الحيوان

د. أحمد الفرح

أدخل كتاب ( كليلة ودمنة ) على الأدب العربي القصص والحكايات والحكمة على ألسنة الحيوانات ، فقد ألف بعض الأدباء كتبا على غراره تتحدث بلسان الحيوان والطير .

ولكن قبل ( كليلة ودمنة ) عرف العرب ذخيرة كبيرة من أساطير الحيوان . . . ووصفوا الحكم والأمثال على ألسنتها، وأجروا بينها الحوار، وأداروا المناقشات .

ونظرة موضوعية إلى التراث العربي تثبت مقدرة العربي على إبداع القصة التي تصلح في كثير من الأحيان أن تكون إطارا للمادة الأسطورية ، حيث يمتلئ هذا التراث بالقصص والحكايات التي أبدعتها العبقرية العربية.

وكتاب( كليلة ودمنة ) (1)يحتوي على قصص قصيرة وحكايات على ألسنة الحيوانات تسودها الحكمة والموعظة ، ولم يكن العرب على عهد بهذا النوع من الأدب في ذلك الوقت .

إن ( كليلة ودمنة ) تؤسس في النثر العربي طابع القصة المنفصلة – المتصلة ، فهناك محور يحفظ للقصص المتعددة المنفصلة كيانا عاما فضفاضا ، ولا يؤدي تراكم القصص المتتالية إلى تحول نوعي في البناء .

وهناك محور أساسي – ثنائي ، جانبه الأول يضم الملك دبشليم والفيلسوف بيدبا ، وهذا الجانب له مساره الخاص ، وهو الذي توضع له مقدمات الكتاب ، ويفسر سبب تشكله .

 أما الجانب الثاني فهو الجزء الحيواني الترميزي : كليلة ودمنة والأسد والثور وغيرها من الشخصيات الفنية ، مملكة الإنسان ، ومملكة الحيوان .

إن هذا المحور الأساسي الثنائي التركيب هو ما يوحد جزئيات الكتاب ، ويبقي على تواتره واستمرار سرده ، فهو الهيكل العظمي لجميع التيمات التي تنمو على أساسه .

و( كليلة ودمنة ) مسئول من الناحية الفنية عن تأسيس الحكايات المتداخلة في تسلسل وتكامل يحكمه إطار شامل أو قصة رئيسة ، تقوم مراحلها على عدد كبير من القصص والحكايات التي تتبادل فيها الشخصيات الإنسانية والحيوانية السؤال والجواب .

إن آلية التوالد الحكائي هذه ليست بذات ترابط عميق بين أجزائها ، فانبثاق الحكايات الصغيرة الأولى يقود إلى الحكاية الأكبر والأوسع التي تضم حكايات صغيرة ، يمكن أن تعطي بدورها حكايات أصغر .

فمع انفصال دبشليم وبيدبا عن المادة المسرودة ، لم تعد لديهما علاقة حدثية بها : " قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف ، وهو رأس البراهمة : اضرب لي مثلا لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال حتى يحملهما على العداوة والبغضاء . قال بيدبا : إذا ابتلي المتحابان بأن يدخل بينهما الكذوب المحتال لم يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا ومن أمثال ذلك أنه كان بأرض دستاوند رجل شيخ ، وكان له ثلاثة بنين ، ... "(2) .

