"قصيدة الأميري" ريحانة الله "في ضوء نظرية النظم"

"قصيدة الأميري" ريحانة الله

"في ضوء نظرية النظم"

د. سعيد الغزاوي*

[email protected]

ملحوظة أساسية : ألقيت هذه الدراسة في ندوة تكريمية للشاعر عمر بهاء الدين الأميري رحمه اله نظمتها جمعية البلاغ بمدينة المحمدية بالمملكة المغربية . وأعقبتها تدخلات بعض الأساتذة المهتمين بالأدب الإسلامي ، فأقرها على سبيل التجربة والرجوع إلى التراث البلاغي الدكتور علي لغزيوي رحمه الله . وتحفظ منها الدكاترة مصطفى الحيا وأبو بكر العزاوي وعبد الرحمن عبد الوافي ومحمد جكيب ، لأنهم رأوا فيها سدا لباب الانفتاح على التيارات الحديثة للنقد . وهاهي مناسبة هذا المؤتمر العالمي الرابع للغة العربية وآدابها الذي يعقده قسم اللغة العربية وآدابها  بكلية معارف الوحي بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا لتعرض التجربة على محك التقويم والنقد .

1 ـ أسئلة المنهج وشرط التوظيف :  تؤرقني في النقد الإسلامي أسئلة تثار وأخرى تفرض نفسها فأحاول في حوارات الأدب الإسلامي ، وعند تأطير بحوثه الإجابة عن بعضها ، وأتحصن وراء ضرورة التأصيل في وقت تكاد أغلب القيم في حياتنا تفقد أصالتها . ويضغط علينا الغرب وينوء بكلكله ، ويضغط علينا الكسل الفكري فنرتمي في أحضان الغرب مستمرئين أطروحاته القائلة بإنسانية الفكر، وبضرورة تلاقح وتقارب الأفكار أينما كان مصدرها . ونحن مدركون أن الغرب هو المركز وهو المصدر للفكر ، وأن الإنسان عنده لا يتجاوز دائرة أوروبا وأمريكا . فهو وحده الموكول إليه أمر تصدير الفكر والمنهج .

أحاول جاهدا الإجابة ، عند مواجهة الإبداع الإسلامي ، وعند الحديث في موضوع التنظير للنقد الإسلامي ، فتواجهني قناعات بعض المهتمين بالأدب الإسلامي : منهم المنفتح على المدارس الغربية للنقد يعب منها دون حرج ، ومنهم العائد إلى قضايا في النقد القديم تعتبر في وقتنا الراهن نوعا من الترف الفكري ، أو نوعا من الانغلاق والهروب من الواقع ، ومنهم المؤمن بضرورة التأصيل والتقعيد لنقد إسلامي الهوية والأدوات ، وكنت ضمن هذه الزمرة الثالثة قوي الإيمان بما أقول ، عاجزا عن تخطي القول إلى الفعل ، كسلا وتهيبا لأن أمر التأصيل يستوجب عملا جماعيا .

وقيض الله لي سببين كانا كافيين لرفع الكسل والتهيب :

1 ــ السبب الأول : اطلاعي على دراسة نقدية عنوانها " معلقة زهير في ضوء نظرية النظم " للدكتور أحمد محمد علي ، وهي دراسة ينسجم صاحبها مع قناعتي بجدوى التأصيل ، فهو يرى " أن المدخل الصحيح لأي نص من النصوص هو اللغة ، ليست اللغة المتشرذمة المتأخرة ، بل اللغة بمفهومها الشامل " " 1 "

هذا الفهم الشمولي للغة لم يستطعه إلا النزر اليسير من علماء العربية ، ربما يتصدرهم عبد القاهر الجرجاني ، لأنه " حينما وضع نظريته في النظم في القرن الخامس الهجري ، وضعها على أساس من نظام اللغة بمفهومه الواسع " " 2 "

2 ــ السبب الثاني : لقاء مبارك مع الأديب الداعية الدكتور عدنان علي رضا النحوي صيف سنة 1989 م ، فوجدته أصيلا في فكره وشعره ولغته ورؤيته لهوية الأدب والنقد الإسلاميين .

هذان السببان جعلا قلبي يطمئن للخط الفكري الذي ارتضيته لنفسي . بل لمست من خلال شعر النحوي الأصيل أن سبب ضآلة حجمنا أمام العالم هو تفريطنا في كنوز اللغة العربية . وهو تفريط ترتب عنه الاعتقاد بقابلية الشعر الإسلامي المعاصر لتجريب المناهج النقدية الغربية .

كما وجدت أديبنا النحوي لا يؤمن بغير القصيدة العمودية شعرا عربيا إسلاميا أصيلا ، ولا بغير النقد الأصيل نقدا عربيا و إسلاميا كذلك . واستنتجت أن الانسجام لا يحصل إلا داخل الدائرة . فإذا حاولنا غير ذلك سنقع في فخ التغريب تحت مسمى الحداثة .

