الشعر الحديث والإيقاع الموسيقي

خضر محمد أبو جحجوح

الشعر الحديث

والإيقاع الموسيقي

خضر محمد أبو جحجوح

عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين

[email protected]

تأليف

حسن شعراوي

حسن صالح أبو المعاطي محمد الشعراوي

أهمية موسيقى الشعر

تؤثر الموسيقى تأثيرا فعَّالا في بلورة التشكيل الجمالي للنصِّ الشعري، حيث تتضافر الأصوات اللغوية، وفق نظام خاص في النسق النصي لتحدث إيقاعا يعبر عن مختزنات الحالة الشعورية، ويكون محبباً إلى النفس الإنسانية، التي تميل إلى كل ما يثير فيها إحساسا ويدغدغ فيها أوتار شفافيتها.

وهذا لا يتأتى للشعر إلا بالموسيقى التي تتفاعل فيها الموسيقى الخارجية الناتجة عن الوزن الشعري، وأنظمة تشكيل القوافي، مع الموسيقى الداخلية المنبثقة من جوانية النسق المشكِّل للدوال التعبيرية، بكافة مجالاته بدأ بتضام الصوت إلى الصوت، مرورا بتعانق الكلمة بالكلمة، وانتهاء بتشابك الجملة بالجملة، مع ما ينضاف إلى ذلك من تسخير لطاقات البنى الدلالية حيث تكون مادتها اللغة : صوتا ومعنى محاور استبدالية، تتوظف فيها المعادلات الصوتية والإيقاعية وسواهما ، ومن خلال توزيع النغم الصوتي على وحدات زمانية بتناسق مخصوص، ينتج الإيقاع الشعري المموسق، الذي يثير النفس البشرية، ويبعث فيها مشاعر منشطة أو مهدئة حسب طبيعة التجاوب النغمي شدة ولين، والإيقاع الموسيقي بهذا المعنى، يضفي إلى عناصر التشكيل قوة جمالية، يكاد يفتقدها الشعر إن لم توجد فيه عناصر الموسيقى بكافة أشكالها، التي تُنَظِّمُ الوحدات الصوتية، وتهندس التشكيلات الإيقاعية، وتوزعها على حيز من الزمن يستفرغ الشحنات العاطفية، والدفقات الشعورية بما يصاحبها من إثارة الفكر والخيال في خضم التجربة الشعرية، فيندفع المتلقي مع الشاعر محاولا سَبْرَ أغواره السحيقة واستكناه أسرارها.وبذلك تعتبر الموسيقى "وسيلة من أقوى وسائل الإيحاء، وأقدرها على التعبير عن كل ما هو عميق وخفي في النفس مما لا يستطيع الكلام أن يُعبِّر عنهُ؛ ولهذا فهي من أقوى وسائل الإيحاء سلطانا على النفس وأعمقها تأثيرا فيها.

وتكون براعة الشاعر في قدرته على صياغة قالبه الشعري، مازجا فيه بين كافة الإمكانيات التصويرية المكانية حيث تشكيل الصورة لا ينفصل عن تشكيل الحيز الزماني متمثلا في التوقيعات النَّغمية التي تثري الدلالة وتعمقها، بإيحاءاتها الثرية المتنوعة، التي تتضافر مع كافة الإمكانيات لبلورة جماليات النص في نسق تشكيله النهائي، فالإيقاع علاقة بين الكلمات والحروف والمفردة، وما يجاورها من أنساق صوتية وتعبيرية، وحالة نفسية تنشأ عن صوت وتوقع وعن علاقات غامضة تثيرها جوانية اللغة، كما يثيرها النغم، والشاعر ينجح بقدر ما يستطيع تفعيل دور الموسيقى الخارجية بإيقاعاتها المميزة، في الوقت ذاته الذي يستطيع فيه أن يمزج بين عناصر الموسيقى الداخلية منتجا إيقاعا مميزا لكل حالة شعورية.

وفي هذا السياق ينبغي التنبيه إلى أن امتلاك القدرة على التشكيل الإيقاعي موهبة عظيمة تحتاج إلى صقل وتنمية متواصلة، وحس مرهف يوائم بين جماليات النسق؛ فتتآلف الصور مع الإيقاع لتنتج صورة كلية متكاملة تدهش وتنتج دلالات متشظية في بنية النص تكتشف بالاحتكاك والقراءة مرة تلو مرة.

