المنافرات في الأدب العربي

د. محمد عقل

[email protected]

يعود ظهور المنافرات إلى العصر الجاهلي، إلى فترة بدأ العرب فيها يميلون نحو الاستقرار وحل مشاكلهم بالطرق السلمية رغم وجود العصبيات القبلية. يقول الخليل بن أحمد في كتاب العين :"كأنما جاءت المنافرة في أول ما استعملت أنهم كانوا يسألون الحكم: أينا أعز نفرًا؟"، أي أنه كان هناك طرفان متخاصمان يحتكمان إلى حَكَمٍ للبت في أيهما أقوى وأعز من حيث عدد الأقرباء، ثم صار موضوع الخلاف أيهما أفضل حسبًا إذا كانا من نفس القبيلة، وأيهما أفضل نسبًا إذا كانا متباعدين من حيث الأرومة. وقد أكد الجاحظ في كتابه البيان والتبيين على أن المنافرة هي المحاكمة، أي اشترط وجود حكم يحكم بين طرفين وإلا كان الأمر مجرد مفاخرة. كان الحكم يقوم خطيبًا أمام جمهور يرافق الخصمين مستعملاً في خطابه السجع الذي يذكرنا بسجع الكهان، ويؤيد ذلك قول الجاحظ في الكتاب المذكور :" إن ضمرة بن ضمرة وهرم بن قطبة، والأقرع بن حابس ونفيل بن عبد العزى كانوا يحكمون وينفرون بالسجاع، وكذلك ربيعة بن حذار". وقد اشتمل هذا النص على خطباء بني تميم وأسد وفزارة وقريش، وفي ذلك ما يدل على شيوع السجع في الخطابة الجاهلية. ناهيك عن أن بعض الحكام كانوا من كهان العرب الذين يسجعون في كلامهم وحكمهم.

لم نسق ذلك لنسلم بصحة جميع المرويات من المنافرات أو بدقة صياغتها لأن الشك يساورنا في صحة عدد منها، إذ يجب أن لا ننسى أنه كان للرواة في العصر العباسي دور في إعادة صياغة بعضها، ولكن معظمها يمثل العصرين الجاهلي والأموي. الشواهد على وجود المنافرات في العصر الجاهلي يعززها القرآن الكريم إذ جاء في سورة الكهف آية رقم 34: "وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً واعزّ منك نفرا". ويحاوره يجادله ويخاصمه ويفتخر عليه ليترأس.

 في العهد العباسي كثر الاهتمام بجمع المنافرات في كتب منفردة مثل كتاب المنافرات للمدائني، وكتاب المنافرات لهشام بن الكلبي، وكتاب المنافرات لخالد بن طايق الخزاعي، والمنافرات بين القبائل وأشراف العشائر وأقضية الحكام بينهم في ذلك لأبي الحسن النسابة، وقد وجد هذا النوع الأدبي مكانة خاصة لدي الشعوبية فهناك كتاب المنافرات لعلان الشعوبي ولأبي عبيدة كتاب المنافرات وكتاب الديباج الذي يضم عددًا من المنافرات.

والمنافرة تعتمد على الحوار بين الخصمين أمام جمهور ثم أثناء مثولهما أمام الحاكم(القاضي). كل واحد يحاول نقض أقوال خصمه وعرض مناقبه معتمدًا على مآثر آبائه من حسب ونسب، غير ناس قدراته البدنية ليميل الناس والحكم إليه، وهما يعتمدان على السجع في عرضهما. فتصير المنافرة كلها مبنية على أقوال مسجوعة، وهو ما يميزها عن سائر فنون النثر. في كثير من الأحيان ينقسم الجمهور إلى فريقين، فيؤيد كل فريق صاحبه ويدعمه بالحجج والبراهين كي يقنع الحَكَم بصحة دعواه. فالمنافرة إذن ضرب من الخصومة الشخصية التي تعارف عليها الناس في الجاهلية والتي من الممكن أن تقوم لأي سبب من الأسباب، وعلى رأس ذلك المنافسة في الشرف والرياسة، وغالبًا ما تكون بين رجلين من سادات الجاهلية وزعمائها المعروفين، يحاول فيها كل واحد منهما أن يثبت على رؤوس الأشهاد أنه افضل من صاحبه، وذلك عن طريق خطبة، أو عدد من الخطب الموجزة يعدد فيها مناقبه، ومناقب أسلافه من ناحية، ويتعرض أحيانًا فيها لمثالب خصمه ومثالب أسلاف ذلك الخصم من ناحية أخرى وهذا يذكرنا بشعر النقائض.

