فلسفة العنوان وحمولة النص

( قصص شمعون بلاص )

يوسف يوسف

مقارنة بغيره من الأدباء اليهود ، يبدو شمعون بلاص (*) أقلهم حدة ، ليس لأنه لا يؤمن بمشروع الدولة اليهودية التي تقام على أنقاض الآخر الفلسطيني الذي ستنتزع أرضه منه ، وإنما لأنه وهذا ما يتميز به عن كثيرين ، يكتب عن اليهودي الشرقي من حيث هو إنسان تصعب عليه مفارقة المكان الذي ولد فيه ، والتآلف بيسر مع مكان

آخر ، حتى لو تمت الهجرة بناء على أمر إلهي أو ديني مزعوم . وفي معنى آخر فإن اليهودي الذي ولد في بغداد ورحل عنها في بداية تشكل وعيه القومي كما تشير وقائع حياته ، لم تستطع الدولة التي صار مواطنا فيها قطع جذوره عن مكانه الأول ـ العراق، وإن كانت قد حملته إلى طاحونتها . على أن هذا لا يعني بأنه ليس ثمة هناك سلطة قاهرة في مقدورها أن تفرض على أبطال قصصه الخضوع لحلم أرض الميعاد وفرية الحق التاريخي ، الذي يؤمن به بلاص ، القاص العلماني الذي دفعته المفارقة الماكرة هو الآخر كما دفعت آخرين سواه من يهود العراق للهجرة الاختيارية (1)، من أرض بابل حيث كانت بداية توراة عزرا التي تفيض كراهية لكنعان ولنسله ، إلى أرض أورشليم التي ستثبت الحفريات لاحقا بأنها لم تكن أرضه ـ أرض بلاص الذي سرعان ما سيقف مع مهاجرين آخرين قادمين من أطراف الدنيا ، لكن في حيطة وحذر شديدين، لإتمام مجزرة النفي والاثبات ، التي سيصبح في نهايتها هوالسيد والمالك في فلسطين ، فيما سيصبح الفلسطيني منفيا ، وعلى وفق المفارقة ذاتها ، إلى بابل المعاصرة التي فارقها بلاص ، والتي ستجتمع حولها أمم الطغيان لتثأر لأولئك الذين قالت عنهم الدراسات التوراتية أنهم يهود السبي ، الذين خرج من أصلابهم بلاص وسواه من أدباء اليهود ، بصرف النظر عن حدة النبرة الشعارية أو خفوتها .

 ومما يلفت الانتباه في قصص المجموعة المسماة ( نذر الخريف ) (2) عنواناتها التي هي العتبات بحسب ما اصطلح عليه نقاد الأدب من المفهومات . وجميع هذه العنوانات وهي أربع تحيل كل واحد منها بطريقته إلى البيئة الاجتماعية اليهودية ، التي تتراوح حياة الفرد فيها بين القلق والحصار تارة ، والتماهي والعمل في إخلاص في مشروع الدولة تارة أخرى . وليس من قبيل الاستطراد القول بأن هذه القصص يجمعها

 

 

 ناظم جمالي هو نفسه الذي يستخدمه بلاص ، الواقعي الذي يخفت عنده صوت السياسي ، ليرتفع صوت الأديب الذي يحرص على الجمال ، في قصص نرى أنها قد كتبت في حرفية عالية ، ندر الوقوف أمام ما يماثلها بين القصص العبرية ، ذات الوتيرة الهابطة جماليا في الغالب بسبب هاجس السياسة المسيطر عليها ، والتي تقع عموما في أدنى درجات التعبير الذي يمتاز بالسفسطة والمباشرة وسذاجة الطرح والزعيق الذي لا ارتباط له بما نسميها الذائقة الفنية الراقية ، التي يحملها هذا القاص أو ذاك ، وبالذات عندما تتحدد المتون بما تسمى العودة إلى أرض الميعاد وبناء الدولة .