وبعد ذلك صارت المادة نفسها مفككة ، ليس بين أجزائها علاقات متداخلة ، وبعد ذلك تتنوع المادة الفنية المستخدمة ، فهي تبدأ من حوار أساسي ، يليه خطاب وعظي أخلاقي يعقبه ، سرد ، ثم يظهر مشهد قصصي مجسد للأمثولة المطروحة في الخطاب الوعظي ، وبعدئذ قد تنبثق حكاية أخرى أو يظهر راو يسرد شيئا ينبثق فيه مشهد قصصي وهكذا ، كما يتضح من المثال التالي : " قال كليلة : وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد منك وأكثر أعوانا ؟ قال دمنة : لا تنظر إلى صغري وضعفي ، فإن الأمور ليست بالضعف ولا القوة ولا الصغر ولا الكبر في الجثة ، فرب صغير وضعيف قد بلغ بحيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير من الأقوياء أو لم يبلغك أن غرابا ضعيفا احتال لأسود حتى قتله ؟ قال كليلة : وكيف كان ذلك ؟! قال دمنة : زعموا أن غرابا كان له وكر في شجرة على جبل ، وكان قريبا منه جحر ثعبان أسود ، فكان الغراب إذا فرّخ عمد الأسود إلى فراخه فأكلها ، فبلغ ذلك من الغراب وأحزنه ، فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوي وقال له : أريد مشاورتك في أمر قد عزمت عليه . قال : وما هو ؟ قال الغراب : قد عزمت أن أذهب إلى الأسود إذا نام ، فأنقر عينيه فأفقأهما ، لعلي أستريح منه . قال ابن آوي : بئس الحيلة التي احتلت فالتمس أمرا تصيب فيه بغيتك من الأسود من غير أن تغرر بنفسك وتخاطر بها ، وإياك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان فقتل نفسه . وقال الغراب : وكيف كان ذلك ؟ !

قال ابن آوي : زعموا أن علجوما . . . "(3) .

لقد بدأ النص بمشهد حواري بين كليلة الذي كان مشفقا على أخيه من الثور ، ودمنة الذي قدم خطابا وعظيا أخلاقيا ، ثم قص على أخيه حكاية الغراب مع ابن آوي الذي حكى بدوره للغراب قصة العلجوم مع السرطان .

إن المشهد القصصي – المادة الأكثر سيطرة في القصة المعاصرة – يظهر بين الفينة والأخرى موجها ومخلوقا ومؤدلجا بفعل الموعظة ، فالمادة السابقة تسيطر وتتحكم في السرد والمشهد القصصيين .

كما تأثر إخوان الصفا بكتاب ( كليلة ودمنة ) في ( رسالة تداعي الحيوانات على   الإنسان ) ، وهي رسالة تجمع بين الإنسان والحيوان والطير أمام محكمة الجن ، وهذه الرسالة قصة فكرية تقوم على الخصومة الأبدية بين الإنسان والحيوان .

وهي حكاية خرافية ، وضعت في القرن الرابع الهجري ، ليشرحوا من خلالها جانبا من فلسفتهم الأخلاقية وتصورهم للعالم ، فخطوا حكاية جاءت على شكل رسالة : ( رسالة الحيوان والإنسان ) ، وموضوعها تأذي الحيوان من تعدي الإنسان ، ومن ثم شكواهم إلى ملك الجان الذي تولى منصب القاضي بين الطرفين ، وأصدر حكمه في النهاية .

هذه الحكاية الطريفة استحدثت في الخرافة على لسان الحيوان أمرين لم يكونا معروفين قبلهما ، وقد عهد في حكايات الحيوان أن تكون مجهولة المؤلف ، حتى خرافات ايسوب الإغريقية(4) ، فإنه ليس مؤلفا لها ، وإنما جمعها ، أما ( رسالة الحيوان ) فإنها تنتمي إلى إخوان الصفا ، وهم معروفون باسمائهم ، ولكنهم أرادوا في زمانهم – لأمر أو لآخر – أن يتواروا خلف هذه التسمية الجماعية .

 الأمر الثاني أنها – إلى اليوم – تعد أعلى مستوى في التركيب الفني لهذا النوع من الحكايات ، ليس بما تحقق لها من حس ملحمي ، يرعى عناصر البطولة ، ويقوم على الصراع وتعارض الإرادات وحسب ، وإنما لأنها مضت في حبكتها عبر تخطيط متقن ، واختيار دقيق للشخصيات المشاركة في تنمية الحادثة من الحيوان أو من البشر على السواء ، ولأسلوبها الملون الذي ينتقل ما بين الوصف والتحليل  والحوار بمهارة لا تترك لنفس القارئ فرصة يشعر بالملل ، ثم لعمق الفكرة ودلالاتها الجانبية ، من ناحيتين الفطرية والاجتماعية .

تبدأ الحكاية بمقدمة مختصرة عن نشأة الحياة على الأرض وتطورها  " واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء كونها من الطين أولا من ذكر وأنثى توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلا وجبلا ، وبرا وبحرا ، من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار متساويين ، والزمان أبدا معتدلا هناك بين الحر والبرد ، والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائما . وهناك أيضا تكون أبونا آدم أبو البشر وزوجته ، ثم توالدا ، وتناسلت أولادهما ، وامتلأت الأرض منهم سهلا وجبلا ، وبرا وبحرا إلى يومنا هذا .

ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات كلها متقدمة الوجود على الإنسان بالزمان "(5)  .

 هذه إذا بيئة الحدث الملحمي ، وطبيعة الحياة فيها قبل بدء الصراع الذي يتحرك فجأة عقب حادث محتمل ، فقد طرحت الرياح العاصفة سفينة على شاطئ تلك الجزيرة التي لم تعرف البشر ، وكان على السفينة سبعون رجلا ، يصفهم بأنهم من التجار والصناع وأهل العلم وسائر أبناء الناس ، ما لبثوا أن انتشروا في أرجاء الجزيرة بحثا عن مطالب الحياة ، وكان من الطبيعي أن يروا ما بالجزيرة من أنواع الحيوان ، وكان من المتوقع أن يتطلعوا إلى استخدام هذه الأنواع في تعمير الجزيرة التي وجدوا أنفسهم معزولين بها قياسا على ما يستخدمونه من حيوان في أوطانهم من قبل .

ولكن حيوانات الجزيرة التي نشأت على الحرية ، ولم تجرب الخضوع للإنسان ترفض دعواه في السيادة عليها ، يقول إخوان الصفا: " ثم قال زعيم البهائم : أيها الملك كنا نحن وآباؤنا سكان الأرض قبل خلق آدم أبي البشر قاطنين في أرجائها ، ظاعنين في فجاجها ، تذهب وتجيء كل طائفة منا في بلاد الله في طلب معايشها ، وتتصرف في صلاح أمورها ، كل واحد مقبل على شأنه في مكان موافق لمآربه من برية وأجمة أو جبل أو ساحل أو تلال أو غياض أو  رمال ، كل جنس منا مؤلف لأبناء جنسه ، مشتغلين باتخاذ نتاجنا وتربية الأولاد في طيب من العيش بما قدر الله لنا من المآكل والمشارب والتمتع ، آمنين في أوطاننا معافين في أبداننا نسبح الله ونقدسه ونوحده ليلا ونهارا ، ولا نعصيه ولا نشرك به شيئا ، ومضت على ذلك الدهور والأزمان .

ثم إن الله ، جل ثناؤه ، خلق آدم أبا البشر وجعله خليفة في الأرض ، وتوالد أولاده وكثرت ذريته ، وانتشرت في الأرض برا وبحرا ، وسهلا وجبلا ، وضيقوا علينا الأماكن والأوطان ، وأخذ منا من أخذ أسيرا من الغنم والبقر والخيل والبغال والحمير ، وسخروها واستخدموها وأتعبوها بالكد والعناء في الأعمال الشاقة من الحمل والركوب في السفر والحضر والشد في الفدن والدواليب والطواحين بالقهر والغلبة والضرب والهوان وألوان من العذاب طول أعمارنا ، فهرب منا من هرب في البراري والقفار ورؤوس الجبال ، وشمر بنو آدم في طلبنا بأنواع من الحيل ، فمن وقع منا في أيديهم شدوه بالغل والقيد والقنص والذبح والسلخ وشق الأجواف وقطع المفاصل ونتف الريش وجز الشعر والوبر ، ثم نار الطبخ والوقد والتسوية وألوان من العذاب ما لا يبلغ الوصف كنهها . ومع هذه الأحوال كلها لا يرضى عنا هؤلاء الآدميون " (6) .

وحين يتدخل ملك الجان بيوراسب الحكيم أو شاه مردان ، ويطلب من الإنسان الكف عن مطاردة الحيوان ، وادعاء التفوق عليه يتصدى واحد من البشر ليردد آيات من القرآن تؤكد كرامة الإنسان وإنعام الله عليه بنعم شتى منها خضوع الحيوان له وتسخيره في خدمته ، وآيات أخرى كثيرة ، تستفز زعيم البهائم ، إذ يرى أن الإنسان يستنتج من هذه الآيات ما يخدم طمعه وعنفه ، ولاتدل عليه الآيات بالضرورة ، فليس في الآيات ما يؤيد الزعم بأن البشر أرباب وبأن الحيوان عبيد ، إنما هي آيات تدل على إنعام الله عليهم وإحسانه إليهم .

