من فوات المحقِّقين في كتب التراث العربي

عبد الستار درويش الحسني

من فوات المحقِّقين في كتب التراث العربي

عبد الستار درويش الحسني

باحث متفرغ - بغداد

لا إخال أنَّ هناك أمةً تملك من كنوز التراث في مختلف ضروب المعرفة كأمة العرب، وهذا أمرٌ لا ينازع فيه إلا مَنْ طُبع على قلبه ، وطمس على بصره، ومَنْ ألقى نظرة متأنية على فهارس المخطوطات العربية ما نُشر منها وما لم ينشر تحقق  له صدق هذه المقولة .

وقد توفَّر على تحقيق جملة صالحة من كتب تراثنا الخالد جماعةٌ من أفاضل العلماء ونبغاء الباحثين مع مطلع هذا القرن، وما زالوا بازدياد مطرد، بيد أنَّ الذي لاحظتُه في بعض هؤلاء المحققين أنَّهم تجاوزوا مواضع اختصاصهم في هذا الباب فكان قصارى أحدهم إذا ما وقع نظره على مخطوط أنْ يبادر إلى تحقيقه لئلا يسبق إليه، وإن كان لا يمتلك من أدوات التحقيق في موضوعه ما يسوِّغ له الاضطلاع بذلك .

وهؤلاء بحمد الله - الذي لا يحمد على مكروه سواه - كثرٌ لا يأتي عليهم العدُّ، ولنذكر منهم لتعزيز هذا القول على سبيل التمثيل لا الحصر العالمَ الفاضل الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد من أعلام مصر، فإنَّ تحقيقات هذا الرجل في كتب النحو واللغة جاءت في غاية الإتقان والاستيعاب لأنَّه من علماء النحو واللغة، ولكنّه أدلى بدلوه في غير ذينك الموضوعين ، فجاء بحمأةٍ وقليلِ ماء ، كما يُلاحظ ذلك مَن اطلع على تحقيقه لـ " وفيات الأعيان " لابن خلكان، وتحقيقه لـ " يتيمة الدهر " للثعالبي، ولإثبات صحة هذا الزعم أوقفك على مورد واحد من موارد الاشتباه التي وقعت في بعض ما حققه الرجل المذكور، ولم ينتبه إليها بله أنْ ينبه عليها :

- فقد جاء في الجزء الثاني من "يتيمة الده " للثعالبي ص 349، بتحقيق الشيخ المشار إليه آنفاً ، ما نصُّه :

" أبو بكر محمد بن أبي محمد القاسم المعروف بالأنباري  ، بلغني له قصيدة فريدة تدلُّ على أنَّ صاحبها من أفراد الشعراء وهي في ابن بقية لما قُتل وصلب ، وقد أثبتها كما هي :

علوٌ في الحياة وفي المماتِ            لحقٌّ أنتَ إحدى المعجزاتِ".

ثم سرد أبياتها البالغة (21) بيتاً .

مع أنَّ هذه القصيدة لأبي الحسن محمد بن عمر بن يعقوب الأنباري، بلا خلاف ، قال الخطيبُ البغدادي في ترجمته من "تاريخ بغداد" (3/35): " شاعرٌ مقل رثا (كذا) الوزير أبا طاهر بن بقية حين صلب بقصيدته التي أولها :

علوٌ في الحياة وفي المماتِ            لحقٌّ تلكَ إحدى المعجزاتِ

قال: وهي مستحسنة معروفة، فأنشدناها القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري، وأبو الحسن أحمد بن عمر بن علي القاضي  بأذربيجان عن أبي الحسن الأنباري، وقال لي الصيمري : أنشدناها بمحضر من أبي إسحاق الطبري" .

فالخطيبُ يروي القصيدة بواسطة واحدة عن قائلها، وكفى بذلك دليلاً على صحة انتسابها إليه فلا نعوج على سائر المصادر .