 ترتبط قصص بلاص كما سبق القول بأرضية اجتماعية يهودية ، شأنها في هذا كمثل غيرها من القصص التي لا بدّ أن تنتجها أبنية اجتماعية وتاريخية وثقافية تتمايز عن بعضها بصفات ليست جميعها متشابهة ، فهذه قصة عربية ، وتلك قصة يابانية ، واخرى غيرهما فرنسية ، وهكذا إلى غير ذلك من التسميات . وإذا كانت القصص التي أنتجها يهود من السفارديم الشرقيين لها مواصفات تختلف بشكل ما عن تلك التي أنتجها اليهود الاشكناز الغربيون ، بحكم الأرضية الاجتماعية والثقافية المتباينة التي جاء منها القاصون ، فإن القصة عند بلاص تتداخل فيها أصداء الشرق وثقافته ، تماما كما تتداخل في قصص أخرى سواها ولكنها يهودية الانتماء ، أصداء الغرب القادم إلى فلسطين من ألمانيا وأمريكا وغير ذلك من الأمكنة والبيئات التي عاش اليهود فيها قبل هجرتهم . ومفاد هذا في كلمات موجزة ، أن أصداء الشرق التي نراها في قصص بلاص ، لا تعني تشبثه بهذا الشرق الذي يمثله العراق في حالة أبطال القصص التي يكتبها ، ذلك لأن أمرهذه الأصداء يعد طبيعيا تماما ، على اعتبار ان النصّ الذي هو بنية دلالية تنتجه ذات قادرة على الابداع ، إنما يأتي عند البحث عن أسباب تكونه ، ضمن بنية نصية أوسع ، هي البنية الاجتماعية والتاريخية والثقافية كما سبقت الاشارة، ومن هنا يمكن للنقد تناول المؤثر العربي في قصص بلاص وسواه من القاصين الذين تركوا العراق وهاجروا من أجل المشاركة في بناء الدولة ـ الجنة الموعودة ، مثما يمكن له تناول المؤثر الغربي في قصص أولئك الذين جاءوا إلى فلسطين من أوروبا .

 والظاهر من قصة ( الخالة غاوني ) أنها تصور العلاقة الانسانية القوية التي تربط الأولاد اليهود مع هذه المرأة الأرمنية التي كانت تعيش في بغداد ، المدينة التي نشأ فيه بلاص ، وكذلك بطل القصة الشاب الذي لم يذعن لأمه التي لم تكن ترضى عن زيارته للخالة غاوني . صحيح أن الأرمن الذين هم قوم الخالة غاوني قد تجرعوا العذاب وأبيدت الآلاف منهم لأسباب نعتقد بأن فيها الكثير من الغموض ، إلا أن بلاص في العلاقة التي أسسها بين الاثنين : الشاب اليهودي والخالة غاوني ، إنما بهدف إيهام المتلقي بأنه ثمة ناظم من نوع ما يجمعهما ، وهو الناظم الذي سيقول فيه بأن كلا من الأرمن واليهود قد تعرضوا للاضطهاد والقتل والملاحقات من المسلمين ، أولئك من الأتراك وهؤلاء من العراقيين ، وقد أشار إلى هذا في صراحة تامة وفي عبارات واضحة . ومن المؤكد بأن هذا المتلقي الذي يتوقف أمام قوله ( ولكن الخالة غاوني لم تكن كسائر أبناء قومها ، كانت وحيدة . الأتراك قضوا على أبناء عائلتها . ألقوا القبض على ابنتها وطردوها مع زوجها من بلادهم )(3) سوف يتساءل فيما إذا كان اليهود الذين منهم الشاب قد تعرضوا هم الآخرون في العراق إلى ما تعرضت له غاوني في أرمينيا ، وهو السؤال الذي ترهص به عملية الجمع بين الاثنين على مستوى السرد . وهكذا فإذا صحّ اعتبار العنوان عتبة إلى قضية الأرمن ما دامت غاوني التي يحمل العنوان اسمها واحدة منهم ، فإن ما تنعت بالبؤرة التي تلتقي فيها مختلف خيوط بنية الحكاية ، إنما تتمثل في التعبير عن فرحة الشاب بالرحيل إلى فلسطين ، بعد أن يكون بلاص قد أوجد حالة من التماهي بين كل من الأرمن وبني قومه اليهود الذين كانوا هم الآخرون آنذاك بصدد الهجرة وهو ما يمكننا ان نتبينه من قوله على لسان الشاب اليهودي ( وذات يوم أعلنت الصحف ان أرمينيا تدعو أبناءها المغتربين إلى العودة إلى وطنهم ، فسرت موجة من الحماس فيهم ، وةلأول مرة رأيتهم في اضطراب وصخب يتجمعون في الطرقات ، يتعانقون ويتناقلون الأخبار )(4) .

