هوامش على مقال (رأس) للشيباني (2)

هوامش على مقال (رأس) للشيباني (2)

الشيباني ومكانة نجيب الكيلاني الروائية

شمس الدين درمش- الرياض

أشاد عبد المنعم الشيباني في مقاله بمكانة نجيب الكيلاني الأدبية في الجانب الروائي خاصة، ووصفه بالعملاق، وأن نجيب محفوظ أشاد به كثيرا، وأن سيد قطب هو أول من بشر بنجيب محفوظ روائيا.

 وقال الشيباني: "أشعر أن علي أحمد باكثير كان أكثر نجاحا في هذا الجانب (أي التاريخي) من الكيلاني، حيث جمع بين الشاعرية والخيال وبين حقائق التاريخ، وكان روائيا شاعرا بالدرجة الأولى."

ووصف عمل الكيلاني بهذا الجانب قائلا: "فبالرغم من صدق التجربة للروائي الكيلاني إلا أنه كما يبدو قد غلب صدق الحقائق التاريخية على مقتضيات الجوانب الفنية الأخرى أثناء المعالجة."

أما في المقارنة بين الكيلاني ونجيب محفوظ فقد نقل رأي الكاتب محمد اللطيفي بأنه: "مدرسة رائعة في التميز الروائي لولا أن الكيلاني كان محكوما بالفكر والانتماء، في حين انطلق محفوظ عالميا متحررا من القيود الإيديولوجية."

فنحن أمام ثلاثة روائيين كبار باكثير والكيلاني من الاتجاه الإسلامي في الأدب، ونجيب محفوظ ليس كذلك.
ذكر الدكتور حسن سرباز في مقال له عن الاتجاه الإسلامي في روايات باكثير في الموقع الإلكتروني الذي أنشأه د.عبد الحكيم الزبيدي عن علي أحمد باكثير، فقال: "كتب باكثير ست روايات اعتمد فيها على التاريخ الإسلامي والشخصيات الإسلامية مشِيرا في نفس الوقت إلى أحداث الواقع وشخصياته.
 
صدر باكثير في رواياته عن التصور الإسلامي، واستطاع أن يبرز من خلالها الفكر الإسلامي والقِيم الإسلامية في صور فنية ممتعة، وتتجلى رؤيته الإسلامية في رواياته في الموارد الآتية.."

وبعد أن سرد عدة نقاط قال: "لم يسمح باكثير في رواياته أن تخل الفكرة التي يدعو إليها وينتصر لها أحيانًا بفنية عمله، بل التزم بالشكل الفني للرواية، واستخدم جميع عناصرها الفنية مثل: الشخصية، والحبكة، والوصف والحوار، والسرد والبناء اللغوي - أروع استخدام، وله مهارة خاصة في توظيف الحوار والمونولوج الداخلي واللغة العربية الفصحى في تطوير أحداثه وشخصياته."(ا.هـ)
أما نجيب الكيلاني فقد أصدرت عنه مجلة الأدب الإسلامي، العدد 9-10 الخاص به، وأثبتت فيه 41 رواية له. يقول الناقد المغربي سعيد صادق الوالي في مقاله (مفهوم الكتابة الروائية عند نجيب الكيلاني، ص41-45 من هذا العدد:

 "نجيب الكيلاني، كسائر الرواد والمؤسسين، انطلق من خلال إحساسه بوطأة الواقع الذي يعيشه، هذا الواقع الذي تتجاذبه تيارات شتى، وتنمو فيه تقليعات غريبة، فمن داعية إلى القومية الجاهلية أو إلى الفرعونية، إلى داعية الليبرالية أو الاشتراكية وغيرها، وكلها تيارات تحاول أن تقرأ التاريخ وتعمل على بعثه وفق منظارها الإيديولوجي، فلا عجب أن رأينا نجيب محفوظ يعيد قراءة تاريخ مصر القديم فيكتب روايات (عبث الأقدار) و(كفاح طيبة) و(رادوبيس).."

 ولنجيب محفوظ 46 رواية.

ويقول الوالي: "وليس غريبا أن يبدأ الكيلاني في هذه المرحلة من إنتاجه الروائي (نور

الله) التي تألق فيها على المستوى الفني إلى حد بعيد، فقد صاغ حبكتها بريشة الفنان

المبدع، وهي تمثل لأعظم لحظة في التاريخ، وهي مرحلة الدعوة الإسلامية بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصراع الإسلام المستضعف مع الكفر في شتى صوره. ثم الغلبة في النهاية للزمرة المؤمنة واقتلاعها لجذور الكفر من الأرض."

ويختم مقاله قائلا: "إن الكيلاني استطاع أن يقتحم ميدان الرواية الصعب، ويشيد منها معمارا إسلاميا جميلا، لم يضاهه فيه إلا قلة من أدباء العرب."

ولا خلاف في مكانة الروائيين الثلاثة، وقدرتهم على صياغة روايات فنية عالية بغض النظر عن المضمون، وقد نال نجيب محفوظ شهرة عربية واسعة، ثم جائزة عالمية، وكان باكثير منافسا له، وحصلا على جوائز من الدولة المصرية، وفازا بمسابقات روائية في مصر، ومثلت رواياتهما في الشاشة المرئية المصرية.

