شاعرية القص في مجموعة " ظلال وارفة "

شاعرية القص في مجموعة " ظلال وارفة "

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

- 1 -

مؤلفة هذه المجموعة هي الدكتورة سعاد الناصر ( أم سلمى ) من مواليد 1959. نشأت في بيت علم ودين ، وقد انشغلت بالمعرفة منذ طفولتها ، فقد كانت تقرأ على والدها بعض التفاسير خاصة " فى ظلال القرآن "  لسيد قطب قبل أن تفهم معانيها بصورة جيدة . وقد تزوجت في الرابعة عشرة فانقطعت عن الدراسة مؤقتا ، وبعد أن أنجبت أربعة أطفال تابعت دراستها  مرة أخرى فنجحت بامتياز في امتحانات البكالوريا سنة: 1982 . ثم التحقت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان , وفي دراستها الجامعية أصدرت ديوان : لعبة اللانهاية سنة:1985 وديوان: فصول من موعد الجمر سنة:1986, وتخرجت في الآداب سنة:1988.ثم حصلت على الماجستير سنة:1993عن موضوع  :صورة الغرب في الفن الحكائي المغربي الحديث؛ فعينت مدرسا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان . ثم أصدرت مجموعتها القصصية: إيقاعات في قلب الزمن سنة:1995 . وبعدها قامت بتحقيق الرحلة التي قام بها الشيخ محمد الصفار من تطوان إلى باريس تحت عنوان : الرحلة التطوانية إلى الديار الفرنسية . وقد حصلت على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي بتقدير " حسن جدا " في موضوع : " الحركة الأدبية - دراسة في المكونات و الأجناس-1930-1970 " .

وسعاد الناصر تهتم بقضية المرأة , ونشرت عدة مقالات حول  قضاياها في مجلات محلية وعربية مختلفة . وكتيبا بعنوان:بوح الأنوثة من تقديم الدكتور محمد  الكتاني في سلسلة شراع المغربية . كما أنها تشارك في العديد من الملتقيات الفكرية والأدبية داخل المغرب وخارجه . ولديها عدة مخطوطات في الشعر والقصة والدراسة الأدبية والفكرية ستنشرها تباعا .

-2-

وتضم مجموعتها " ظلال وارفة " (منشورات سلسلة روافد قطاع الشئون الثقافية بوزارة الأوقاف ، الكويت ، 2007م = 1432هـ  ) ؛ عشرين قصة تشير عناوينها إلى دورات الحياة المتنوعة بأفراحها وأحزانها ، ومسراتها ومعاناتها ، وتقلبات الحالة النفسية والاجتماعية بالإنسان السوي ، وغير السوي ، ولكنها في كل الحالات تشير إلى شخصيات متطورة ومتحولة تنتقل من حال إلى حال ، ومن سلوك إلى آخر . ولنتأمل مثلا عناوين بعض القصص ، مثل : رجوع ، آن يا رب ، البحر ، حين تزهر أوراق السفر ، توبة ، ولادة ، لعبة الحياة ، تعلم ، تماس، أغصان السكن ، مقلاة السفنج ، هروب نورس اليقين ... إنها عناوين تعبر عن حركة الحياة وتنوعها والدخول إلى معمعتها والاشتباك معها ، والتنعم بحلاوتها والتجرع لمرارتها ..

وعنوان المجموعة " ظلال وارفة " ؛ يمثل مدخلا رقيقا إلى الشاعرية التي تحكم هذه المجموعة وتسري في مفاصلها ، وتؤكد على شاعرية المؤلفة التي عبرت عنها نظما في المجموعتين اللتين سبقت الإشارة إليهما ، وعبرت عنها نثرا في السياق القصصي الجميل قي هذه المجموعة القصصية وغيرها . وبصفة عامة ، فالشعر يمثل للكاتبة حياة كاملة تظلل ما تكتبه بظلال وارفة ، وهو ما عبرت عنه بقولها : " منذ بدء الحنـين، كانـت القصيـدة ولم تـزل ، تتعمق كوشـم صارخ فوق جسدي، هـي لقـاء في سمـاء متوضئـة بالسـؤال، أبتعـد عنها كلمـا احرقني الواقـع بفيـض يغمـر شاعريتي، لأتجه صوب وجهها الغائب في ثنايا السرد، ألج عنفوان القصة القصيـرة، فأنبتـتـني أول مجموعة:"إيقاعات في قلب الزمن"  ، و تقول: الكتابة نهر من أزهار وأطيار وأشواك وعلامات، تبوح بأسرارها.. " .

وروح القصيدة موجودة في المجموعة التي بين أيدينا – أعني ظلال وارفة – وتهيمن على أهم خصائصها ومميزاتها التي يمكن الإشارة تلمسها في حضور المكان والأمومة والطفولة والحياة الزوجية والتحول السلوكي والتناص والتضمين والمجاز ..