تطول جلسة الدعوى والنقيض أمام ملك الجان ، والإنسان يقدم الحجة بعد الحجة ، بدءا بالعقل واستواء القامة ، والحيوان يدحض ويقدم الدليل ، فهو الأقدم وجودا ، ولا فضل للإنسان في استواء قامته ، فكل نوع خلق على الهيئة التي تضمن له معيشته ، ثم يقول زعيم البهائم لمحاوره من بني البشر " أما علمت أنك إذا عبت المصنوع ، فقد عبت الصانع ؟ "(7) .

 هنا أفحم الإنسان ، وحدث ارتباك عام ، وتوالى تراشق الاتهام ، وبدأ الإنسان يستخدم الحيلة في الإيقاع بين أنواع الحيوان التي قبلت معاشرة الإنسان في القرى والمنازل ، وتلك التي نفرت وتوحشت .

وعلى إثرذلك خلا الملك إلى وزيره بيدارالذي يقترح دعوة مجلس المملكة إلى الانعقاد ، وهو مكون من قضاة الجن وفقهائها وحكمائها ، ليستنير الملك بأفكارهم ، ويتضح له وجه الصواب . وإذ تميل الجن إلى العطف على الحيوان ، والرغبة في حمايته من الإنسان الذي يحمل أفكارا غير منصفة عن الجن أيضا فإن الحكماء – حكماء الجن – يرون ضرورة الحياد بين المتخاصمين ، والاحتكام إلى العقل ، بعد عقد جلسة يتبارى فيها الفريقان ، ويكشف كل منهما عن أسباب موقفه في دعواه .

المحاكمة في حد ذاتها ستكون استمرارا لما سبق أن تراشقه الفريقان من الحجج الدينية  والعقلية والحضارية ، وما تبادلاه من اتهام بالعجز أو الانحراف عن الطبع السوي .

لقد اختار إخوان الصفا سبعين رجلا ليمثلوا البشرية في دعواها بسيادة الأرض وما عليها ، وقد جاء التمثيل شاملا لكل السلالات ، ففيهم العربي والروسي والهندي والحبشي ، وغيرهم .

وفي اجتماعهم التمهيدي لاختيار المتحدثين أمام بيوراسب الحكيم تظهر كل آفات المجتمع البشري ، إذ يفكر البعض في رشوة المحكمين ، وانتزاع فتوى منهم بحق الإنسان في تسخير الحيوان ، ويعول بعض آخر على وقوع خلاف بين القضاة ، أوبين الخصوم ، ويفكر بعض ثالث باصطناع شهود مدسوسين منحازين .

في حين أن طوائف الحيوان من البهائم والسباع والجوارح والحشرات والهوام راح كل فريق منها يعقد اجتماعا خاصا ، يختار فيه مندوبا واحدا ، يتكلم باسم الجماعة كلها .

 ومن الطريف الجدير بالملاحظة أن طائفة واحدة من الحيوان لم تختر ملكها ليتحدث باسمها ، كانت الطائفة تميل إلى ترشيح الملك ، باعتباره الرمز ، كالأسد للسباع ، والنسر للجوارح ، ولكن الملوك جميعا رشحوا واحدا من أتباعهم ، رأوا أنه أقرب إلى ما تحتاجه مهمة مخاطبة الإنسان ، ومقارعته بالحجة ، ولعلهم رأوا أيضا أنه لا يليق بالملك أن يكون مفاوضا ، فقد يحتاج المفاوض إلى شيء من الخداع أوالتهويل ، لا يليق بمنصب الملك .

لقد احتكم الإنسان أخيرا إلى العقل ، وانتصر على طوائف الحيوان به ، وبحجة   الشرع ، وحكم بيوراسب بأن الإنسان سيد على الحيوان ، لكنها ليست سيادة الطاغية ، بل الرفيق الشفيق ، فهذا قدر الله ، ونظام الكون .