معني الشعر في موسيقاه

الشاعر والمفكر الكبير احمد عبدالمعطي حجازي

اود ان اعرب لكم عن اعجابي الشديد بمقالاتكم الاخيره عن قصيده النثر‏,‏ وهو اعجاب لم ينتقص منه اختلافي معكم حول بعض التفاصيل التي جاءت بهذه المقالات‏,‏ اذ ان التفاصيل هنا لا تهم مادمنا نتفق علي الاصول والافكار الرئيسيه‏.‏ ومناط اعجابي ان مقالاتكم قد واجهت بجراه وبكثافه ما يمكن ان نسميه بسلطه قصيده النثر في حياتنا الادبيه‏,‏ وكشفت بطريقه التعريه عن ازمه حقيقيه في واقعنا الادبي والثقافي عموما‏..‏ ازمه لا تكمن فحسب في مساله قصيده النثر علي نحو يستدعي مساءلتها‏,‏ وانما تتجاوز ذلك لتكمن في مساله الوعي بماهيه الشعر فضلا عن الوعي بماهيه الابداع الفني عموما‏.‏

وفي هذا الشان‏,‏ اود ان ابدي الملاحظات التاليه التي قد تضيء بعضا من المسكوت عنه في مقالاتكم‏:‏

ان ما يمكن ان نسميه بسلطه قصيده النثر هي من قبيل تلك المحاولات الدءوبه في تحديد الابداع الادبي والفني عموما في اسلوب او شكل فني ما‏,‏ وفي مجال الشعر خصوصا فان هناك جيوشا من المشتغلين بالشعر يمارسون قصيده النثر‏,‏ ويدعون الي سلطتها‏,‏ بدعوي تحرير النص الشعري من القواعد والقيود التي تحكم تشكيل النص الذي يسمونه تقليدا‏,‏ وبدعوي الحداثه تاره ومابعد الحداثه تاره اخري‏,‏ وما شابه ذلك من مفاهيم غالبا ما يجهلون كنهها واصولها الفلسفيه التي انتجتها‏.‏

ومن المفارقات العجيبه ان هولاء الذين يدعون الي التحرر في الابداع هم الذين يمارسون في الوقت نفسه سلطه علي الابداع‏.‏ حينما يدعون ان هذا الشكل او الاسلوب الفني هو الاسلوب الوحيد الجدير باسم الابداع الشعري‏.‏ ومثل هولاء ينسون او يتناسون ان المنظور او الشكل الفني ليس سوي اسلوب المبدع في رويه الاشياء والعالم‏,‏ اما العالم نفسه فلا يفرض ايه اساليب ولا يتشبث باي منها‏(‏ كما بين لنا ميرلوبونتي في دراساته العميقه المسهبه‏)..‏ فما يغيب عن بال تلك الكثره الهائله من المشتغلين بالشعر لا اقول الشعراء‏,‏ لان الشعراء الحقيقيين هم دائما احاد في كل عصر وان ما يغيب عن بالهم ان المنظورات والاشكال الفنيه لا ينفي او يستبعد بعضها بعضا‏,‏ وانما هي توجد جنبا الي جنب بشكل مشروع مادامت كانت تمارس في اطار ماهيه الفن المقصود‏,‏ فلاتجافي روحه وطبيعته المميزه له فضلا عن طبيعه الابداع الفني في عمومه‏.‏

ولاشك ان هناك محاولات محدوده لشعراء حقيقيين كتبوا ما يسمي بقصيده النثر بشيء من روح الشعر‏.‏ ولكن مكمن الخطوره ان هذه المحاولات المحدده في ممارسه هذا الشكل الفني تحديدا‏,‏ الذي يقوم علي التحرر التام من كل وزن او قافيه‏,‏ هي محاولات تمثل دعوه صريحه للمتشاعرين والطامحين الي ممارسه تجربه الشعر لكي يتجراوا علي فن الشعر‏,‏ دون ان يتمرسوا عليه باعتباره فنا من فنون القول او اللغه ينبغي معرفه اسراره واصوله‏,‏ تماما مثلما ان المصور ينبغي ان يعرف ويتعلم اسرار اللون واساليب تشكيله التي يمكن ان تصنع لوحه‏.‏