- 3 -

وحضور المكان في المجموعة قائم بقوة : البيت – المدينة – البحر - الطريق – مكان العمل أو الدراسة أو المصنع أو مرتيل أو الغرب الانجليزي  ..

والمكان يمثل منبعا للشاعرية الجارفة سواء بالحب أو بالرفض ، وهو رمز الحنين والانتماء ، وهو أيضا مفجر أحاسيس الغربة ، والكاشف عن قسوة الأجانب وبرودهم وتعاملهم المادي الذي لا يعرف معنى التراحم والمودة ..

يدرك ذلك من فارق الوطن وذهب إلى بلاد غريبة لا أهل فيها ولا خلان ، ففي قصة رجوع نرى البطل المغترب يرثي نفسه ، وقد تحول إلى مجرد آله بلا روح ، مما يدفعه إلى القول :"كنت أتمنى أن أكون ثورا في بلدتي على أن أعيش هنا بهذه الطريقة .لم يعد عندي إحساس بالفرق بين شيء وآخر ، أصبح رحيل النهار كرحيل الليل ، وأصبحت أعيش خارج حدود الزمان والمكان " ص 15 .

ثم تتفجر مشاعره وأشواقه إلى أهله وموطنه والبحر الذي عاش بالقرب من شاطئه ، وكأنه يعيدنا إلى المتنبي وهو يحن إلى أهله ، والشاعر المعاصر الذي يحن أمه وخبزها وقهوتها ، يقول:

" اشتقت إلى حنان أمي ، إلى لهفتها على ، افتقدت الجلوس مع عائلتي على مائدة واحدة، نأكل في صحن واحد ، نتسابق على قطع اللحم القليلة ، نتبادل لضحكات . افتقدت كثيرا زرقة البحر الذي كنت أطل عليه من نافذة غرفتي ، رائحته المختلطة مع صدى الأذان ، افتقدت سريان الحرارة في مشاعري ، لم أعد استطيع الاستمرار في هذا المنفى ، تخليت عن كل شيء، وهانا أحاول استعادة شيء من الصفاء " ص 15.

لقد كان البطل الشاب في قصة رجوع يرغب  في الزواج من فتاته الزميلة الطالبة في الجامعة  كان يبثها إعجابه ورغبته القوية في مشاركتها حياته ، واتفقا على أن يتقدم لخطبتها بمجرد حصوله على وظيفة كيفما كانت ريثما ينهي دراسته العليا . كان واثقا من تهافت الشركات عليه بمجرد تخرجه لامتلاكه التفوق في تخصصه وخبرة نادرة نتيجة التدريب في عدد من الشركات .. ولكنه اصطدم بأرض الواقع فقد توفي والده ولم تقبله شركة من الشركات فقرر الهجرة إلى دولة غربية وتزوج بريطانية وبدت عليه تغيرات جسمانية بسبب دوامة العمل المتواصل وتحكم زوجه البريطانية فيه بسبب ممارسات عديدة لم يكن يتصور أنه يمكن أن يقدم عليها يوما . وقع على أوراق تؤكد أنه مدين لها بآلاف الدولارات . قالت إنها مسألة شكلية فقط ، ليوافق صديقها على توظيفه . ولكنه افتقد السعادة والأمان ، ولم يحصد غير التعاسة والاضطراب ، ومع ذلك فهناك " كثير من الشباب يحسدونني على ما أنا فيه ، لا يعرف قيمة الوطن إلا من تغرب عنه ، وذاق طعم المرارة الذي ينفجر من كل زاوية من زوايا الغربة ، ولا الاستمتاع به إلا من قلبه عليه انفطر " ص  15 .

ويؤكد بطلنا الشاب هنا تعلقه بالوطن أو المكان ، لأنه رمز للأمان والصفاء ،أما المكان الآخر ، مكان الغربة ففيه الاستغلال ، والقيود ، والعمل المستمر بلا رحمة ولا عائد ؛ اللهم إلا إرضاء السيد الأجنبي القاسي ، وهو هنا يتمثل في الزوجة التي حصلت على توقيعاته وصار مدينا دون أن يأخذ شيئا حقيقيا ذا قيمة في المقابل ، وأصبح مستعبدا لها ، تتحكم فيه وتحركه كيف شاءت لا كيفما يريد هو . يتحول الوطن إلى مكان آمن يستحق من أجله أن يضحي بالزوجة البريطانية الأنانية القاسية .