 الحديث سابق

اإنما يعني محاولة استجواب النص الذي نتلقاه كرسالة قادمة إلينا من قاص ما ، بصرف النظر عن جنسيته ودينه . وهي محاولة الغاية منها الذهاب إلى الأعماق وإلى ما وراء الأكمة التي يقال عادة أن وراءها ما وراءها . فماذا عن العنوان في قصة ( نذر الخريف ) هي الأخرى ؟ وأي خريف هذا الذي سيضع بلاص صورته أمام عيوننا ؟ وفي شكل آخر للسؤال : ما هي التوطئات الاشارية التي يقدمها إلى النذر وما طبيعة هذه النذر التي ستأتينا على صورة دالات معينة ، تفيد عند التمعن بها واستكناه جمالياتها في الكشف عن القيمة الفنية للقصة التي يكتبها بلاص ، الذي لا نستطيع وضعه أو تصنيفه فنيا ضمن الشرذمة من القاصين اليهود الطبالين للفكر الصهيوني وعلى وفق نظرية هرتزل حول الضجيج والصراخ كليهما معا ودورهما في تحقيق أهداف السياسة وغايات السياسيين .

 لا شك ابتداء بأن القاص بلاص إنما يحرص أشدّ الحرص على الذهاب في قصصه إلى تجربة بشرية يمكنه أن يستخلص منها معنى ما ، وعلى غرار ما فعله في القصة السابقة . وهو بسبب هذه الحركة التي لا يتحدد فيها بالتجربة اليهودية ، يحتم علينا النظر إلى هذه القصص باحترام ، وهذا أمر يذكرنا بقول للناقد ريتشارد هوكارت وفيه يقول : إني أقدّر الأدب بطريقته الغريبة التي يرتاد بها التجربة الانسانية ويعيد تكوينها، ويبحث فيها عن معنى . أقدّره لأنه يرتاد تنوع هذه التجربة وتعقيدها وغرابتها (5) .

 يذهب بطل القصة حسني منصور المصري الذي ولد في القاهرة إلى باريس للدراسة فيها . إنها عملية التقاء الشرق بالغرب يصورها شمعون بلاص بدقة متناهية ، من حيث أن لكل منهما ثقافته وسلوكه وأحلامه وسوى ذلك مما يدخل في إطار التجربة الانسانية . ولقد رسم عملية الالتقاء من خلال الربط بين حسني منصور والفرنسية أوديت بتزويجهما وإبقاء كل منهما على ديانته . هذا يعني أننا أمام قضية كتب عنها الكثير ، فاختلفت الآراء ما بين مؤيد لهذا الالتقاء ورافض . وعلى الرغم من أن علاقة الزواج قد بدا عليها النجاح وأن الزوجين في حالة من الانسجام قوية ، إلا أن الق5اص لم يجد مناصا من الاقرار بأن لقاء الاثنين إنما كان ظل يتحدد بلقاء جسدي شهوي ، أكثر منه التقاء حضارتين يمثلهما كل واحد منهما ، بدلالة أن حسني منصور لم يعد يطيق البقاء والعيش في باريس بعد موت أوديت ( كانت المقبرة خالية . وفي رحاب شواهد القبور كانت قامته المتلفعة بالسواد بارزة في وحدتها . مسلم بين الصلبان . غريبة . هكذا كان وهكذا سيرحل . نهاية الرحلة (6) .