 والكيلاني فاز بأكثر من جائزة عن رواياته في مصر، ويكفي شهادة نجيب محفوظ بعلو شأنه في الرواية.

واللافت للنظر في سياق مقال الشيباني هو قول محمد اللطيفي عن الكيلاني أنه "كان محكوما بالفكر والانتماء في حين انطلق محفوظ عالميا متحررا من القيود الإيديولوجية"، وتعقيب الشيباني عليه بالقول: "ولي كلام في نفس الاتجاه".

والسؤال: هل كان نجيب محفوظ متحررا من القيود الإيديولوجية؟

وهل كان انتماء الكيلاني وتوجهه الإسلامي عائقا لسمو فنه الروائي؟

ولماذا لم يكن التوجه الإسلامي عائقا لباكثير؟ فقد قال عنه الشيباني: "وأشعر أن علي أحمد باكثير كان أكثر نجاحا في هذا الجانب من الكيلاني، حيث جمع بين الشاعرية والخيال، وبين حقائق التاريخ، وكان روائيا شاعرا بالدرجة الأولى".

وأنا لا أقصد هنا الموازنة بين الروائيين الثلاثة، فالقضية محسومة فنيا بالترتيب الآتي: محفوظ، باكثير، الكيلاني. ولكن الذي لا يصح هو أن يعزى التفوق الفني إلى التحرر من الالتزام الإسلامي لدى نجيب محفوظ، وأن يكون الالتزام الإسلامي سببا في تأخر الكيلاني، في الوقت الذي لم يكن فيه عائقا لعلي أحمد باكثير!.

فمثل هذه الرؤية النقدية متأثرة بشيء من الأحكام النقدية السائدة المتداولة بأن الالتزام الإسلامي يعيق العمل الأدبي من السمو فنيا.

إننا نعلم أن أدباء القمة يتمايزون فيما بينهم، وللمقارنة لا بد من النظر إلى وحدة الموضوع، ولتكن هنا الرواية التاريخية، فكل من الثلاثة كتب روايات تاريخية، فما هو مقدار نجاح كل منهم، وما هو مدى إخفاقه!؟

 والجواب عند الباحث الذي يقوم بدراسة مقارنة بين الروائيين الثلاثة.

أما عن إيديولوجية نجيب محفوظ وتحرره وانطلاقه في آفاق العالمية فأنقل ملخصا مما كتبه د.عبد القدوس أبو صالح رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية ورئيس تحرير مجلة الأدب الإسلامي بعنوان (كلمة هادئة حول نجيب محفوظ وجائزة نوبل)، والمنشور في كتابه (أحاديث وأسمار، ط1، الرياض 1432هـ/2011م)، يقول: "ولعلّني لا أخرج عن الاعتدال حين أقول: إنه يحق للعرب أن يفرحوا بمنح جائزة نوبل لنجيب محفوظ لأنها تمثل رد اعتبار للأدب العربي الذي يملك من التراث الضخم عبر خمسة عشر قرناً ما لا تملكه أمة أخرى في العالم كله!.. بل لعل منح هذه الجائزة لكاتب عربي يعطي أدباء العربية جميعاً شعوراً بالاعتزاز والثقة بالنفس بعد أن كثرت الشكوى من أن الأدب العربي لم يأخذ مكانه بجانب الآداب العالمية الأخرى."

      ويرى د.عبد القدوس أن نجيب محفوظ يستحق الجائزة بالدرجة الأولى على ثلاثيته الرائعة (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية)، فيقول: "وقد سبق أن كتبت عن هذه الثلاثية منذ سنوات أنني لم أجد بين الروايات التي تناولت عالماً متداخلاً عبر أجيال متعددة ما يداني هذه الثلاثية إلا رواية الجذور لأليكس هيلي.. ولم أجد ما يداني ما فيها من الألوان المحلية إلا ما كتبته بيرل باك في رواية الأرض الطيبة التي حازت بها جائزة نوبل أيضاً. ولقد قرأت كلا من هذه الروايات أكثر من مرة ليطالعني في كل منها شيء جديد لم أتعرفه من قبل، وهكذا شأن العمل الأدبي الرائع، لا يكاد يعطيك أسرار جماله الفني دفعة واحدة."