وإذا كان بطل قصة رجوع يحن إلى زرقة البحر التي افتقدها في غربته ، فإن البحر في قصة تحمل اسمه إلى حالة من الشاعرية الفياضة المترعة بالأسى والغموض ، بل إننا نرى مدى تأثير البحر على البطل بل الكاتبة ، وذكريات الطفولة على شاطئ البحر ، وانتظار السفن القادمة بالصيد ، أو السفن الذاهبة إلى الصيد ، وها هو بطل القصة يتغزل شعرا شفافا - إذا صح التعبير - في البحر ، وعالمه الزاخر :

" تطلع بعينين حالمتين إلى البحر ، تمتد أمامه زرقة منبسطة تلتقي بحمرة متناثرة ، فيشكلان لوحة طبيعية رائعة ، أصاغ السمع إلى الهدير الخافت الممتد منه إلى شرايينه ، ثمة زورق يستعد لرحلة ليلية في صيد السمك ..." ص25 .

وها هو يسجل بعض ذكرياته مع البحر في طفولته :

" كانت أمه توقظه مع الفجر ، ليذهب إلى الشاطئ مع إخوته ومجموعة من أطفال القرية لانتظار السفن الصيد التي خرج بها آباؤهم ، فتخرج السفن ، ويفرز السمك ، ويذهب كل واحد إلى شأنه، ويظل هو في البحر ، يضمه بصدره ،ويدخل معه في علاقة حميمة خاصة ، حوارية أو صامتة ؛ إلى أن تغيب الشمس .." ص 25.

هذا البطل هو نسخة مكررة بطريقة أخرى من بطل قصة رجوع، فهو يحلم بالهجرة إلى الشاطئ الأخر ، وتحقيق الحلم بجمع الثروة ، ولكنه ينتظر دون جدوى :

.." أخذ حجرا وجلس عليه بين يدي التلفزيون ، في انتظار موعده مع الرجل الذي وعد بترحيله إلى الضفة الأخرى من البحر ، بعد أن سلمه كل النقود التي ادخرها لزواجه من جارته .." ص26 .

ولكن أحدا لا يعرف ماذا جرى بعد الانتظار الطويل ، وضياع مدخراته ، فنهايته غامضة ، وتعددت الروايات عن مصيره المجهول :

" وفي كل مساء ، تختفي الشمس في الأفق الوردي ،باسطة للتواصل مع الشاطئ جسرا بلوريا يتلألأ على صفحة البحر " ص 26 .

هكذا تأتي الخاتمة الشاعرية للنهاية الغامضة ،وكأنها توحي أن البحر مصنع الأسرار والأحزان معا ، وعبوره مصدر خطر عظيم !

البحر حاضر في السرد بكثافة ، والتعبير عنه كأنه الحياة المتوهجة التي تستشعرها شخصيات القصص بصورة يبدو فيها البحر مهيمنا على الروح والوجدان كما تقول الشخصية الرئيسة في قصة " نوارس اليقين " : 

" البحر بالنسبة إلى ذاكرة نحو عبور مرافئ الروح ؛ هنا بأرض كاظمة تطل شرفة غرفتي على الخليج العربي الممتد مثل فجر بلوري ، وبمدينة الحنين و"طيبة " ، يطل بيتي على المحيط الأطلسي كأنه فاتح يقود جيشا ضد الظلام ، وأنا المسافر من بحر إلى بحر كأني سندباد العصر، أجد مرافئ الروح في البحر ، ولكن لوحاتك تخلو من البحر فهل صار ، في روحك ، كومة من ملح أجاج ؟ " ص 133

 

- 4 -

 

ومن خصائص قصص المجموعة تحول الشخصية القصصية من وضع إلى آخر ، قد يكون أكثر إيجابية وحركية ، حيث إن الثبات أو الجمود لا محل له غالبا ؛ فالشخصية الناشزة أو المنحرفة غالبا ما تتحول ، وتنتقل من حياة الاستهتار والانحلال إلى حياة الاستقامة والالتزام ، كما نرى في  قصة آن يا رب التي تتناول تحول أحد الشبان الذي يمثل صورة للسلوك المنحرف ، وتشير إلى بعض ممارساته السلوكية  ، مثل تفوقه في الغش في الامتحانات ، وصداقته لشلة من الزملاء على شاكلته ؛ تتكاثر مجاهرتهم ، ومطاردته لنماذج من الفتيات الساقطات اللاتي كانوا هدفا له ،وتأتي عملية التحول من خلال فتاة ملتزمة تتأبّى عليه ، وهو الذي كان يفاخر بأنه لا توجد فتاة تستعصي عليه ، ولكن الفتاة التي استعصت عليه تتراءى كشمس وسط ظلمة قاتمة ، وصوتها يخرق أذنيه :

" .. الشباب أصبح بالونا فارغا من أي محتوى ، اهتماماته تافهة ، رغباته مدنسة ، لا هدف  له  في هذه الحياة سوى العبث .." ص 20 .