رغم شعار العدالة الذي رفعه حكام المنافرات في الجاهلية، فإن هناك ما يُفيد بأن بعضهم ربما قبل الرشوة، وجنف عن الحكم، وقد ذكر أبو عبيدة من هؤلاء المرتشين في الحكومة ثلاثة وهم: ضمرة بن ضمرة النهشلي الذي تحاكم إليه عباد بن أنف الكلب، وسبرة بن عمرو الأسديان، فاسترشى ضمرة عبادًا ونفره على سبرة، وأعطاه عباد عشرًا من الأبل، والأقرع بن حابس المجاشعي الذي تنافر لديه جرير بن عبد الله البجلي وخالد بن أرطاة الكلبي، فمدحه جرير ورضخ له رضخة فنفر جريرًا على خالد، والثالث مروان بن زنباع العبسي الذي حكم في منافرة السفاح بن بكير التغلبي وعمرو بن لأي من بني تيم الله بن ثعلبة، فأهدى إليه عمرو وأطعمه فنفره على السفاح، وكان السفاح أفضل منه.

وكان للمنافرة في الجاهلية شروطها الباهظة، فهي لا تتم في الغالب إلا على رهان من الإبل، يخرجها المغلوب في المنافرة للغالب، أو المنفور للنافر، وقد تكون خمسين من الإبل، وقد تبلغ المائة، وربما بالغ الرواة في ذلك. وفي بعض الحالات كان الرهان من الرجال من قرابة المتنافرين كما حصل في منافرة جرير بن عبد الله البجلي وخالد بن أرطاة الكلبي، فقد زعم الرواة أنهم وضعوا سبعين غلامًا من بجيلة وكلب في أيدي كفلاء من قريش، وحصل ذلك في منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين.

كان يوم المنافرة يومًا مشهودًا في الجاهلية، يخرج فيه كل واحد من المتنافرين في أحسن هيئة، ويخرج معه عدد من أقربائه وأنصاره وأتباعه، وإذا كان مقر المنافرة أو الحكم يقتضي سفرًا خرجوا على الخيل والإبل وبالغوا في العتاد والسلاح، ثم لا يفتأون ينحرون الإبل ويتوسعون في الطعام والشراب طوال سفرهم طلبًا للشهرة ونباهة الذكر. وإذا كانت المنافرة على درجة من الأهمية حضرها عدد من الشعراء والرجاز كما حدث في منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة التي تعد نموذجًا لكل ما تقدم من تقاليد:

 منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين:

لما أسنّ أبو براء عامر بن مالك بن جعفر بن ملاعب الأسنة، تنازع في الرياسة عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر وعلقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص ابن جعفر،

 فقال علقمة: كانت لجدي الأحوص، وإنما صارت لعمّك بسببه، وقد قعد عمك عنها، وأنا استرجعتها، فأنا أولى بها منك.

فشرى الشر بينهما، وسارا إلى المنافرة ، فقال علقمة: إن شئت نافرتك، فقال عامر: قد شئت،
والله إني لأكرم منك حسبا، وأثبت منك نسبا، وأطول منك قصبا.
فقال علقمة: والله لأنا خير منك ليلا ونهارا ،

فقال عامر: والله لأنا أحب إلى نسائك أن أصبح فيهن منك، أنا أنحر منك للقاح، وخير منك في الصباح، وأطعم منك في السنة الشياح.
فقال علقمة: أنا خير منك أثرا، وأحد منك بصرا ، وأعز منك نفرا، وأشرف منك ذكرا .

فقال عامر: ليس لبني الأحوص فضل على بني مالك في العدد، وبصري ناقص، وبصرك صحيح، ولكني أنافرك إني أسمى منك سمة، وأطول منك قمة، وأحسن منك لمة، وأجعد منك جمة، وأسرع منك رحمة، وأبعد منك همة.

 فقال علقمة: أنت رجل جسيم، وأنا رجل قضيف، وأنت جميل، وأنا قبيح، ولكني أنافرك بآبائي وأعمامي.

 فقال عامر: آباؤك أعمامي، ولم أكن لأنافرك بهم، لكني أنافرك: أنا خير منك عقبا وأطعم منك جدبا.

 فقال علقمة: قد علمت أن لك عقبا، وقد أطعمت طيبا، ولكني أنافرك: إني خير منك وأولى بالخيرات منك

فخرجت أم عامر وكانت تسمع كلامهما فقالت: يا عامر نافره أيكما أولى بالخيرات.

 قال عامر: إني والله لأركب منك في الحماة، وأقتل منك للكمأة، وخير منك للمولى والمولاة.

 فقال له علقمة: والله إني لبر وإنك لفاجر وإني لولود وإنك لعاقر وإني لعف وإنك لعاهر وإني لوفى وإنك لغادر ففيم تفاخرني يا عامر!

