محبرة الخليقة (28)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

د. حسين سرمك حسن

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

# عودة إلى "قصار القصائد" :     

وتبقى "قصار القصائد" التي ينثرها الشاعر بين نصوصه الأطول التي يترجم فيها - شعرياً - الأساطير القديمة ويضمّنها أفكاره ويحمّلها رؤاه ، مكتنزة بالشعر ، شكلاً ومضموناً . فمن ناحية الشكل تأتي قصيرة سريعة بصور خاطفة ولغة ثرة ، ومن ناحية المضمون فهي تكثّف الأفكار المطوّلة والمواقف الاسطورية المعقّدة في تلميحات موجزة معبّرة ، وهذا هو واجب الشعر . يقول جوزف في مقطوعة "تبادل الظلّ" :

(              ومحوتُ كلّكْ .

               ظلّي جعلتكَ . ها تبدّلتِ

       الرياحُ ،

               وصرتُ ظلّك . – ص 474) .

وفوق أن هذا التبادل يُفهم في ضوء علاقة السلطة الأنثوية والذكورية عبر التاريخ ، فإن من يقرأ هذه القطعة خارج "سياقها" الأسطوري الذي يتناول "السيّد الفأس" الذي وضعها الشاعر في إطاره ، فإنه سيأسى على ما يمكن أن يحدث في أي علاقة إنسانية تُبادل الأقدار فيها التوازنات بين طرفيها ؛ حبيبين أو صديقين ، أو فرداً وجماعة ، وهكذا . إن الشعر الكبير الذي ينطلق من مشغل الشاعر الداخلي يصلح لأي وقت ، ولأي حالة إنسانية .. لا يُستهلك .. ولا تنفد معانيه .

في مقطوعة "إبحار" يُبحر زورق الأنوثة الملتهبة نحو سواحل بحر الذكورة الممتدة كقيثارة (يمكنك كما قلت أن تُغمض عينيك وتتخيّل الصورة عن حركة الزورق على أوتار قيثارة أمواج الساحل) .. مستنيرة بمنارة الذكورة في تعبيرها الرمزي :

(              قُبلي زورقُ بحرٍ . أنتَ البحرُ .

          الزورقُ ينسابُ إلى ساحلكَ الممتدِّ

               كقيثارهْ .

               تحتَ الخاصرتينِ

               لديكَ منارهْ . – ص 486) .

في نصّ "الحقل" كما هو الحال في النصين السابقين والنصوص القصيرة المقبلة ، يأتي هذا التغنّي المرهف للأنثى ليس بجسد الرجل حسب بل بالحاجة إليه ، وكأن الشاعر يخرج الآن من إطار الأساطير ، وينقل إلينا الموقف "اليومي" العادي والطبيعي بين أبناء البشر . الأنثى تحتاج الذكر .. هكذا ببساطة . وفي هذا النص ، بل في كل النصوص ، لا ينقطع ينبوع الطبيعة الرمزي عن مدّ الفعل التصويري للشاعر بالرموز التي لم تسنفد معانيها وتمثيلاتها عبر العصور :

(              إنّي حقلكَ

               فاجعلْ غيمَ الليلِ يدكْ .

               يا مُخصبَ أعماقي لا

        تحرمنيْ

               جسدكْ . – ص 490) .

وتأتي ندءات الأنثى في هذه المقطّعات "طبيعية" تعبّر عن حاجة أصيلة بلا عقد ولا تحسّبات ، تعبّر عن هذا النزوع الكامن للإتحاد بالجنس المكمّل . وهي "أسطورة" جوزف حرب في نزوعه الإنساني المتوازن بين الأساطير القديمة . ولو عدتَ – سيّدي القاريء – إلى قصار القصائد في القسم السابق "السيّدة الشجرة" ، لوجدتَ اتساقاً واستمراراً في طبيعة "الصوت" الكامن وراء هذه النداءات ؛ صوت الأنثى التي ترفض تعطيل دورها الإخصابي الجنسي المباشر ، والتي كعادتها تماهي نفسها بالطبيعة ومكونات الكون :

(                    لا نومَ يموجُ بهاتينِ العينينِ .

   ومشتعلٌ جسدي لكأني أحرقتِ الشمسُ من الغيمِ

                     حواشيْ .

                     يا منْ يأتي

                     لفراشيْ . – ص 504) (نصّ "يا من يأتي") .

إن "أساطير" جوزف تبحث عن "التوازن" الذي يجعل الكون والحياة الإنسانية مستقرة ومتوازنة ، توازن يفرض تحمّل بعض الخسارات التي قد تكون كبيرة ، ترتضيها الأنثى التي لا "تخسر" في كل الأحوال مادامت تعرف - وبصورة مؤكدة - أنها الأول والآخر ، والبدء والختام :

(                    وأخذتَ منّي تاجي الملكيَّ ، روحَ

          ألوهتيْ . وعلى صوالجتيْ

                     وضعتَ يدكْ .