صاحبنا يجلس وسط شلة من أصدقائه في مقهى الحي ، يرتفع لغطهم ، تتكاثر مجاهرتهم ، يتعالى أذان المغرب ، يحس بقلبه يخفق، وهنا تتبلور عملية التحول حين يسمع صوت المؤذن ، كان صوت المؤذن شجيا ، يكاد سنا تأثيره يخترق القلوب الصدئة ، منذ مدة وهو يشعر بقلبه يتندى كلما سمع الأذان ، وكثيرا ما تساءل عن طبيعة إحساسه لو أنصت للقرآن ، ضحك بصوت مرتفع كأنه يطرد هذا الخاطر ، حاول الانخراط في رواية المشاهد العارية والنكت البذيئة ، شعر بالملل، بالرغبة في التقيؤ ، بلع ريقه ، صعد طعم مُرّ إلى لسانه ، سمع صوت الجالس إلى جواره يقول له :

- ماذا بك ، ألن تسمعنا صوتك هذا المساء ؟ الظاهر أنك مستغرق في التخطيط للإيقاع بإحداهن .." ص 19. 

هكذا تبدو عملية التحول في تصاعد منطقي ، يتحرك من نقطة منخفضة إلى نقطة أعلى حتى يصل إلى مرحلة التحول الكامل التي تقطع ما بينه وبين واقعه الفاجع .

وهاهو وهو يجلس في المقهى يتململ في مقعده كأنه جالس على رزمة من مسامير ، هب واقفا ، خرج إلى الشارع ، داعب الهواء وجهه ، شعر برغبة شديدة في الاغتسال ، لم تكن أمه موجودة في البيت كعادتها ، وجد أخته جالسة أمام الانترنت مستغرقة في الدردشة الكتابية مع أحدهم . اغتسل ، أرجع شعره لطبيعته ، جلس  أمام التلفزيون يبحث عن قناة يمكن أن تعجبه ، لم يكن يدري عمّ يبحث ، لكنه استمر في البحث ، وجد قناة تبث آيات من القرآن ، تسمر أمام القارئ سمعه يقول :

" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ". ص 20

كان صوت القارئ نديا ، يسري في القلوب الظامئة فينعشها ، خفق قلبه بشدة ، اهتزت أعماقه لعمق الكلمات وجرسها ، حزن شديد سيطر عليه ، لأنه مع تأثره لم يفهم المعاني ، كان يحس أن الكلام موجه إليه ، وأن الله تعالى يخاطبه ، لم يعرف ماذا يقول له عز وجل أسرع إلى المعجم يحاول شرح الكلمات الرائعة التي سمعها " أما آن ..."، توقف كثيرا عند المعاني والدلالات ، هتفت روحه : " آن يا رب " كانت الدموع تنهمر على خديه ، تقطر في أعماقه قطرة فقطرة ، السؤال يكبر فيه ويكبر : " هل هناك أمل في النجاة ، في الخروج من الزيف الذي أعيش فيه ؟؟ يا رب ، يا رب "فتش عن القرآن الكريم ، وجده بين الكتب المجلدة ، كانت أمه تضعه للزينة والتباهي في المكتبة الصغيرة المنزوية في ركن الغرفة ، أخذه ، نفض الغبار عنه ، احتضنه ، بدأ يقرأ فيه ، أحس بسكينة واطمئنان في صدره ، تشبث به بقوة ، وقرر الانخراط في الحياة "

في الصباح كان واقفا ينتظر الحافلة التي ستقله إلى كليته ، وجدها تنتظر أيضا، حين اقترب منها ؛ حدجته بنظرة راضية وقالت : " الله المستعان " ص 21

 

- 5 -

يمكن القول إن هناك خاصية أخرى تحفل بها المجموعة ، وهي خاصية الاستغراق في قضايا الأمومة والطفولة والزوجية وعلاقة المرأة بالرجل بصفة عامة ، وهو أمر طبيعي بالنسبة للكاتبة ؛ لأن الاهتمام بهذه القضايا يكاد يكون شأنا أنثويا بالضرورة ، ويمكن أن نجد التعبير عن ذلك سائدا في كثير من قصص المجموعة ، بوصف المرأة محورا أساسيا في الحياة ، وحياة الأسرة بصفة خاصة ، وفي الغالب فإن القصص تقدم روحا إنسانية مترعة بالمودة والتعاطف بين الرجل وزوجه ، وبين الأم وابنها في إطار من الشاعرية الحميمة التي يمكن وصفها بالغزل بين روحين أو بين نفسين ، تشبه غزل الصوفية ، ولكنه مربوط بالأرض والواقع .