 صحيح أن القصة اجتماعية ويمكن أن تحدث في أي مكان آخر . لكن الأساس الذي يجب أن تنهض فوقه الثيمة الرئيسية يتمثل بوجوب كون الزوجين من بلدين مختلفين ، كما يجب أن تكون لكل منهما ديانته المغايرة لديانة الآخر، وبما يفيد في حتمية تكوّن الاحساس بالغربة لدى أحدهما بعد رحيل الثاني عن الحياة . هذا جانب من المعنى ، ولكنه ليس وحده ما يقصده القاص . إن الشرق عنده شرق ، والغرب غرب ، وما بينهما ليست مسافة قصيرة . ومن البديهي أن يكتشف القارئ ولربما بيسر، نزوع شمعون إلى تغريب شخصياته ( دفعها باتجاه الغرب ) ، إلا أنه وبحكم الحرص على المعقولية في التصوير ، لم يستطع مواصلة لعبة توليد المعنى على وفق المنوال ذاته : تفسير إمكانية اللقاء الحضاري والثقافي من خلال توحيد جسدين ، حتى لو وصل الأمر بأحدهما للتماهي والذوبان في الآخر ، وهو ما لم ولن يحدث ( كان يخطو في شعاب المقبرة ويفكر في الشاب الرومانسي الذي نشأ في حي الحسين بالقاهرة ـ يقصد نفسه ـ وفتن بسحر الموسيقى الغربية . طالب في كلية الطب . أديب ناشئ . واحد من مجموعة ثارت على القرية . لا تقليد بعد اليوم . لا رضوخ للأمر الواقع . أصالة . هوية مصرية عصرية )(7) .

 من الاشارات السابقة يتحدد فهمنا للخريف وللنذر التي تسبقه فتعلن عن قدومه . لربما تدفع السطور الاولى من القصة المتلقي إلى الاعتقاد بأن بلاص إنما يريد تصوير خريف حياة بطله حسني ، إلا أن الأمر ليس كذلك . لا بل إن النصّ الأدبي ، أيّ نصّ ، لا يمكن أن يكون ناجحا وذا قيمة جمالية عالية ، إن لم تكن خافية أعماقه وعصيّة على مختلف النظرات السريعة العجولة وغير المتانية . ونحن تقصد هنا على وجه التحديد العبارة التالية ( قرر أن يرجئ الاستحمام إلى الصباح . إلا أنه نسي أن يغلق الحنفية في الحمام . ارتدى منامته وةآوى إلى الفراش . هذا كل ما حدث . الخلل لم يصب ذاكرته فحسب ، بل أصاب أذنيه أيضا . ارتسمت على محياه الذاوي ابتسامة شاحبة ، وعاد إلى الحمام . يا لك من أصمّ)(8) . ولكن إذا لم يقصد بلاص ما سبقت الاشارة إليه عند وقوع سوء الفهم ، فما الذي يقصده ، أم أن الأمر يتحدد بخريف العلاقة بين الشرق والغرب .

 هذا هو الجانب الأهم ، والمستتر إنما يتخفى وراء صياغات تحتم على الناقد عدم الاكتفاء بالنظرة إلى الخارج أو إلى الظاهر من النص ( إنسان يسعى في خط دائري حول محور وهمي . حول نقطة لا يبلغها أبدا . حول مفترق طرق . أجل . هكذا سيسمي ذكرياته إن قيض له أن يكتبها : إنسان في مفترق الطرق . لا تعريف أصدق من هذا . وباريس كانت المفترق )((9) و( رجل كانت حياته سيرا في خط دقيق . على تخوم عالمين . خط يمتد على شكل دوائر . دائرة داخل دائرة . ودائرة منطلقة من دائرة. خط لولبي . وجود مهزوز . على التخوم . كيان هجيني لا كمال فيه . الجسد وحده يعود إلى مصدره . يأخذ محله في الأرض . نهاية الرحلة غريبان التقيا ثم انفصلا , جسدان عادا إلى تربتيهما )(10) .

 وفي قصة ( إيّة ) ينادي الأطفال اليهود ممن يعيشون في داخل البيت الكبير الخالة زكية بهذا اللقب ( هكذا ناداها الأبناء الذين استصعبوا ـ على غرار الأطفال ـ أن يلفظوا اسمها . ومع الأيام أصبح على لسانهم اسم دلع لها )(11) . وإيّة كما يرسم بلاص صورتها ، مسلمة وابنة عائلة بغدادية أصيلة حملتها الأقدار لتتزوج رجلا من جنوب العراق ، سكيريقسو في معاملته لها . ولأن الرجل كذلك ، فإنها سرعان ما تجد نفسها وحيدة في الحياة ، فلا تجد خلاصها إلا في بيت الجيران اليهود ، الذين سوف تصدمها هجرتهم إلى فلسطين ، ليس لأنها تتعاطف مع الفلسطينيين وإنما لأنها وجدت خلاصها عند اولئك الذين ستذرف الدموع بعد هجرتهم ( لم ترزق بأبناء ولم يكن لها بيت خاص بها ، إلا أنها لم تقتت من الصدقات يوما . في عرف الناس اعتبرت بمثابة خادة ، وبين أفراد عائلتها ابنة شاذة ، أما بالنسبة لمعارفها الكثيرين فهي جزء من العائلة التي احتضنتها منذ أن رحلت من بيت شقيقتها وجاءت لتسكن مع ابنة الجيران اليهود)(12).