ويتابع حديثه منصفا مكانة نجيب محفوظ الأدبية، فيقول: "وعلى كثرة ما كتب عن ثلاثية نجيب محفوظ فإن التساؤل عن سر روعتها ومبعث فرادتها ما يزال قائماً: أترى ذلك يعود إلى كونها شاهداً على عصر كامل، عاشت فيه مصر تحت نير الاستعمار صابرة مستكينة إلى أن تحرك المارد الذي كان حبيساً في القمقم؟ أم تراه في التواقت الزمني حيث يسير الحدث القصصي موازياً للحدث التاريخي في تنسيق محكم؟ أم ترى أنّ نجيب محفوظ قد استطاع أن يستهوينا بمزجه بعض المواقف الإبداعية (الرومانتيكية) التي كانت شعاراً للجيل السابق (مثل تجربة كمال ومشاعره نحو عايدة التي تذكرنا بناتاشا في رواية الحرب والسلام لتولستوي) مع الواقعية الغالبة التي تميز أعمال الجيل اللاحق؟!.. أم تراه استحوذ على إعجابنا بنماذج الأبطال المتنوعين الذين أبدع تجسيمهم على كثرتهم، وأحسن انتزاعهم من صميم الحياة حتى لا يعدم القارئ أن يجد شخصية من شخصيات الثلاثية الرئيسة أو الثانوية، يتعاطف معها لأنها تحكي تجربة عاشها بنفسه أو عرفها فيمن حوله، على الرغم مما يؤخذ على نجيب محفوظ من الميل إلى اختيار شخصيات نمطية هابطة في معظم رواياته."

ولكن هذا الإنصاف لمكانة نجيب محفوظ الأدبية فنيا لا يمنع الناقد د.عبد القدوس من رؤية الجانب السلبي في رواياته، فيقول: "ولكم كنت أتمنى أن يقف نجيب محفوظ عند الثلاثية، فلا ينحدر بعدها إلى العبثيــة الفـارغة التي رأيناها في رواية القاهرة الجديدة، قبل الثلاثية، ولا إلى الرمزية الغامضة التي تخفي كثيراً من بذور الشك تحت ستار النزعة الفلسفية التأملية، وتحت قناع من الحذر الشديد، كما في رواية أولاد حارتنا، ولا إلى الواقعية السوداء أو العدمية كما في قصة الطريق، ولا إلى القصة التسجيلية أو الاستهوائية التي ربما اندفع إليها كما اندفع إلى كتابة بعض الحوارات –السيناريو- استجابة لمغريات المخرجين السينمائيين كما في قصة اللص والكلاب، وملحمة الحرافيش، التي اقتبس منها أكثر من فيلم سينمائي."

ويتابع في تصوير الجانب السلبي في روايات محفوظ قائلا: "بل لكم كنت أتمنى أن لا يجاري نجيب محفوظ ما اندفعت إليه أجيال القصاصين في العالم تحت سياط المخطط الصهيوني المدمر من الوقوع في حمأة الجنس وتسويغ الرذيلة.

 وإن كان نجيب محفوظ يحتج باستخدامه للجنس اجتماعياً أو فنياً، فقد أنكر عليه ذلك كثير من النقاد وعلى رأسهم الأستاذ أنور المعداوي حين أخذ عليه استغراقه في جو المغامرات الجنسية لطبقة العوالم المغنيات في ثلاثيته، وحين يصف السقطة الأولى لرضوان بن ياسين أحد أبطال الثلاثية في وهدة الشذوذ الجنسي، فيسجل التفصيلات تسجيلاً حرفياً دون مسوِّغ فني. وهو يفعل الشيء ذاته كلما عمد إلى تصوير الجنس لا في الثلاثية وحدها بل في معظم قصصه، وهذا ما دفع أنور المعداوي إلى أن يتساءل: لماذا يتعرض نجيب محفوظ للجنس، ويهدف عامداً إلى تشريح العلاقة الجنسية في أكثر أعماله؟ هل يعمد إلى هذا بقصد إثارة القارئ كما يفعل غيره من الكتاب بغية الرواج، أم أن له اتجاهاً يتسم بالمنهجية التـي يلتزمها كلون من ألوان التعبير عن وجوده العقلي؟".

ويقول د.عبد القدوس عن إيديولوجية محفوظ: "لا أتردد في الحكم بأن نجيب محفوظ كان دائماً يتأرجح بين اليسار الفكري والحياد السياسي الذي يدفع إليه الحذر الشديد. ومن هنا كان عجبي ممن دفعتهم موجة الفرح بمنحه جائزة نوبل إلى حد الزعم بأن له دوراً إيجابياً من الإسلام ودوره في بناء حياتنا المعاصرة، وقد بنوا ذلك على تصريحاته الصحفية الأخيرة، إذ لا شك أن ثمة فرقاً كبيراً بين ما نراه في إنتاج الرجل عبر نصف قرن وبين تصريحات صحفية بلغ صاحبها السابعة والسبعين من عمره، وصار على حد قوله: لا ينتظر إلا حسن الخاتمة، مع أن هذه التصريحات لم تخل من تمجيد لرموز الحداثة واليسار مثل أدونيس والبياتي ونزار القباني وحنا مينة."

هذا هو تحرر نجيب محفوظ في رواياته وتوجهه في كتاباته؛ من الالتزام الإسلامي،

كما يقول محمد اللطيفي الذي نقل عنه عبد المنعم الشيباني ووافقه.

نحن نؤيد بشدة أن يتناول النقد أي عمل أدبي لأي أديب ذي توجه إسلامي أو غير إسلامي، ولكن نطالب أن يكون ذلك بأسلوب يحقق الموضوعية والتجرد من الأحكام الجاهزة، التي تنسب إلى اتجاه معين، أو أديب معين معروف بتوجه معين، كما هو في الحكم على أي عمل إبداعي ينطق من التوجه الإسلامي خاصة!.