الحاجة إلى النقد

من فرض الكفاية إلى فرض العين

بن العربي غرابي، أستاذ في السلك الأول، ميسور، المغرب.

[email protected]

من المعلوم أن الإبداع إشباع لرغبات مكنونة قد تكون دوافعها سيكلوجية أو سوسيولوجية أو إنسانية، وكذلك النقد، بمعنى من المعاني، تعبير عن رغبة تتعدد دواعيها هي الأخرى، وبحسب تلك الدواعي يكون النقد بناء فاعلا ويكون فجا متهافتا. ولكن النقد في كل الأحوال يتعالى عن العبث والمجانية والسياحية ليصبح رسالة بالمعنى النبوي واللاهوتي، وكل رسالة بقدر ما تكون تشريفا تكون تكليفا وبقدر ما تكون تطهيرا تكون عذابا واحتراقا. ليس المطلوب من الناقد أن يشيد صرحا عاجيا يسكنه ويختفي فيه عن الأنظار في برزخ اللذة والكشف ومغازلة الآثار الإبداعية، ولكن دوره، كما نعتقد، أن يكون حلقة وصل ووسيطا بين القارئ والعمل الإبداعي، لأن الإبداع بطبيعته المحلقة والمتحررة يتوسل بالالتباس والمخاتلة والتضليل أحيانا، ولأن القارئ ليس دائما قادرا لوحده على محاورة الإبداع واستنباط الجمال منه، وهنا ينبغي استدعاء الناقد والاستعانة بخدماته، إذ المطلوب منه أن يروض العمل الإبداعي الحرون ليصبح ذلولا يمتطيه القارئ دون مخاوف التيه والسقوط. للناقد الفعلي المؤهلات الكافية للتربيت على كتف الإبداع واستدرار القيم الجمالية الغائرة فيه ليضعها في متناول القارئ فيستلذها و يحفزه بذلك على القراءة و محاورة الأعمال الفنية.

 لكن الذي أثار انتباهي، حسب اطلاعي المتواضع، هو أن الغالبية الواسعة من النصوص النقدية التي تملأ صفحات صحفنا الورقية والإلكترونية لا ترتقي إلى مستوى النقد البناء الذي يراد منه الارتقاء بالأذواق وخلق حساسية ثقافية تستطيع تغيير القيم السائدة والمتداولة بيننا، والتي يقع الإجماع حولها بأنها قيم متخلفة ومتآكلة ومتداعية. معظم الأوراق والمتابعات النقدية التي تواكب إبداعنا الشعري والسردي تفتقر إلى الرؤية الناضجة وتقع في حضيض الإسفاف والتكرار والمجاملات الزائفة. ونعزو أسباب هذا التهافت إلى ما يلي:

- نقد لا يرعى للقارئ حرمة ولا يستحضره ولا يكتب له، إذ يكتب نقادنا الشباب لأنفسهم بلغة ملتبسة ومعقدة تتجاوز أحيانا سقف الإبداع نفسه، فينفر القارئ من تلك الكتابات. وليس مرد ذلك التعقيد إلى العمق المعرفي لنقادنا، فالعمق محمدة، وكلما تعمق الناقد معرفيا وتجاوز سياجات تخصصه الضيقة استطاع الوصول إلى ما يعجز عنه الناقد العادي أو الصغير. تكمن الصعوبة في أعمال نقادنا في الهشاشة المعرفية الجلية التي يمكن لنقد النقد أن يكشف عنها ويفضحها بأقل مجهود، فيعوضون عن الهشاشة بالتوسل بلغة معقدة مليئة بالمفاهيم التي لم يكتمل نضجها في أذهانهم كي تصبح منطلقات بديهية صادرة عن وعي عميق بمرجعياتها الفلسفية والتاريخية والإبستمولوجية. في كل هاته المحاولات يوظف "نقادنا" مفاهيم مثل: الرؤيا الشعرية والكتابة والخطاب والغياب والحضور والتفكيك وتفسير العالم واللغة الشعرية والموقف من العالم والعدم والكينونة والأيقونة والوجود والثورة والأنطولوجيا والإبستمولوجيا والتصوف والتوتر والصورة والسرد ... ولكن بما أنها غير طازجة بما يكفي فقد صارت تعابير مسكوكة ومحفوظة تفتقر إلى الإجرائية والدلالة المحددة. وعندما نكتب بلغة لم نتمكن من هضم اصطلاحاتها ومفاميمها تصبح تلك اللغة كهفا نحتمي فيه من عجز يطاردنا، وليس مسكنا هادئا بالمعنى الهيدغري.