ومثل هذه المعرفه هي ما يتنصل منه اغلب كتاب قصيده النثر بدعوي التحرر من القيود والقواعد‏,‏ وهم بذلك يجهلون او يتجاهلون ان التجديد او التجريب في الابداع الفني غير ممكن اصلا الا باعتباره تجاوزا لاسلوب فني مارسناه وعانينا خبرته من قبل‏.‏ اعني ان الشاعر الذي لم يتمرس علي النظم ولم يحسن كتابته لن يستطيع ان يكتب قصيده النثر‏,‏ وان شيئا شبيها بهذا يحدث في سائر الفنون‏:‏ وهل يظن ظان ان بيكاسو احد رواد التكعيبيه العظام كان يجهل قواعد المنظور الكلاسيكي في فن التصوير‏,‏ او كان جاهلا باصول التشريح حينما كان يعمد الي تشويه شخوصه المصوره؟‏!‏ وهل يشك شاك في ان ثوره شونبرج في مجال الموسيقي لم تكن سوي محاوله لتجاوز اصول الموسيقي الكلاسيكيه التي كان يعرف ادق اسرارها؟‏!‏ غير ان هذا التجاوز من خلال التجريب قد يكتب له النجاح‏(‏ كما حدث بالنسبه لبيكاسو‏)‏ او الاخفاق‏(‏ كما حدث بالنسبه لشونبرج‏).‏

للشاعر اذن الحق في ان يستخدم ويجرب ماشاء من اساليب الكتابه‏,‏ بشرط ان يعي في المقام الاول ان هذه الاساليب ينبغي ان تظل اساليب شعريه‏,‏ فلا تنكر ماهيه الشعر او تتنكر لها‏.‏ وبشرط ان يعي في المقام الثاني ان الخروج علي اسلوب او شكل فني شعري ما لا يعني نبذه اوانكاره‏,‏ وانما يعني فقط تجاوزه‏,‏ وهو تجاوز لا يمكن ان يحدث الا من خلال معاناه وخبره حقيقيه بما نريد ان نتجاوزه‏,‏ بل اننا يمكن ان نزيد علي ذلك فنقول مع هيجل اننا في تجاوزنا لشيء ما لا نملك الا ان نبقي عليه ونحفظه معنا‏.‏

ومعني هذا ان ما نتجاوزه لا يتم نفيه وانكاره او استبعاده‏,‏ وانما يتم رفعه الي حاله حضور متخذا صوره او شكلا جديدا من خلال اندماجه اوانصهاره مع شيء اخر‏.‏ فما الذي ينبغي ان يبقي دائما معنا في ممارسه الاساليب المختلفه من فنون القول الشعري؟ والي اي حد تحفظ قصيده النثر شعريه القصيده؟ هذاالسوال يضعنا مباشره في قلب مساله الشعريه او ماهيه الشعر‏:‏

الشعر كما افهمه هو فن القول في المقول‏:‏ وفن القول هو فن الكلام او اللغه التي تقول فتفصح حينماتعني او تصور شيئا ما‏,‏ غير ان ما يميز الشعر عن غيره من فنون القول ان ماتعنيه وتصوره لغه الشعر لا يوجد ولا يحيا الا في الكلام المقول او المنطوق‏,‏ حتي وان لم ينطقه احد وظل مكتوبا‏.‏

فالشاعر هو الذي يستنطق اللغه لتعلن عن حضورها الصوتي والموسيقي الذي يتم فيه ومن خلاله فقط الافصاح عن معني او تصوير شيءما‏.‏

وهكذا فان الصوره الشعريه لا يمكن فهمها او الاحساس بها الا من خلال المنطوق الشعري نفسه‏,‏ فاللغه هنا لا تتجه ابدا خارجها‏,‏ وانما تحيلني الي ذاتها‏:‏ انها تجلب الخارج الي الداخل او تجلب الوجود ذاته الي بيت اللغه‏,‏ علي حد قول هيدجر‏.‏

وعلي هذا النحو‏,‏ فان الكلمه الشعريه تظل دائما غير قابله للاستبدال‏,‏ لان معناها يكون حاضرا في تاثيرها الصوتي الموسيقي الذي يتشكل من خلال علاقته العضويه بالسياق الصوتي الكلي للجمله الشعريه‏.‏ فالكلمه الشعريه من خلال حضورها الصوتي الموسيقي يكون لها نفس كثافه الحضور الحسي الذي يكون للاشياء والذي يتبدي في ملمسها ومذاقها‏:‏ انها تشبه ملمس ثمره الخوخ ومذاق ثمره الكمثري وحضور العشب والاشجار‏,‏ وغير ذلك مما لايمكن وصفه او استبداله‏.‏