 الظاهر من العنوان الذي يعد إحدى بؤر النصّ ، أن القاص سوف ينير مختلف جوانب هذه الشخصية ، التي جعلها عتبة يعبر منها إلى ما سيحمله متن القصة السردي. صحيح أن هموم الخالة زكية ـ إية ومتاعبها وعوامل إحباطها وقهرها كامرأة شرقية تحتل مساحة واسعة من خطاب القصة ، وهو مما يتساوق مع فلسفة العنوان الذي اختاره ، بيد أن بلاص الذي جعل خلاصها في علاقتها ببيت الجيران اليهود ، يكون قد انحاز إلى يهوديته ، وألبسها ثوبا لم تطاوعه نفسه على إلباسه لمسلمين أو لغيرهم ، كما أنه يكون قد ألقى علمانيته وراء ظهره ، ومثلها قناعاته الشيوعية التي وضعها في أفرايم . ولعل هذا النسيان هو ما أوقعه في مأزق الترويج للذات اليهودية ، على حساب الذات الأخرى ، العربية المسلمة ، التي ستتخلى عنها الخالة زكية ، التي ستنال من إعجاب القاص والقارئ اليهودي كليهما معا الشيء الكثير ، بعد أن يكون قد رآها على غير ما يجب أن تكون عليها صورتها التي تسبق وصولها إلى البيت اليهودي ، وهي الصورة التي سيطنب بلاص في تقديم تفاصيلها إلى حد بعيد ( بيت الجيران اليهود كان في بداية الزقاق . وبخروجها اليومي كانت تجد دائما سببا لتعرج عليهم . جذبها نمط حياتهم ، وصاحبة البيت كانت تستقبلها ببشاشة ، وتكلفها ببعض الأعمال البسيطة ، وتدعوها للأكل مما تعد من طعام )(13) ، و ( لم تندم يوما . بل إنها لم تكثر من تعذيب نفسها بأسئلة لا جواب عنها . وعندما كانت تتنبه أحيانا لتفوهها بكلمات وتعابير بلهجة اليهود في أحاديثها مع نعيمة ، كانت تضحك بقلب راض . أنت يهودية أكثر منك مسلمة . كان محيي يشاكسها بروح مرحة . نعم يهودية أكثر من مسلمة ومسلمة بين يهود .. هكذا كانت حياتها ) ( 14) .

 الخالة زكية وما يرتبط بشخصيتها ، أو إنّة كما يرد اسمها على ألسنة الصغار ، واحدة مما انشغل السرد بها ، وأما الانشغال الآخر فيتمثل بالعائلة اليهودية التي اختارت العيش في كنفها . ولسوف يتبين القارئ الذي في مقدوره تحليل القصة والكشف عن اسرارها ومستوياتها ، أن القاص باختياره اسم إنّه ليكون عنوانا ، وهي المسلمة التي ظلت تعتقد أن خلاصها لا يمكن أن يتحقق إلا في وسط اليهود ، إنما كان يصور بحرفية فنية عالية تأثير هجرة اليهود على البلدان العربية التي سيهاجرون منها، وهو التأثير الذي يبرز قيمة الوجود اليهودي بين العرب المسلمين ، الذين يظلون بحاجة إلى اليهودي المتميز والحضاري ، وذلك من خلال تصوير هذا التأثير على إنه، وإنها لقدرة كبيرة في لعبة التخفي التي يتقنها بلاص وفي براعة بسبب ما يمتلك من الذائقة الفنية التي ليس من اليسير على الناقد صرف النظر عنها ، أو التقليل من شانها . وفي معنى آخر فإن اقتفاء صعوبة حياة الخالة زكية والاضطهاد الذي تعرضت له قبل وصولها إلى البيت اليهودي ، يبقى أقرب إلى المقاربة الناقصة وغير المكتملة ، ذلك لأنها أقرب ما تكون إلى عملية التوسل بما هو خارج النص ـ الثيمة الأساسية ، منها إلى المقاربة التي في مقدورها النفاذ إلى أعماق القصة ، لاكتشاف تشابكات وعلاقات أحداثها بعضها بالبعض الآخر .