تعد هذه القصة قطعة من الفكر العربي في زمان نضوجه ، كما يقول مصطفى الشكعة :  " وهي في نفس الوقت قطعة أدبية رفيعة ، لم يقلل من قدرها استغناؤها عن التلاعب بالألفاظ ، وبوشيتها بالصنعة البديعة أو سجع الجمل ، وموسيقيتها ، بل إن ذلك في رأينا فضل للكاتب يحسب له في كفة الرجحان ، هذا فضلا عن أن مثل هذه القصة التي نعتبرها أثرا فكريا أكثر منها عملا أدبيا لا يستطاع كتابتها بغير الأسلوب السهل الممتنع الذي كتبت به ، الخالي من التصنع وإن لم يخل من زينة خفيفة ، ورونق وإشراق .

إن في أسلوبها إشراق كتابة الجاحظ وتدفقه ... ومن ثم فقد ثقل وزنها فكرا ، ولم تخف كفتها أدبا "(8) .

ويذهب الفيلسوف العربي ابن طفيل في قصته( حي بن يقظان ) إلى أن أصل كلام الإنسان هو محاكاته للغة الحيوانات ، فهو يحكي عن طفل حديث الولادة تلقي به أمه في جزيرة مهجورة ، فتكفله ظبية فقدت صغيرها .

وتروح وترعاه وتغذيه وتحميه ، يقول : " فمازال الطفل مع الظباء على تلك الحال يحاكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرق بينهما وكذلك كان يحاكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده . وأكثر ما كانت محاكاته لأصوات الظباء في الاستصراخ والاستئناف والاستدعاء والاستدفاع . إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها ولم تنكره ولا أنكرها "(9) .

إذا كان في ( كليلة ودمنة ) و( رسالة الحيوان والإنسان ) عالم كامل من الحيوانات والطيور والهوام تتكلم وتتخاطب وفي ( ألف ليلة ) مثل هذا العالم ، ولكن في ألف ليلة نجد الإنسان يعرف لغة هذه الحيوانات ، ويحل رموزها ويفهمها ، ومن حديثها يعرف الحكمة ويتعلم ويتعظ .

فحين عرضت شهرزاد على أبيها وزير الملك شهريار أن تذهب هي إلى الملك بوصفها زوجة له ، حتى تستطيع أن تفتدي بنات جنسها من بطشه ، حيث كان كل ليلة يبني بفتاة جديدة ويقتلها في الصباح حذرها أبوها من بطش فعلتها ، وقال لها : " أخشى عليك أن يحصل لك ما حصل للحمار والثور مع صاحب الزرع "(10) .

وإذا كانت ( ألف ليلة وليلة ) قد عكست حديث الحيوانات والطيور، تلك الأحاديث التي يستطيع الإنسان أن يفهمها فقد عرفنا الكثير من الأساطير والحكايات الشعبية ، ومنها ( سيرة سيف بن ذي يزن )(11)التي تضيف بعدا جديدا إلى الطيور المتحدثة . . فحين تقود قمرية ابنها سيف إلى خارج المدينة ؛ لتدله على كنز أبيه ، وهي تضمر له الغدر وتستطيع أن تحدث فيه من جراح بسيفها ما يصرعه ، ولكن الأخطر من جراح السيف آثار السم الذي وضعته على حد السيف قبل أن تضربه ، وحين يهوي صريعا تحت سيفها ، تتركه متشفية وقد أيقنت أنها نالت منه أخيرا أو أزاحته عن طريقها ، ليخلو لها الجو فتحصل على الملك وحدها . . ويفيق الملك سيف بعد حين ويفتح عينه على ألم حاد يحس به في أجزاء جسده .

وحاول أن يحرك قدميه فلم يستطع ، وحاول أن يرفع ذراعيه فلم يستطع ، فالتفت حوله فإذا الأرض كلها غارقة في بركة من دمائه ، فرفع عينيه إلى السماء يدعو الله ألا يطيل عذابه وأن يسرع بموته إن كان قد كتب عليه الموت في هذا المكان ، أو أن يمن عليه بوسيلة للشفاء .  وبينما هو في تضرعه الصامت لربه إذا به يشهد طائرين أقبلا من البراري المقفرة وحطا على غصن في الشجرة التي يرقد تحتها وقالا معا في صوت واحد : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإبراهيم نبيه " .. ثم قال الطير الأول مخاطبا أخاه : " لا تعترض على حكمة الله .. واعلم أن أمه قمرية تدبر له سبع مهالك . أولها وهو طفل صغير حين رمته في الخلاء فأرسل الله له الغزالة أرضعته والجنية ربته والملك أفراح يحتضنه ، والثانية وهي هذه الميتة البشعة " . وكان الملك سيف يسمع حديث الطائرين وهو يعجب في نفسه كيف تتحادث الطيور حديث الآدميين وقد دخله شك كبير في أنه يعرف الصوتين ، وأنه سمعهما من قبل . وعاد الطائر الأول يقول : " صدقت يا شيخ جياد .. وهذا والله فعل أهل الكفر والعناد " فرد عليه الطائر الثاني قائلا : " هنا يا شيخ عبد السلام دواؤه – فوق هذه الشجرة لو مضغه بأسنانه ثم وضعه على الجرح لشفي بأمر الله القدير " .