                     لكن مقابلَ سلطتيْ

                     أعطيتني ولدكْ . – ص 510) .

 هذا الإحساس بعدم الخسران ينبني على دوافع متأصلة ولا تتزحزح من الإحساس بالحاجة للبذل والعطاء للآخر . وأتذكّر حواراً بين امرأتين في أحد الأفلام الأجنبية ، تقول فيه إحداهما للأخرى التي خدعها حبيبها : الرجال يستمتعون بأخذ الحب منا ، ونحن نستمتع بإعطائه لهم ! وشتّان بطبيعة الحال بين الأخذ والعطاء . وكل حياة المرأة تقوم على العطاء والبذل . وها هي تقدّم الأعطية اللغز التي هي سبب ألوهتها معترفة بخصب وقبلات ودفء رجلها بلا حساسيات ضيّقة :

(                   بعدما أعطيتني خصبكَ ،

                    أنّاتِ فراشيْ ، قُبلكْ ،

                    فتّحتْ بي وردةٌ يدعونها : الطفلَ .

           فخذها ،

                    فهي لكْ . – ص 514) (نصّ "طفل") .

إنّها – وبفعل روحها المنصفة ، لأن الامومة عادلة ابداً ، فهي الإلهة التي تمسك بميزان العدالة في لوح القضاء – لا تتردّد في تصحيح ما تعتقده خللاً عميقاً في حق الرجل ، ينبغي تصحيح المعادلة شبه الخاطئة التي قامت عليها . فلآلاف مؤلّفة من السنين كان البشر – كما أسهبنا في ذلك سابقاً – والأنثى منهم ، يحملون تصوّرات متضاربة عن سرّ إخصاب الأنثى ، ومصدر حملها ، وقد ركنوا دور الرجل بعيداً جداً ، وعزلوه :

(                   كانَ اعتقاديْ أنني أحملُ من

        ريحٍ ، وماءٍ ،

                    وملاكْ .

                    كنتَ الذي يخصِبُ جسميْ ،

                    وأصلّي لسواكْ . – ص 552) (نصّ "الحمل") .

لكن بعض "الإعترافات" التي تقدّمها المرأة قد تحمل طابعاً "مازوخيّاً" ، ويجعلها شديدة التساهل ، ومجافية للإتجاه العام لمنطق التاريخ وحيثياته ، مثلما يُغمط حقها فيها . فليس صحيحاً أن الرجل قد ذاق المرارة والضيم عندما كان في ظلّ الحضارة الأمومية . أبداً ، كان يرفل – زوجاً وابناً – في هناءة وسلام مجتمع تسوده العدالة والمحبة والتصالح مع الذات ومع الطبيعة . هل وجدنا أسطورة تكوين - على غرار الأسطورة البابلية - تقوم فيها البنت بشقّ جسد أبيها إلى نصفين ، ثم تقطيع أوصاله بلا رحمة ؟ على العكس من ذلك فقد استُلبت أغلب حقوق المرأة في ظل السلطة الذكورية ، وعوملت في الماضي والحاضر بمهانة وإذلال لا تحتملان . لم يكن ردّ الفعل الذكوري ثأراً حسب بل انتقاماً ساحقاً :

(                 إني أرى

                  في مقلتيكْ

                  لذّةَ انتقامكَ العميقِ مما قبلُ

       قد مارستهُ

                  عليكْ . – ص 530) .

تبدو هذه النصوص وكأنها ردود على النصوص الأسطورية الطويلة التي تستعرض النشوة السادية لسطوة الآلهة الذكورية على مقدرات الحياة والوجود ، وسعيها الحثيث لإخفاء البريق العشتاري خلف الحواجز والحجب والتقييدات ناسين أنها روح تنسرب وتتغلغل حتى في وجودهم . هذه الروح ، وبهذا الحضور الباهر الكوني من حقها أن تتغنّج وتتنرجس :

(                 ما إن أعدو ناضجةً كالتفاحهْ ،

      أو كالظلِّ النازلِ

                  من كفّ الأوراقْ ،

                  حتى أُطرحُ عند الباعةِ

                  في الأسواقْ . – ص 522) (نصّ "كالتفاحة") .

الأنثى ربيع الحياة الدائم :

(                 ورأيتُ ربيعَ الغابةِ أخضرَ ،

         أصفرَ ، أبيضَ ،

                  أحمرْ .

                  خذْ جسدي

                  وتقطّرْ – ص 549) (نصّ "ربيع").