 ما سبق يعني من وجهة نظر أخرى أننا أمام خطاب سردي يتأسس على وفق ستراتيجيات النصّ ذاتها التي يتأسس في ضوئها الأدب اليهودي عموما : السمو اليهودي في مقابل الانحطاط العربي ، وكذلك العمل على تشويه شخصية العربي وتقديمها بأقبح الأوصاف ( عاد إلى مخيلتها منظر السرداب الذي انزوت فيه العائلة ليلة الفرهود . من كان يستطيع أن يغمض عينيه في تلك الليلة ؟ سارة منتصبة في جلستها ، وصوفي متدثرة إلى جانبها على الكنبة ، وعزيز على الكنبة الأخرى ، شاحب اللون وعيناه تتوهجان ، وجموع السلب والنهب تمر في الزقاق الضيق ، وأحمالهم تخبط بالباب ، ومع كل خبطة تنفطر القلوب هلعا )(15) .

 بلاص اليهودي على وفق ما سبق ، وعلى الرغم من تظاهره بالاختلاف مع السائد من الفكر في القصة اليهودية ، لم يستطع التحرر من سطوة الدين . بل ولقد ظلت الحاكمية له في مجمل صياغاته لشخصياته ، ومن هنا نرى دفاعه عنه بضراوة نستشفها من سخريته من أولئك الذين يعزون سبب مختلف المشاكل إلى اليهود ( لا قلق ولا مخاوف بعد الآن . تسمعين الاهانات وتتجلدين . تسمعين الكلام البذيء ولا تجيبين. كل المصائب من اليهود ، يقولون لك . جنس ملعون يقولون لك . والله حكم عليهم أن يتشتتوا في البلدان وأن يكونوا مهانين بين الشعوب ، وأنت صامتة .. وأنت صامتة )(16) . وبهدف تأكيد صورة اليهودي الجميلة ، فإن شاؤول حينما يدخل ويجد الخالة زكية في عزلتها داخل الظلمة ، فإنه ينير الغرفة ، ويقدم لها القرآن هدية ( هكذا يفعل اليهودي عند بلاص ) ، فيما العربي على عكسه تماما : سارق ولص ولا يتقن سوى القيام بأعمال الفرهود وإهانة زوجته وتعذيبها .

 أخيرا وفي القصة الرابعة ، يتجه خط الدلالة في عملية تفسير مصطلح المدينة السفلى ـ عنوان القصة إلى ما تحت الظاهر من حياة البطل ، الذي هو رجل عجوز يخرج من بيته ، للالتقاء بصديقه القديم سامي في مقهى العوامة . وهذا الاتجاه نحو ما هو مخفي في تضاعيف حياة هذا الرجل لتفسير المصطلح ، إنما يفرضه على المتلقي خطاب السرد ، الذي يضعنا أمام بطل يحيا في ما يشبه الحلم ، فتسترجع ذاكرته أهم مفاصل حياته ، لنصل إلى ما يفيد بأن المقصود من المصطلح ليس جغرافيا معينة ، واطئة كما توهمنا المفردة ، وإنما الغوص في الأعماق برفقة الرجل العجوز الذي يحملنا معه ليسرد لنا جوانب من ماضيه الذي هرب ولن يعود ، كمثل ما ذهب سامي صديقه في هجرته إلى وطن آخر ، تاركا وراءه في أعماق الرجل العجوز حسرة وحزنا شديدين نتبينهما من نهاية القصة ، التي تخبرنا بأنه لم يكن في حركته باتجاه العوامه يتحرك على وفق وعد حقيقي أعطاه إياه سامي في ذلك اليوم ، وإنما هو قد أسلم نفسه وإرادته لمحرك داخلي ظل يدفعه على امتداد الطريق الممتد من البيت إلى المقهى التي اعتاد الذهاب إليها قبل هجرة سامي ، هي قوة الماضي . يقول بلاص على لسان الرجل العجوز بعد الوصول إلى المقهى وعدم عثوره على سامي ( أنزل السلم الخشبي . وإذا بي داخل المقهى . إلا أن سامي لم يعد هناك . رجل كهل يرتدي بدلة خضراء وربطة حمراء حول عنقه ـ هي نفس صفات البدلة التي ارتداها عند خروجه بناء على طلب من ياعيل ـ يجلس مكانه . لا أحد في الصالة سواه . أتوجه للخروج فيقع نظري على صورتي المنعكسة في المرآة في المدخل . أتوقف محدقا في نفسي وأتساءل : هل حقا تغيرت )(17) .