وتذكر الملك سيف أن الصوتين .. كانا للشيخين جياد وعبد السلام وقد قابلهما في رحلته إلى مدينة قمر ، وقام بدفنهما بعد أن ماتا .. فتعجب من قدرة الله العلي القدير .. ومد يده إلى الشجرة ينزع من أوراقها ما تصل إليه يده ويمضغها في فمه ثم يضعها على جراحه فتطيب في الحال وهو يحمد الله ويشكره .

البعد الذي أضافته سيرة سيف هنا هو أن هذه الطيور المتكلمة ليست طيورا على الحقيقة وإنما حلت فيها أرواح إثنين من رجال الله الصالحين .

 وهذه الإضافة في الواقع قديمة جدا فقد عرفها قدماء المصريين الذين عبدوا الحيوان ، كما عرفوا فكرة أن الإنسان يمكن أن يتخذ صورة الحيوان لأداء غرض من أغراضه . وفي الأساطير الفرعونية نجد ( قصة الأخوين )(12)التي تحذر فيها أبقار القطيع صاحبها الراعي بيتو من غدر أخيه الذي قرر أن يقتله عند عودته إلى المنزل لوشاية كاذبة خبيثة دستها زوجة أخيه ضده . وفي القصة نفسها يتخذ بيتو صورة العجل أبيس لينتقم ، وتروي الأسطورة مشهدا بين بيتو وهو في صورة العجل وبين زوجة أخيه يحدثها فيه عن رغبته في الانتقام لنفسه .

واستطلاع الغيب والتنبؤ وتفسير الأحلام ترتبط ارتباطا عميقا بالحيوانات بعامة والطيور بخاصة ، وربما كان الأمر مرتبطا بالعبادات القديمة التي كانت تربط بين المعبود وكائن حي غير عاقل أو جماد .

والطيور والحيوانات المرشدة للإنسان كانت وسيلة من وسائل التعبير في كثير من الأحيان عند الأديب العربي ، فمنذ القدم ونحن نجد الحيوان والطائر المرشد ، ففي حكاية وهب بن منبه(13)عن مصرع هابيل بيد أخيه قابيل يلعب الطير المعلم دورا مهما في إرشاد قابيل إلى كيفية دفن أخيه .

وكان البسطامي أول من استبدل بجبرائيل في النص المروي طائرا يقوده في عروجه إلى السماء الأولى ، غير أن البسطامي لم يشر إلى الطيور في معراجه إلا بوصفها رموزا ثانوية ، تزيد مشهد العروج بهاء وجمالا ، فوظيفتها عنده أقرب إلى الزخرفة والتجميل(14)من المستوى الرمزي العميق الذي يصبح فيه الطير هو الرمز الشامل الذي تدور في فلكه كل العناصر الأخرى .

ويحتوي ( منطق الطير )(15) أربعة آلاف وستمائة بيت مزدوج ( مثنوي ) ، وموضوعه سفر النفس إلى الله ولكن في قناع صوفي ، يصور قيام الطيور برحلة مضنية فوق الأودية السبعة للوصول إلى جبل قاف للقاء السيمرغ الذي هو طير خرافي يعد سيد الطيور ، ويقابل العنقاء عند العرب ، ويرمز العطار بالسيمرغ إلى الحقيقة العظمى التي هي الله ، أما سائر الطيور فترمز إلى السالكين في طريق التصوف(16) .