وفي النص الأخير الطويل من هذا القسم "الأرض مهجورة" ، يكشف الشاعر حساب اختياراته أمام القاريء . إنّه يطرح أمامنا – وليس متأخراً فقد قدّم الأدلة على الإستنتاج ليصل إلى الأخير بصورة محكمة – مبرّرات هذا التركيز ذي النفس الملحمي على استكشاف الرؤيا التي حوتها "محبرة" الأسطورة ، وكيف تحوّلت من بياض "الدوافع" إلى "كتابة" الرؤى والآمال والمخاوف والتكوينات وأصول الخليقة . وفي الواقع فإن جوزف حرب يثير هنا أوار نقاش حامٍ لم يهدأ أو تخفت ألسنة لهيبه منذ عقود . فهناك عدد كبير من المختصين – خصوصاً من أهل "العلم" الذين يقدّسون العقل ويعبدونه ، ولا يرون في الأساطير غير "أحلام" وهذيانات بشرية أولى ساذجة وخيالية لا يربطها بالواقع أي رابط ، ومجال الإستفادة منها هو القصص الخيالية والأفلام السينمائية ومسلسلات الأطفال . وبرغم أهمية هذه الحقول ، إلا أن المختصين - في حقل الاسطورة خصوصاً - يرون أن الأسطورة هي "علم" الإنسان القديم الذي وضع أسس أديانه وتاريخه وآدابه وفنونه وحضاراته . لقد نظر بعض النحاة وفقهاء اللغة إلى الأسطورة كـ "مرض في اللغة" ، وأنها نتاج لمحاولات الإنسان العقيمة السخيفة الضالّة للتعبير عمّا لا يمكن التعبير عنه ، ووضع ما لا يمكن التعبير عنه في ألفاظ . لكن هناك علماء (يؤمنون بأن أساطير العالم القديم إنما تمثّل واحدة من أعمق منجزات الروح الإنسانية ، وهو الخلق الملهم لعقول شاعرية خيالية موهوبة ، سليمة لم يفسدها تيار الفحص العلمي ولا العقلية التحليلية ، ولذلك كانت مفتوحة وعرضة لتأملات كونية عميقة ، احتجبت عن الإنسان المفكر الحديث بحكم حدوده المقيّدة ومنطقه الجامد الذي لا روح فيه ). (57) .  

لكن الأهم هو ما اشرت إليه سابقاً من أن مراجعة الاسطورة – وكتابتها شعرياً من جديد على يدي جوزف حرب ، وتمرير رؤى الشاعر خلف أستارها الزاهية تيسّر لها ازدواجية النفوذ في الإنسان عقلاً وعاطفة – تعين الإنسان المعاصر الممزق المقموع الذي تسير حياته النفسية على ساق واحدة هي العقل العلمي المتبجّح ، تعينه على فهم ذاته بدرجة أكبر من ناحية ، واستعادة توازنه الداخلي من ناحية أخرى ، وكلاهما يوصلان إلى تحقيق إنسانية أرفع وابهى له على وجه هذه الأرض المسكينة التي تحرقها – ونحرق أنفسنا معها – نفحات عدواننا وفحيح غرائزنا .. من دون الأسطورة ستكون :

(                 الأرض مهجورهْ

                  صحراءَ ، إكليلٌ على لوح ضريحٍ ،

           ودمٌ

                  من عنقِ عصفورة .

                  فقيرةٌ ،

                  بائسةٌ ،

                  كانتْ بغيرِ قصّةٍ ، بغيرِ أديانٍ ،

    وتاريخٍ ، وتكوينٍ يثيرُ الشعرَ والناياتِ ، لا عصرٌ

    له قافلةٌ يمضي بها حاملةً حضارةً لعصرٍ آخرٍ ،

    لا حدْسَ ، لا جناح ،

                   أو ذاكرةٌ فيها شموسُ

    الأمسِ

                   محفورهْ ،

                   لو لم يكن هناكَ

                   أسطورهْ . – ص 551) .

أضف إلى ذلك أنّ اللغة الرمزية هي اللغة الأجنبية التي يجب على كلٍّ منّا أن يتعلمها . ففهمها يجعلنا على صلة بمصدر من أهم مصادر الحكمة هو الأسطورة ، ويجعلنا على صلة بأعمق طبقات شخصياتنا . وهي تساعدنا على فهم مستوى من الخبرة هو إنساني على وجه التخصيص لأنه المستوى المشترك بين كل البشر ، في المضمون وكذلك في الأسلوب .

قديماً قيل : "الأحلام التي لا تٌفسّر كالرسائل التي لا تُفضّ" . والحقيقة أن الأحلام والأساطير إنما هي اتصالات مهمّة بين أنفسنا وأنفسنا . فإذا لم تُفهم اللغة التي تُكتب بها فقدنا قدرا كبيرا مما نعرفه ونخبر أنفسنا عنه في تلك الساعات التي لا نكون فيها مشغولين بالتعامل البارع مع العالم الخارجي" (58) .