 فقال عامر: والله إني لأنزل منك للقفرة وأنجر منك للبكرة وأطعم منك للهبرة وأطعن منك للثغرة
فقال علقمة: والله إنك لكليل البصر، نكد النظر، وثاب على جاراتك بالسحر

فقال بنو خالد بن جعفر، وكانوا يدًا مع بني الأحوص على بني مالك بن جعفر: لن تطيق عامرًا، ولكن قل له أنافرك بخيرنا وأقربنا إلى الخيرات. فقال له علقمة هذا القول.

 فقال عامر: عير وتيس وتيس وعنز فذهبت مثلاً. نعم على مائة من الإبل إلى مائة من الإبل يعطاها الحكم أينا نفّر عليه صاحبه أخرجها ففعلوا ذلك ووضعوا بها رهنًا من أبنائهم على يدي رجل يقال له خزيمة بن عمرو بن الوحيد فسمى الضمين.
وخرج علقمة ومن معه من بني خالد، وخرج عامر فيمن معه من بني مالك، وجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية فلم يقل بينهما شيئًا، وكره ذلك لحالهما وحال عشيرتهما، وقال: أنتما كركبتي البعير الأدرم، قالا: فأينا اليمين؟ قال :كلا كما يمين، وأبى أن يقضي بينهما، فانطلقا إلى ابي جهل بن هشام فأبى أن يحكم بينهما، وقد كانت العرب تحاكم إلى قريش، فأتيا عيينة بن حصن بن حذيفة فأبى أن يقول بينهما شيئًا، فأتيا غيلان بن سلمة الثقفي فردهما إلى حرملة ابن الأشعر المري،

 فردهما إلى هرم بن قطبة بن سنان الفزاري فانطلقا حتى نزلا به، وقد ساقا الإبل معهما حتى أشتت وأربعت لا يأتيان أحدًا إلا هاب أن يقضى بينهما، فقال هرم: لعمري لأحكمن بينكما، ثم لأفصلن فأعطياني موثقًا أطمئن إليه أن ترضيا بما أقول وتسلما لما قضيت بينكما، وأمرهما بالانصراف، ووعدهما ذلك اليوم من قابل فانصرفا حتى إذا بلغ الأجل خرجا إليه وأقام القوم عنده أيامًا.
فأرسل هرم إلى عامر فأتاه سرًّا لا يعلم به علقمة فقال: يا عامر قد كنت أرى لك رأيا وأن فيك خيرا
وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك أتنافر رجلاً لا تفخر أنت وقومك إلا بآبائه فما الذي أنت به خير منه، فقال عامر: نشدتك الله والرحم أن لا تفضل عليّ علقمة فوالله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبدا هذه ناصيتي فاجززها واحتكم في مالي فإن كنت لا بد فاعلاً فسوِ بيني وبينه، قال: انصرف فسوف أرى رأيي، فخرج عامر وهو لا يشك أنه ينفره عليه، ثم أرسل إلى علقمة سرًّا لا يعلم به عامر فأتاه وقال له مثل ما قال لعامر فردّ عليه علقمة بما رد به عامر وانصرف وهو لا يشك أنه سيفضل عليه عامرًا، ثم إن هرمًا أرسل إلى بنيه وبنى أبيه إني قائل غدًا بين هذين الرجلين مقالة فإذا فعلت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة ويطرد بعضكم عشر جزائر ينحرها عن عامر وفرقوا بين الناس لا تكون لهم جماعة، وأصبح هرم فجلس مجلسه وأقبل الناس وأقبل علقمة وعامر حتى جلسا، فقام هرم فقال: يا بني جعفر قد تحاكمتما عندي وأنتما كركبتي البعير الأدرم، تقعان إلى الأرض معًا، وليس فيكما أحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلا كما سيد كريم، وعمد بنو هرم وبنو أخيه إلى تلك الجزر فنحروها حيث أمرهم هرم وفرقوا الناس ولم يفضل هرم أحدًا منهما على صاحبه وكره أن يفعل وهما ابنا عم فيجلب بذلك عداوة ويوقع بين الحيين شرًا.

(جمهرة خطب العرب)

فشخص بنو مالك بن جعفر مع عامر ومعه لبيد بن ربيعة وشخص بنو الأحوص بن جعفر ومعه الحطيئة ومع كل واحد منهما ثلاثمائة بعير: يُعطى الحاكم منها مائة، ويعقر مائة، وياكل هو وأصحابه مائة، فلما بلغ هرمًا دنوهما استخفى فجعلا يتهاتران.

(كتاب الديباج لأبي عبيدة)