 هكذا فإن العنوان إنما يحمل المتلقي إلى أعماق شخصية تبحث عن ذاتها المتمثلة في ماضيها الجميل قبل الهجرة إلى أرض الميعاد . وهي حين تقوم بذلك فإنما من أجل البحث عن الشرق الذي ترك تأثيراته على بلاص ، القاص الذي يرى بأن توازنه لا يمكن أن يتحقق بدون أن يحمل ماضيه معه إلى حيث ارتحل . لربما تكون الثيمة نفسها التي رأيناها في حالة الخالة زكية ، لكن التنويع في البناء يحملنا إلى معالجة فنية من طراز مختلف عن التي سبقت ، وإن كانت القصة واقعية هي الأخرى . إنه البحث الذي لا جدوى منه :

ـ السراب يخدع الضالين .

ـ لطيف ! إهدني إلى المقهى .

ـ كمل الدروب تؤدي إلى مقهى .

ـ أريد مقهى العوام .

ـ العوامة أبحرت مع النازحين اليهود .. حلقت مع النازحين (18) .

 يقول الدكتور إبراهيم طه (19) : اتجه شمعون بلاص في مسار واضح المعالم للتعامل مع الانسان ككيان مستقل له هويته الفريدة والذاتية في مواجهة الحياة . هذه الحياة التي قد تولد عنده شعورا بالضعف والازدواجية والانفصام والغربة والاحباط والعزلة والضياع . إن ولادة شمعون بلاص في قلب الحضارة الشرقية ـ العربية ونشأته فيها من جهة اولى ، وانفتاحه الصريح على الحضارة الغربية ـ الفرنسية من جهة أخرى ، جعلت منه شخصية فريدة ، صاحبة رؤية شاملة ورؤيا عميقة .

 وبصرف النظر عن كل ما يمكن قوله بخصوص بعض ثيمات هذه القصص مما نختلف معها ، فإن شمعون بلاص شأنه في هذا كمثل شأن بقية القاصين اليهود ، استطاع أن يقدم للقارئ اليهودي الكثير مما يمكنه أن ينعش ذاكرته ، من الكبسولات المعبأة بإتقان وبأفضل الأدوية . وهو في هذا الأسلوب الواقعي الذي اختاره ، وفي سحرية صياغاته اللغوية ، استطاع أن يبين لنا جوانب من حياة يهود العراق ، ومن هنا أهمية قصصه للبروغاندا الثقافية اليهودية ، وخطورتها على محاولات استرجاع تاريخ فلسطين المسروق.

               

الهوامش :

(* ) ولد شمعون بلاص عام 1930 في بغداد . وهاجر إلى فلسطين عام 1951،

 له عدد من الروايات التي منها : ما وراء الوادي ، الشتاء الأخير ، صولو ، أمام

 السور ، وله ثلاث مجاميع قصصية منه نذر الخريف .

(1)             شمعون بلاص ، نذر الخريف (قصص مختارة ) ، منشورات الجمل ، 1997،

أمانيا .

(2)             المجموعة ص9

(3)             المجموعة ص8

(4)             د عناد غزوان ، التحليل النقدي والجمالي للأدب ، بغداد 1985، ص30

(5)             المجموعة ص34

(6)             المجموعة ص34

(7)             المجموعة ص15

(8)             المجموعة ص35

(9)             المجموعة ص 34

(10)         المجموعة ص58

(11)        المجموعة ص58

(12)        المجموعة ص86

(13)         المجموعة ص95

(14)        المجموعة ص73

(15)        المجموعة ص102

(16)        المجموعة ص128

(17)        المجموعة ص123

(18)        أنظر الغلاف الأخير للدكتور إبراهيم طه