- نقد تؤطره لهجة وثوقية يقينية لا تتناسب مع نسبية النقد واختلافيته، فعندما يعتقد الناقد بامتلاك المنهج النقدي الصحيح والقويم يسقط في وهم الكمال ويقع في الدوغمائية والتسطيح فيعامل الأعمال الإبداعية بغطرسة ومباهاة. كما أن الشعور بالكمال يمنع الذات من تحسين أداءاتها وتطوير ميكانيزماتها فترفض الاستزادة ونقد الذات والاطلاع على أعمال الآخرين وأفكارهم.

- الانطلاق في كثير من الأحيان من المجاملات والصداقات والمصالح المتبادلة فينحدر النقد إلى مديح زائف وإطراء فاضح، وذلك واضح في أسلوب الكثير من المحاولات وطريقة الكتابة فيها، فنادرا ما يلتفت ناقد إلى أوجه الضعف والوهن في العمل الإبداعي المنقود، بل تنهال عبارات الإشادة دافئة ويرتفع المبدع وإن كان صغيرا إلى مصاف الفاتحين وعداد المثقفين المصلحين النجباء، كأن إبداعنا بقدرة قادر يولد مكتملا وراشدا. ولعل هذا النوع من الإطراء من شأنه أن ينعكس بالسلب على الحياة الفنية والإبداعية فتختلط الأوراق ويتعايش الرديء مع الجيد وقد يتطاول عليه. إن الإبداع لا يولد إبداعا، بل يولد عملا أو أثرا، والنقد الفعلي يمنحه شهادة الإبداع، فليست القصيدة إبداعا حتى يصادق النقد على ذلك، وكذلك الرواية والمقطوعة الموسيقية واللوحة والمنحوتة. كما أن النقد عندما يستحيل إلى ثناء كاذب يفقد حرارته ونفسه التصادمي اللذين يستمدهما من صراع الاتجاهات النقدية والسوق الإيديولوجية وثقافة الاختلاف الحقيقية.

إن المراد من النقد أن يخلق خصومات فكرية حقيقية لا أن يختلقها، وأن يلتزم الحقيقة والحياد والصراحة والجرأة، فيسمي الأشياء بأسمائها ويقول لمن أحسن: أحسنت، ولمن أساء: أسأت. كما أن العمل الإبداعي ما أن يغادر كفي صاحبه ومتناولَ يديه ينفصل عنه كليا، وبالتالي لا يُطلب من الناقد أن يتحدث عن الشاعر أو الروائي كشخص، بل المنتظر منه أن يحاور عمله بميزان الذهب ومنتهى الحزم والأمانة ويقف على مواطن الجودة والرداءة فيه دون ممالأة ولا مناوأة ولا تعصب له أو عليه.

 لا يُنتظر من تجمع بشري أن يتقدم خطوة إلى الأمام بتغييب سلاح النقد المدجج بالمعرفة العلمية والعميقة والمتنوعة، كما أن النقد لا ينمو ولا يتنامى إلا في تربة التغاير والتعدد والاختلاف. ولسنا ندعي أن ساحتنا الثقافية تفتقر إلى النقد الحقيقي، فهذا ما لا نستطيع الخوض فيه، ولكن نقد "المديح" شائع ومتواتر فينا، ولقد تحاشينا تقديم الأمثلة خشية الإساءة والإطالة. كما أن المجتمع الذي يحتضن نقد المجاملات والتزلف لَحَقيق بأن يعيد النظر في منطلقاته وترسانته القيمية والسلوكية والمعرفية.