ومن يقرأ على سبيل المثال قصص "حين تزهر أوراق السفر" و" ولادة " و" أغصان السكن " و" نوارس اليقين  " ؛ يجد علاقة إنسانية حميمة تصوغها الكاتبة شعرا منثورا ، وتقدم وجها إيجابيا للعلاقات الخاصة بين أفراد الأسرة ، نفتقده في كثير من الإنتاج الأدبي المعاصر الذي تغلب علية حالة تشاؤمية أو مادية جافة .

في قصة " أغصان السكن " تعالج الكاتبة بطريقة بارعة مسألة خفوت المشاعر في الحياة الزوجية والصمت الذي يخيم على هذه الحياة لتقادم الزمان أو تقدم العمر بالزوجين ونشوء جيل من الأولاد الذين يكبرون ويتزوجون وينجبون ، وقد يغيبون بعيدا عن الوالدين ، أو يستقلون بسبب تكوين أسر جديدة ، فيكون هناك فراغ ، وحنين إلى الأحفاد والحياة التي كانت في مطلع الشباب .

تأخذ المرأة المبادرة في هذا السياق ، وتسعى إلى تجاوز الواقع الذي يحكمه البرود والصمت في الحياة الزوجية

 [ ... كانت تريد أن تختصر المسافات التي اتسعت بينهما، لم تكن تعرف كيف تصيخ السمع لأصوات آتية من خلايا الأفكار " انحبست أشياء دافئة وناعمة في صدري ، أوهمتني أحلامي ألا شيء يمكن أن يطفئ حنينه إلىّ ، لكن انصرام الزمن أفرز قحطا مضنيا ، ولم يُبق سوى فراشات الشوق تحترق في شراييني "] ص112 وما بعدها .

ولاشك أن هذه المبادرة تفعل  فعل السحر في تغيير الأجواء ، وتحريك الطرف الآخر ، ليشارك بطريقة ما في المبادرة ويستجيب لها :

" فطن إلى تغييرها ، محاولاتها الدائبة للفت انتباهه إلى حنين متجدد ، نكأت جرحا في صدره ، ظن أنه دفنه في قبر اللامبالاة والصمت .تحدث إليها بصمت ، فما عاد يبثها ذرة من مشاعره المتدفقة ، منذ تأكد أن عواطفها كلها حولتها إلى أولادها ، وما بقي منها نثرته في عملها الإداري والبيتي ، واكتفي منها بما يفرضه ضغط الجسد :

في مرافئ عينيك ترسو سفن عشقي ، فاردة أشرعتها تجاهك ، وأخاف أن يكون الصدأ قد علاها ،فلا تسافر من جديد في بحار عطائك ".

" قامت وأطفأت زر التلفزيون ، فقد صممت على استرجاع زوجها إلى دفء حنانها ، وتسقي أغصان السكن من جديد ، وقد آن الأوان أن تبحث عن تبحث مياه عذبة لذلك " ص  113

ولا شك أن المرأة الذكية تأخذ زمام المبادرة وتصلح الوضع الأسري بما تملكه من حيل لا تملكها غير المرأة ، وهو ما يجعلها تتجاوز السلبيات وتطفئ وساوس الصمت والبرود العاطفي !

وإذا كانت المرأة الذكية تغازل زوجها لاستعادته من بحار الصمت ، فهي تغازل ابنها الذي يستعد للسفر والهجرة خارج البلاد طلبا للعلم كما نرى في قصة " حين تزهر أوراق السفر ". الأم بوصفها جذرا والابن بوصفه فرعا ؛ العلاقة بينهما علاقة وجود وحياة وليست مجرد علاقة انتماء أو نسب .  يوم سفر ابنها لم يعرف النوم طريقا إليها ؛ لأن جزءا منها سيغادرها ، ويتركها وحيدة تنتظر : " لم يبق على أذان الفجر سوى لحظات حين سمعته يخرج من غرفته بهدوء ، شعرت لحظتها كم سأفتقد هدوءه .. كم سأفتقد ابتسامته الحيية التي لا تفارق وجهه .

سأفتقد ذلك البوح الذي يختزله أياما في صدره قبل أن يتدفق بغزارة ، فأتلقاه في صدري ، وأعيش معه همومه ومشكلاته؛ وأغوص وراء آماله وأحلامه ... " ص 29

وتواصل الأم التعبير عن مشاعرها من خلال وصف لحظات الوداع بينها وبين ابنها  في تصوير حيّ مشبع بمعجم الأمومة ومفرداتها ، مستخدمة أسلوب الالتفات أو التحول من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب :

" ضممته إلى صدري بقوة وكأني لا أريد تركه أبدا ... دفنت رأسي في عنقه ، ووددت لو توقف الزمن وأنت بين أحضاني يا أعز حبيب لأشم بقايا من طفولتك ، وأتتبع مجرى الحليب الذي ألقمتك إياه ليسلمني إلى مرسي الرجولة في عينيك .. تشدني من كتفي وتقول :

