب أن يرضوا به، ويشكروا الرب عليه، هذا شيء، شيء آخر جعل "ليو تولستوي" يوغل في معاداته للكنيسه، وهو احساسه الذي يخامره، بأن الكنيسة لم تجب على أسئلة جوهرية تتعلق بحياته الروحية، وذاته التي تنسجم في جوهرها مع الفلسفة الوجودية، التي تؤمن بأن مدار الغلبة، والقوة هو للنفس، التي يشتد عليها الالحاح، ويكثر حولها الاغراء، وتطوف عليها ألوان الترف، فلسفة تأتلف من الفرد، وتذعن لحقوقه، وتتغاضى عن حقوق  الجماعات، فلسفة طابعها الهلامي، هو اقصاء البعد الروحي، والتجرد من كل اعتقاد يقف حاجزاً، وسداً منيعاً، أمام رغبات الذات، وهي فلسفة من ضمن فلسفات الشك والريبة التي اجتاحت المجتمع الغربي، وعملت على تقويض هيمنة التثليث المسيحي في القرن العشرين، و" ليو" الذي أظهرت الكنيسة عجزها عن رده إلى صوابه، ظلّ يدعوها إلى المرونة والتحاور، بين أطياف مجتمعها، دون تكفير أو اقصاء، ولكن الكنيسة التي أيقنت أن "ليو" الذي يقف أمام "أكسيولوجيتها" موقف الهادم، لم تسلك معه أي طريقة ايجابية، ونحن نعد هذا الصراع الحامي بين "ليو"  والكنيسة، "آلية مهمة" لفهم الملابسات، والارتباطات، التي حولت هذا النزاع، لنبوغ ذاتي أثمر عن ميلاد هذه الرواية، "فتلستوي" الذي كان قلة من الناس، تفكر مثل تفكيره، وتحس مثل احساسه، كان من الطبيعي، بعد أن ركضت قدماه في مضمار تلك الفلسفات الحداثية المموه التي نحته عن عقيدة التثليث، أن يلجأ للأدب حتى يستأصل "قصعة" الاشمئزاز عن نفسه.

ليس بوسعنا إذن أيها السادة، أن نشغل موقفاً مغايراً، ونزعم أن "ليو" كانت غايته من وراء تأليف روايتة القصيرة جداً بين رصيفاتها، هو تسليط الضوء على الطبقة الارستقراطية، وعلى مظاهر ترفها ورفاهيتها، كلا، لم تكن تلك غايته، بل كان الهدف الذي ينشده هو أن يكفكف من غلواء امتعاضه، بعد أن ألجئته الظروف، وما اتجه إليه من فلسفة وأفكار، إلى التفريق بينه وبين الكنيسة، لقد كان كل سطر من هذه الرواية، يصدره عن طبع ساخط، فرواية "موت قاضي" إذا دققنا النظر فيها، لوجدناها في مجملها، ناقمة على الحياة التي تتلاشى بالموت والزوال، وعلى عقائدها التي تضمحل بالعبث والتعصب، وعلى حضارتها التي تندثر بالجهل والمحاباة، وعلى قوانينها التي تنتفي بالتعسف والافتعال، وعلى أخلاقها التي تتمحق بالسرف والشهوات، وعلى صلاتها التي تتداعى بالغلول والآثرة، وبطل الرواية "إيفان إيليتشي" الذي استحال طمعه في ملذات الدنيا، إلى دموع غلاظ، تحدرت على عينيه قبل رحيله، هو الشخصية المحورية التي أخفى خلفها تولستوي" شخصه"، فالقاضي إيفان استقى تصوراته وقوانينه، من عقل" تولستوي" الخالص، فالهدف الذي تسعى الرواية من تحقيقه، هو مقصد الفرد، لتحقيق غاية يفترض وجودها على نحو يقيني، وأن ينتحل هذا الفرد، من الشرائع والقوانين، ما يحقق له هذه الغاية