وإنَّما أوقع الثعالبيَّ في هذا الاشتباه اتفاقُ اللقب، فظنَّها لأبي بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار المعروف بابن الأنباري النحوي الأديب المشهور المتوفى سنة 328 هـ، والوقوف على مثل هذه الهنات مِن شأن المحققين فأين التحقيق ?

@@@

- وهاك أنموذجاً آخر مما وقع في كتب المصادر المطبوعة من الوهم الذي جاز على المؤلِّف والمحقِّق معاً ولكن بالتفريق لا بالجمع:

فقد ترجم الخطيبُ البغدادي في "تاريخ بغداد" (2/46) لمحمد بن إسماعيل بن علي بن النعمان أبي بكر البندار المعروف بالبصلاني، وعاد فترجمه في (7/634) باسم : بندار البصلاني، ومن عادة "علماء الرجال" إذا رأوا اختلافاً في اسم المترجم أن يترجموه على روايات الاختلاف مع الإشارة في تلك المواضع إلى أنَّه قد ترجم في الباب الفلاني، ولم يحدْ الخطيبُ عن هذه القاعدة في جميع ما وقع له من ذلك في "تاريخه"، ولكنه هنا سكت سكوتاً مطبقاً - إنْ صح التعبير - ممّا دل على أنَّه لم ينتبه إلى اتحادهما (أي كونهما رجلاً واحداً)، وتبعه في السكوت  الشيخ محمد حامد الفقي مصحح الكتاب.

ولا بد لي هنا من  أن أشير إلى أنِّي جمعتُ ما وقع لي من مواضع النظر في "تاريخ بغداد" في أكثر من مجلد، وما زال الذي كتبتُه في قيد الخط .

@@@

- وأعطف القول على "معجم الأدباء" لياقوت الحموي الذي قام بتحقيقه (?) الدكتور أحمد فريد الرفاعي، وما أكثرَ التصحيف والتحريف والأوهام في تلك الطبعة! وأثبتُ لك - أيها القارىء الكريم - أنموذجاً من سلخ ما تقدم في هذا الكتاب النفيس .

فقد ترجم  ياقوت لـ "بندار بن عبد الحميد الكرجي " في (7/128) من "معجم الأدباء" ، وجاءت ترجمتُه في أكثر من خمس صفحات، وتصحف فيه لقبُه "الكرجي" إلى "الكرخي"، مع أنَّ ياقوتاً قال في ترجمته: " وكان ممن استوطن الكرخ (كذا)، ثُمَّ خرج منها إلى العراق" .

و "الكرج" بلدة بين أصفهان وهمدان، مصَّرها أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي  القائد المعروف.

كما تصحفتُ  كنيته "ابن لزة" بالزاي إلى "ابن لرة" بالراء المهملة ، وقد نصَّ صاحبُ "بغية الوعاة" على أنَّها بالزاي .

ثُمَّ  أعاد ياقوت ترجمته  في (19/174) من "معجمه" بعنوان : منداد بن عبد الحميد الكرخي (كذا) المعروف بابن لزة، ولم تتجاوز ترجمته في هذا الموضع ثلاثة أسطر، قال في آخرها: "وما عرفتُ من أمره  غير هذا" .

ونسي أنَّه كان قد ترجمه بأكثر من خمس صفحات في باب الباء، كما مرَّ عليك، والغريبُ من المحقق أنْ يعلِّق  على اسمه في هذا الموضع بقوله : ترجم له في كتاب "تاريخ بغداد" جـ 12 (كذا ولم يذكر الصفحة)، مع أنَّه لا توجد له ترجمة في المطبوع من "تاريخ بغداد"!

وقد نَشَرَ صديقُنا العلامة المحقِّق الأستاذ عبد الحكيم محمد الأنيس بعضَ الملاحظات على تحقيق الدكتور الرفاعي  لـ "معجم الأدبا "، ولي كبيرُ أملٍ بأنْ ينهد إلى تحقيقه، فإنّه خرِّيتُ هذه الصناعة، وصيرفيُّ هاتيك البضاعة ...