- أمي ادعي لي ، فهذا أكثر ما أحتاج إليه في هذا الوقت .. سأشتاق إليك يا أمي .." ص 30

" ورحلت ، سافرت وتركت حضورا كالشعاع في جيد القصيدة ، وأدركت أن مفردة الشوق لا تستوعب مثقال ذرة مما أشعر به في غيابك .. الغياب ..هل أنت حقا غائب؟ وهذه الومضات التي تعانق رحاب القلب ، وتغزو الوجود ، وتخفض لي جناح الذل من الرحمة حتى تمنحني السكينة .. وأعرف أنك تحاول أن تجد نفسك في هذا الفضاء الذي لا يحمل أي بشائر .. أن تنمو نخلة متسامقة في أفق الكرامة .." ص30

ومن خلال حوار تقريري منطقي تخمد العواطف المشبوبة ، وترضى الأم بالأمر الواقع :

" – أمي لست مسافرا من أجل المتعة أو اللعب ،تذكري أنني ذاهب من أجل العلم ، ألا تعتبرين هذا فرضا وجهادا ؟؟". ص 30

" .. أعرف يا بني أنه لم يبق أمامنا من طريق سوى العلم ثم العلم ، فهذا زمن الإعصار واللعب في هاوية الدار ، ولن تستطيع الصمود إلا بثمار "اقرأ" ثم "اقرأ " ...ص31

قصص المجموعة تعالج واقعا أسريا يشغل المرأة والأطفال والأزواج ويمتد إلى آفاق متعددة ، فهناك الأم الكبرى

وعناء الأطفال والمفارقة التي تحدث في بعض الأسر بين طفل ينطق بعد فترة طويلة من الصمت  وولادة طفلة صغيرة شقيقة ، ولعب الأطفال وشقاوتهم ، واكتشافهم عفوا بعض الحوادث أو الجرائم ، فضلا عن مشكلات المرأة المتعبة المقهورة والطفولة المعذبة واللجوء إلى السحرة والدجالين لحل هذه المشكلات .

والمجموعة تطرح هذه القضايا وغيرها من خلال تصور إسلامي ينحاز إلى الإنسان دون نظر إلى جنسه أو نوعه أو انتمائه .

-6-

وانطلاقا من التصور الإسلامي نجد المجموعة تستدعي بعض آيات القرآن الكريم ، لتبرهن بها على تحول الشخصية ، وتغيرها من حال سلبية إلى أخرى إيجابية ، وهي ظاهرة فنية جيدة افتقدناها في كثير من النصوص الأدبية المعاصرة ، خاصة بعد هيمنة ذوي الاتجاهات غير الإسلامية على المشهد الأدبي ، وسيطرتهم على وسائط التعبير والنشر !

 في قصة آن يا رب " نجد صوت قارئ القرآن يأتي عبر قناة تلفزيونية ، ويتلو آيات قرآنية تتوافق مع الحال التي يعانيها بطل القصة الذي استغرقه الانحراف ، وأخذ يمله ويترقب حالا أخرى أكثر اطمئنا وراحة وأمنا ، فنسمع ونقرأ الآية الكريمة " ألم يأن الذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ؟ " ، والآية تدفع صاحبنا إلى البحث عن معاني الكلمات التي لا يفهمها ، ومن ثم إلى التفتيش عن المصحف الذي تضعه أمه بين كتب الكتبة الصغيرة في البيت من أجل الزينة ، فينفض عنه الغبار ويحتضنه ،ويبدأ القراءة فيه لتظلله السكينة وتبدأة التحول والانتقال إلى الاستقامة والطهارة والخشوع . وهكذا يكون استدعاء الآيات القرآنية عنصرا مهما في تحول الشخصية القصصية من ناحية ، واتساقا مع التصور الإسلامي من ناحية أخرى  .

والقرآن أيضا يمثل وسيلة للترحم على الغائب أو المفقود بحكم العقيدة والثقافة كما نرى في قصة البحر " حيث غاب الشاب الذي كان ينتظر السفر إلى الشاطئ الآخر ولم يعرف الناس مصيره وتتعدد الأقاويل حوله ، فيقول إمام المسجد :

" تعالوا نقرأ عليه القرآن ، ونهديه له حيا كان أو ميتا ، واحذروا الغرباء ، ولا تخالطوهم إلا بالمعروف الواضح ؟  " ص 26