التي رسمها لنفسه، وهو في رحلته لتحقيق تلك الغاية، يجب أن يبعد أي طابع ديني، أو تصور عقلي، أو صيغة أخلاقية، تتعارض مع هذه الغاية، التي اشرئبت إليها نفسه، هذا الترابط العام الذي اشتملت عليه تفصيلات رواية "موت قاضي"، وخصائصها التي حيدت الفضيلة، وآمنت بأن يذهب الطموح إلى أقصى مدى، تتوافق صيغها، وعناصرها، ومسلماتها، مع مبادئ ومثل الفلسفة الوجودية، التي خضع لها عقل "ليو"، وعمل على ابراز ما فيها من "سمو وعظمة"، هذه الدوافع التي أشرنا إليها آنفاً، تقضي قضاءً مبرماً، على الفارق النوعي بينها، وببن فكرة الحريات، التي يجب أن تخضع لنظم الأديان،   والقوانين الأخلاقية، فالحريات التي تقوم على أساس الشعور، وتحقيق النزعات المسلم بها، نستطيع أن نكبح جماحها، بأطر الدين، الذي يعمل على إشباع هذه النزعات، والميول، وفق رؤية واسعة تراعي الضعف البشري، حتى لا تكون سبباً من أسباب العداوة، وسبيلاَ من سبل الفرقة.

 وفكرة الندم التي نعتبرها السمة الطاغية، في محاور رواية موت "إيفان إيليتش" التي تتحدث عن قاضي حاز على نصيب وافر من رجاحة العقل، وسمة الادراك، كانت المملكة الشاملة لغاياته ومراميه، عنوانها هو  التدرج في السلم الوظيفي، حتى يصل إلى مكانة مرموقة، تؤهله لأن يتزوج من فتاة بارعة الحسن، رائعة الجمال، وأن ينجب أطفالاً، ويقتني دوراً يعمل الخدم في تنظيف غرفها، وتشجير ساحاتها، وأن يحظى بمكانة اجتماعية رفيعة، وغيرها من الضروريات، التي لا يستطيع شخصاً يريد أن ينتمي للسلالات الارستقراطية، أن يشيح بناظريه عنها، وقد تحقق له قسطاً وافراً من تلك الأماني، شرع "إيفان" بالخطو إلى الأمام، فاكترى بيتاً، في منطقة تعج بتلك الطبقات المخملية، التي يتخذ الناس حيالها ما يلزم من حيطة واحتراس، وبدأ في تأسيس ذلك المنزل الزاهي الألوان، الفسيح الأركان، ولكنه سقط عند تركيب ستائر منزله، سقطة لم يلقي لها بالاً، أردته فيما بعد، قبل أن يصل إلى حافة تلك المرحلة، التي يتعاظم فيها المرض، ويكثر فيها الكلل، ويصدح فيها الأنين، مرحلة الشيوخة التي تستفحل فيها الأخطار التي تحيط بصاحبها،، مكث إيفان ثلاثة أشهر، يغالب هذا الداء الذي بدأ ينخر في عظامه، وأثر في كليته، التي ضمرت وتقلص حجمها، وأخذ الناس في الكف عن اجلاله وتوقيره، وبات يسمع ضحك أفراد أسرته وابتهاجهم، وهم ينتظرون في نشوة وافتنان، خبر مصرعه، كانت حياته بعد المرض موحشة بما فيه الكفاية، قضاها هو ملقى على فراشه، يستقبل جموع الأطباء، وتقريع زوجته التي أمضى عمره معها في مناكفة مستمرة، على عدم انتظامه في تناول الدواء، لقد فقد "إيفان" معياره القيمي في تلك الأشهر، وتنكرت له كل عائلته عدا ابنه الصغير، وخادمه المخلص، هذه الأشهر القليلة، أخذت تجر وراءها تاريخاً طويلا، تاريخ نشأته، وتطور أشكال حياته، وأخذ الشعور