إن البسطامي والعطار كلاهما قد أخذا هذا الرمز من المرويات الإسلامية الشعبية عن قصة الإسراء والمعراج ، وفيها رواية لابن عباس تصور ملاكا على هيئة ديك يصيح  إلى جوار العرش ، فتصيح ديوك الأرض جميعا معه ، ذاكرة اسم الله ، لتوقظ النور ، وتسلخ الفجر عن الليل ، فيغمر الأرض ضوء الرحمن(17) .

وعلى أية حال ، فإن رمزية الطير ليست محصورة في قصة الإسراء والمعراج أو في ديك العرش ، إنها تعود إلى أصل أبعد من ذلك ؛ فتقترن بالروح التي عجز الإنسان عن تصورها ، فلم يجد حيالها سبيلا غير سبيل الرمز ، فاتخذ لها رمز الطائر لقدرته على أن يسمو عن عالم الأرض ويحلق في الفضاء .

وقد روي في الأثر أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر ، تسرح وتأكل من الجنة ، حيث تشاء ، وتأوي إلى قناديل معلقة من العرش(18) .

وليست هذه الرمزية الطيرية موقوفة على الإسلام ، بل إننا نجدها في الأديان جميعها ، فقد ورد في ( الفيدا ) (19)ذكر طيور خرافية تدعى ( الهوماس ) " لا تعيش إلا في الأجواء العليا ، وترفض الانحدار إلى مستوى الأرض ، وقد شبه راما كريشنا(20)الأنبياء الكبار أمثال يسوع وبوذا ونارادا وغيرهم بهذا      ( الهوماس ) .

               

هوامش الدراسة

1– كليلة ودمنة هما اسما ابني آوي اللذين كانا محور القصص في باب الأسد والثور .

2 – كليلة ودمنة ، عبد الله بن المقفع ، صححها ونقحها : عبد الوهاب عزام ، الطبعة  الرابعة ، القاهرة – بيروت ، دار الشروق ، 1994 ،81 .

3 – م . ن ، 99 .

4 – الأدب المقارن في الدراسات المقارنة التطبيقية ، داود سلوم ، الطبعة الأولى ، القاهرة ، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع ،  2003،  83.

5 – رسالة تداعي الحيوان على الإنسان ، ضمن : ( رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا ) ، إخوان الصفا ، الطبعة الأولى ، بيروت ، دار صادر ،  1975 ، الرسالة : (22) ،     2 /  181-  182.

6  – م . ن ،2  /  208-  209.

7 م . ن ، 2 / 211 .

8 – الأدب في موكب الحضارة الإسلامية ، م . س ,  693-  694 .

9 – رسالة حي بن يقظان ، م . س ,  129.

10 – ألف ليلة وليلة ، م . س ,  1/  7 .

11 –  سيف بن ذي يزن ، فاروق خورشيد ، م . س ,  157 ، 162 .

12 – للمزيد عن قصة الأخوين انظر :

موسوعة مصر القديمة : ( الأدب المصري القديم ) ، م . س ,  17/  87.

13– كتاب التيجان في ملوك حمير ، وهب بن منبه ، سلسلة الذخائر, القاهرة ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، أكتوبر 1996 ،  23 .

14 – المعراج والرمز الصوفي ، نذير العظمة ، الطبعة الأولى ، بيروت ، دار              الباحث ،1982  ،  42 .

15 – منطق الطير ، فريد الدين العطار ، ترجمة وتقديم : بديع محمد جمعة ، الطبعة   الرابعة ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،  2006 .

16 – التصوف في الإسلام ، عمر فروخ ، بيروت ، دار الكتاب العربي ،  1981،        124 125 .

17 – المعراج والرمز الصوفي ، م . س ,  42.

18 – شرح عين العلم وزين الحلم ، الهروى القاري ، بيروت ، دار المعرفة ، ( د. ت ) ، 214.

19 – فيدا ، هو الكتاب المقدس عند الهندوس ، كتب بالسانسكريتية حوالي 1800 ق . م . للمزيد راجع :

الموسوعة العربية الميسرة ، محمد شفيق غربال ، بيروت ، دار النهضة ، 1987 ،   2 / 1343 .

20 – الحقائق الروحية الكبرى ، راما كريشنا ، ترجمة : مصطفى الزين ، بيروت ، دار النهار ،  1978، 45 .