وقد رأينا استشهاد الأم بآية "اقرأ" للتدليل على ضرورة طلب العلم لبناء الأمة ، في قصة حين " تزهر أوراق السفر "  . ثم إنها أي الأم تقرأ القرآن وتتبادل القراءة مع زوجها في قصة " ولادة " عند أذن الطفل المريض طيلة شهر تقريبا وهو مسجى أمامهما في غيبوبة ، أملا في الله كي يشفيه . وفي قصة "حكاية عُمْر" نجد بطلة القصة تقرأ القرآن وترتله ترتيلا رائعا يتلألأ في وجهها نورا وضياء .  ص106  

استدعاء القرآن الكريم يمنح الرؤية الفنية في المجموعة بعدا عميقا بلا ريب ، وأيضا فإن استدعاء الحديث الشريف يؤدى المهمة الفنية نفسها ، وإن كان استدعاء الحديث الشريف لمرة واحدة في قصة " الوظيفة "مرتبطا بالزواج " إن جاءكم من ترضون دينه فزوجوه ، إن لم تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير " ص89.

ويرافق استدعاء الحديث معجم إسلامي يتردد عبر سطور المجموعة يؤازر التصور الإسلامي ويضيئه ، فهناك القرآن والحديث والتسبيح والذكر والاغتسال والنور والضياء والأمل والسنا والمجاهرة والأذان والمئذنة والآيات والدعاء والرجاء والله المستعان والتوبة والركوع والسجود وركعتا الفجر وسبحان ربي الأعلى والتكبير والحمد لله والتوكل على الله والله معنا وقضاء الله والحمأ المسنون والعلم فريضة وخشية الله ومجمع البحرين ويثرب والإنس والجان ...  

- 7 -

يمثل الشعر في ظلال وارفة حالة مميزة ، فالشاعرية قائمة على امتداد صفحاتها ، وبعض القصص تبدو  قصيدة قائمة بذاتها ؛ وإن لم تعتمد الوزن قصدا ، ومع ذلك فهناك تضمين بأبيات من الشعر القديم ، فبطلة  قصة " حين تزهر أوراق السفر " تستشهد بالشعر القديم في سياق التعبير عن مشاعرها تجاه ولدها الغائب الذي سافر:

" .. وأنا أدمن البكاء .. أحيانا يأتيني على شكل دموع نسائية تستعين بتواطؤ أنثوي لتنبت الأوجاع المتناثرة على صفحات الذات ، وتسقي تمردا أخضر حتى يزدهر أكثر من قوس قزح . فكرت أن إحساس الشاعر الجاهلي بالليل مصيب :

وليل كموج البحر أرخى سدوله       علىّ بأنواع الهموم ليبتلي

ليبتلي ... ( لاحظ تكرار الفعل هنا من جانب البطلة )

فكلني يا أعز حبيب لهمّ أقاسيه سريع الكواكب لأتربع في عينيك ، وأسند رأسي المحموم في صدرك .

غزتني ابتسامة حزينة ، فالشعر يداهمني بحزمات من الضوء ، ويكاد يغويني لأهيم في الملكوت الأرجواني ، وأنا وحيدة تلهب الآلام مرمى بصري ، وتستبيح ذاتي في مواسم الجفاف " ص 29.

وكما نرى فإن بطلة القصة مترعة بالشعر قراءة ومداهمة لأنه يمنح حزمات الضوء . وفي قصة " نوارس اليقين " فهي تعود للتضمين بالشعر :

"أردد في همس كأني في حال الكشف:

فكان ما كان مما لست أذكره           فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر

وأقول :

" ذاكرتي مثقلة بتاريخ طويل لا يمكن الخروج عن مداره "ص 132

إن الشعر يهيمن على الأداء القصصي سردا وتصويرا وحوارا ، وقصة نوارس اليقين آخر قصص المجموعة تبدو قصيدة ممتدة كما سبق القول ، وسأكتفي بنقل بعض سطورها لنرى الهيمنة الشعرية الشفيفة التي تضعنا في سياق التأويل واسع الدلالات والإيحاءات .

"قال باطمئنان :

- أريد لها يثرب اليقين ،ولا يجوز لريشتها المتميزة أن تأسرها ثقافة الطين اللازب ، أو يستغلها سدنة العفن الذي يخلب بصائر الناس .

التحقت بهما ، سمعت ما قال كأنه رحيق تمتصه نحلة عطشى :

- صارت إشارات واضحة بأنهم سيطردونني من حضرتهم ، لأن ريشتي تنادي : " إني أسعى إلى أن أجد على النار هدى "

تساءل في انفعال قوي :

-  " أو مخرجوك هم ؟"

أجبت وقد طأطأت الرأس المثقل بالذكريات :

- نعم

فجاءني كلامه كأنه ومضة نور في جوف الظلام :

" فيمّمي وجهك جهة يثرب اليقين ... " ص 137 وما بعدها .