تلك هي الشعريه‏,‏ وهي خاصيه يمكن محاكاتها بدرجات متفاوته في كثير من فنون القول او لغه النثر‏,‏ ولكن فن الشعر هو الذي يحفظ هذه الخاصيه ويبقي عليها باعتبارها عين ماهيته‏,‏ اما فنون القول او النثر الاخري كالروايه مثلا فانها تحاول ان تحاكي هذه الخاصيه لتضفي قيمه جماليه علي قيمها الجماليه الخاصه بها والتي تستمد منها قوامها‏.‏ والشعر يحفظ خاصيه الشعريه هذه ويرفعها الي ذروه تالقها من خلال الوزن والقافيه‏.‏ صحيح انه لا يكفي ان يكون الشعر موزونا ومقفي لكي يكون شعرا حقيقيا‏,‏ ولكن هذا لا يحدث الا في قصائد المتشاعرين الذين يفهمون الوزن والقافيه باعتبارهما حليه شكليه‏,‏ لا باعتبارهما جزءا من نسيج الشعر‏,‏ وبالتالي جزءا جوهريا في موسيقي اللغه الشعريه التي تاتي مشربه بمعناها او ياتي معناها مشربا بها‏.‏

اما الشاعر الاصيل‏,‏ فان اوزان قصائده وقوافيها تاتي بلا تكلف او اصطناع كما لو كانت تاتي وفقا لالحان سماويه‏.‏ وفي هذا يقول شوبنهاور عن القافيه‏:‏ ان الاماره التي يميز بها المرء علي الفور الشاعر الاصيل‏..‏ هي تلقائيه قوافيه‏..‏ فقوافيه تاتي من تلقاءنفسها كما لو انها قد جاءت وفقا لترتيب الهي‏,‏ فافكاره تاتي اليه مقفاه جاهزه‏.‏ اما الشخص النثري الركيك‏,‏ فانه علي العكس من ذلك يبحث عن القافيه لاجل الفكر‏,‏ بينما الدجال يبحث عن الفكر لاجل القافيه‏(‏ شوبنهاور‏:‏ العالم اراده وتمثلا‏,‏ الجزء الثالث‏,‏ ص‏207).‏

ولو نظرنا لقصيده النثر في ضوء هذا كله فماذا نحن واجدون؟

ان قصيده النثر في اعلي صورها الممكنه تحاول ان توجد ايقاعا للغه الشعريه بمناي عن الوزن والقافيه‏.‏ وبذلك فانهاتحاول ان توجد موسيقي الشعر بادوات موسيقيه اقل عددا وعده‏:‏ فايقاع البناء اللغوي ذاته الذي يعتمد علي تداعي الكلمات والتقديم والتاخير والاعاده والتكرار والتكثيف‏..‏ وكل ذلك هو مما يمكن تحقيقه في النظم علي افضل نحو‏,‏ ولذلك نجد ان التعريفات التي تقدم لقصيده النثر تظل دائما تعريفات لشكل فني سالب او منقوص‏,‏ فهي دائما ما تعرف في الموسوعات علي انها ليست كذا‏..‏ وغير كذا‏..‏ وبلا كذا‏..‏ وتفتقر الي كذا‏:‏ فهي كالقصيده الغنائيه القصيره ولكنها بلاوزن او قافيه‏,‏ وتختلف عن الشعر الحر في افتقادها الي الوقفات في نهايه الاسطر والايقاع المنتظم الذي ياخذ شكل التفعيله‏.‏ وحينما يتم تعريف قصيده النثر تعريفا ايجابيا‏,‏ ياتي هذا التعريف فضفاضا غائما بلا هويه كان يقال‏:‏ انها شيء مضطرب ايحاءاته لا نهائيه‏..‏ وخلق حر خارج عن كل تحديد‏..‏ وتوتر وحيويه وتمرد‏.‏ وكل هذا بالفعل من قبيل التمرد‏,‏ ولكنه ليس تمردا اصيلا‏,‏ لانه لا يبقي علي هويه الشعر او يحملها معه‏.‏