التي يفرض نفسه بشدة عليه، حتى اعتلى منزلة الصدارة عنده، هو الاحساس بالندم، الندم الذي كان أشد وأعمق من علله الحسية، أتاح له التمادي في قدح نفسه وتوبيخها، على العقود التي أنفقها، من أجل مناصب يأمن في حماها، ويستريح في أرجائها، المراكز التي جعلت عقله يتمرس، ويعتاد على نوع من التقييم، كان يجد فيه سعادته، وتدفعه تلك الغبطة، لتقدير أرقى وأرفع، من التعظيم الذي سبقه، ندم" إيفان" على تبديد سنوات عمره، التي أمسى يتكهن  بنهايتها، في تحقيق طموحات، لن تحرره من تلك اللعنة التي نزلت عليه، ظلّ "إيفان" عاجراً عن التخلص من الأذى العميق الذي ألحقه بنفسه، وبقى ممتطياً ظهور جياد الندم طيلة تلك الأيام، وتجلت مواهبه في آخر أيامه، في معاتبة ربه على فداحة هذا البلاء، الذي اصطفاه به، لم يكن "إيفان" موفقاً في إظهار بؤسه لربه، حتى غدا هذا العتاب لا يحتمل، ولا يطاق، ونحن لا نعتقد أن هذا العتاب المرير، سببه هو الوهن العميق، والحسرة الرازحة، والكآبة القعساء، ولكن دوافعه هي تخفيف الوطأة عن الوجدان، لقد كان "إيفان"، في ظل شعوره بالضعف، وتوعكه المتزايد، يحتاج أن ينظر لألمه، بوصفه عقاباً وقصاصاً من ربه، حتى ينتزع من نفسه البشرية، تظاهرات الوجع المريع، أمضى "إيفان" آخر ثلاثة أيام من عمره، في استياء، وندم، وامتهان لذاته، ويقينه الراسخ أنه هالك لا محالة، "وليو تولستوي المتخفي وراء ظلال شخصية "إيفان" جعل نشاطه الذهني في آخر ثلث من هذه الرواية، هو رصد انفعالات النفس، وانكساراتها، ويضاف إلى ذلك، إشاراته التي لم تكن موجزة، أو مقتضبة، تجاه تعاطي عائلته، ومحيطه، عندما تنامى إلى أسماعهم خبر وفاة" إيفان"، فزوجته استنزفت طاقتها الفياضة، في الحصول على جنازة قليلة التكاليف، تواري فيها جثمان زوجها، كما أن وفاة زوجها التي لا تتناقض مع رغبتها، أعاقها عن تحصيل راتبه المجز، فالراتب أوفى من المعاش كما نعلم، لهذا طرحت هذه المسألة، بمزيد من العمق والصراحة، إلى صديقه المقرب، حتى يوضح لها ذريعة، تستطيع بها أن تحصل على معاش وافر، أما من أمضى العمر برفقتهم، فقد أظهرت تداعيات تلقيهم لنبأ وفاته، ثغرة هائلة تحيق بقيم الإنسان، فالحزن على "إيفان" لم يصرفهم عن لعبة الورق التي كانت بأيديهم، ولا الكمد الممض، استطاع أن يطرد تلك الآمال الواعدة، التي طافت بأذهانهم، لاعتلاء منصبه الشاغر.

رواية "موت قاضي" الجانب الموضوعي، والمهيمن عليها، هو المتاعب، والصراعات، التي خاضتها شخصية "إيفان" حتى تحقق مقاصدها، وتبرهن أن القيمة المثلى، التي لا تضاهيها أي قيمة، هي قيمة السعادة التي -في وجهة نظري- يجب أن نعتقها من كل قيد، وحتى تتحقق هذه المشاعر الفياضة، التي يمكن تحويلها إلى قاعدة، توزع البهجة على الآخرين، يجب أن تحلق الروح خارج إطار هذا الجسد.

وسوم: العدد 1128