وكتبت إليه :

- هل من مزيد ؟؟

فأجابني بسؤال محير :

- وما أعجلك نحو  خروجك من قبيلة الألوان التائهة في السواد ؟ ألا تخافين أن يقولوا عنك صبأت صاحبة الريشة الثائرة ؟" ص138

" فإني أجد عصافير من روح أنوارك تعزف إيقاعات عي في لون قوس قزح ، تمس حضوري البهي المتجدد بعد الشروع في رحلتي على يثرب اليقين . صدق وصاياك يختصر الزمن إلى معنى في رحابة الكون ،تقول بناتي : إنه القمر يشدك إليه في أعاليه ، ويقول زوجي : إنه البحر يسكن هدير صمتك ورعشتك، لكني أقول: إنه السندباد يزف لي حلما في شكل نوارس اليقين ، ويخبئ في عيني رياحين السؤال والجواب " ص 139 

- 8 –

شاعرية القص في " ظلال وارفة " يصنعها خيال عريض ن يعتمد على المجاز وتداخل النصوص ، ولو تأملنا الاقتباسات في الفقرة السابقة لوجدنا تصويرا حيا يستند إلى التشبيه والاستعارة بكثرة ملحوظة ، ويعتمد على التجسيم والتجسيد الذي يدخلنا في متعة الشعر ، ويبعدنا عن متابعة السرد بسبب انغماس الكاتبة الشاعرة في ينابيع الشعر الذي يشكل حياتها ويملأ وجدانها . وتأمل مثلا هذه الصورة : " أريد لها يثرب اليقين ،ولا يجوز لريشتها المتميزة أن تأسرها ثقافة الطين اللازب ، أو يستغلها سدنة العفن الذي يخلب بصائر الناس " ، فيثرب اليقين إشارة إلى المدينة المنورة رمز السكينة والطمأنينة ، ومنح اليقين الذي يتكرر في أكثر من موضع ،دلالة على شغف الروح بالوصول إليه والاستقرار عنده " أريد لها يثرب اليقين ، ولا يجوز لريشتها المتميزة أن تأسرها ثقافة الطين اللازب " ، إن ثقافة الطين اللازب رمز الشك والريبة ودلالة على القلق والتردد والاضطراب ، وتأمل لفظة الأسر وما توحي به من فقدان للحرية والإرادة ، وهنا تتقابل يثرب اليقين مع ثقافة الطين اللازب أو الشك والحيرة . ومع جمال الصورة فإنها تدخلنا إلى حالة التفكير العميق والذهنية المسرفة  ، خاصة حين يردف ثقافة الطين اللازب بسدنة العفن الذي يخلب بصائر الناس  .

بيد أننا نرى تصويرا أكثر عفوية وحيوية تتداخل فيه النصوص في المقطع التالي من الاقتباس نفسه :

" التحقت بهما ، سمعت ما قال كأنه رحيق تمتصه نحلة عطشى :

- صارت إشارات واضحة بأنهم سيطردونني من حضرتهم ، لأن ريشتي تنادي : " إني أسعى إلى أن أجد على النار هدى "

تساءل في انفعال قوي :

-  " أو مخرجوك هم ؟"

أجبت وقد طأطأت الرأس المثقل بالذكريات :

- نعم

فجاءني كلامه كأنه ومضة نور في جوف الظلام :

" فيممي وجهك جهة يثرب اليقين ... " ص 137

تأمل التشبيه : " سمعت ما قال كأنه رحيق سمعت ما قال كأنه رحيق تمتصه نحلة عطشى "،فالقول الذي يشبه الرحيق جاء عفويا ، وأضافت إليه وجه شبه ذهني " تمتصه نحلة عطشى " ، والتشبيه : كلامه كأنه ومضة نور في جوف الظلام ، وهو تشبيه معتاد، ولكنه تلقائي ، ثم تأمل تداخل النصوص في قولها : أسعى إلى أن أجد على النار هدى " وقولها : " أو مخرجوك هم ؟"وقولها : " فيممي وجهك جهة يثرب اليقين " ، وهي متداخلة مع قوله تعالى : " لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى " ( طه : 10) ، وقوله – صلى الله عليه وسلم – لورقة بن نوفل حينما أخبره أن أهل مكة سيخرجونه بسبب الرسالة أو الوحي : " أو مخرجي هم ؟ " ، وقوله تعالى : " إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا .. " ( الأنعام ك 79) .

وهذا التداخل مع التشبيه يقدم سبيكة أسلوبية شعرية ، تتساوق مع عواطف الشخصية القصصية الباحثة عن يثرب اليقين .

ويبقى القول إن مجموعة ظلال وارفة " حملت إلينا سردا فيه قرب ومودة ، وشعرا فيه جمال ومتعة .