نفضت عني غبار الكسل ، والتمست العون من الله ، وفكرت في نظرية " النظم " مباشرة خطوة أولى في التجريب والتطبيق على النصوص الشعرية الإسلامية . وعندما رجعت إليها في كتابي " أسرار البلاغة " و " دلائل الإعجاز " لعبد القاهر الجرجاني ، وجدتها تكسر طوق علم المعاني ، وتنفتح على كل الأسرار التي تحبل بها اللغة العربية ، بل وجدت أن الفهم السليم والمتكامل لنظرية " النظم "  يقوم على توظيف الإمكانات النحوية والدلالية والبيانية والإيقاعية للغة العربية حين تحليل النصوص الأدبية .

تبقى الإشارة إلى شروط أساسية تنبغي مراعاتها عند توظيف نظرية " النظم " وتأتي على رأسها :

1 ـ أن تكون القصيدة المدروسة عمودية .

2 ـ أن تكون لغتها متينة .

3 ـ أن تكون درجتها البيانية رفيعة .

ومن هنا سوف نصبح مجبرين في هذا التطبيق على إقصاء كثير من الشعر رغم إسلامية رؤيته .

2 ـ قصيدة الشاعر عمر بهاء الدين الأميري " ريحانة الله " في ضوء نظرية النظم :

تندرج هذه القصيدة ضمن قصائد ديوان " أب " للشاعر الأميري ، وقد أعيد نشرها في ديوانه " رياحين الجنة " من منشورات رابطة الأدب الإسلامي . وهي من أطول قصائد الديوان ، إذ تتكون من ثمانية مقاطع ، وثمانية وخمسين بيتا . وقد أبانت قراءتها الأولى عن تجاوبها مع نظرية " النظم " من عدة وجوه :

فهي غنية بالصور البلاغية ، وبثراء علم المعاني " التقديم والتأخير ، والحذف والتكرار ... " إلى غيرها مما يدخل ضمن علم المعاني . ثم إنها تشهد على متانة لغة الأميري رحمه الله ، وإدراكه خبايا اللغة العربية وذخائرها .

1 ـ دراسة العنوان : 

يبدو هذا الإدراك من عنوان القصيدة " ريحانة الله " حيث يكني فيه عن الولد ، وهو توظيف يتضح حين استحضار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " الولد من ريحانة الجنة " رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول . حيث يسعف في وضع العنوان في إطاره السليم وفهم مرجعيته . فنفهم أن ريحانة الله يقصد بها  الولد ، فنقرأه بتقدير المحذوف " الولد ريحانة الله " أو " ريحانة الله هو الولد " . ويختلف قدر جمال صياغة العنوان بحسب تقدير المحذوف وأهميته بالنسبة للشاعر والمتلقي : فإذا كان المبتدأ هو المحذوف نكون أعطيناه الأولوية ، وإذا كان المحذوف خبرا نكون أولينا الأهمية لريحانة الله ويكون تقدير حذف المبتدإ أجمل .

2 ـ دراسة القصيدة :

تنقسم القصيدة ، كما ذكرنا ، إلى ثمانية مقاطع ، سوف نقف عند كل مقطع مبرزين معالم جماله انطلاقا من " نظرية النظم " .

المقطع الأول :

الراحلون وعن منازلهم   ×××   في القلب، ما بانوا ولارحلوا

فلذ من الأكباد دارجة     ×××   تجري ... فتخفق حولها المقل

الضاحكون ... وكلهم نزق ؟ ××× الصاخبون ... وكلهم جدل

العابثون .. بكل ما وجدوا  ××× والحاطمون ... إذا هم حملوا

المذنبون .. وليس من حرج ××× فلكل ذنب عندهم علل

يكثر في هذا المقطع / المقدمة من الصفة ويحذف الموصوف : الراحلون ، الضاحكون ، الصاخبون ، العابثون ، الحاطمون ، المذنبون ، وهي كلها أوصاف لمحذوف تقديره الأولاد .

الراحلون وعن منازلهم ××× في القلب ، ما بانوا وما رحلوا

في البيت الأول يوظف أسلوب المقابلة ، فإذا كان الأولاد قد رحلوا عن المنازل فهم مقيمون في القلب . رحلة عن المنازل ومقام في القلب . ثم إن الشطر الثاني من هذا البيت يبرز جماله في التقديم " في القلب ما بانوا " ، وللتقديم أهمية من حيث المعنى : فتصبح الأهمية للقلب أكثر من البين ، أو الأولاد المقدرين في ضمير الفعل الماضي " ما بانوا " . 

فلذ من الأكباد دارجة   ×××   تجري ...  فتخفق حولها المقل

هنا كذلك حذف للموصوف " الأولاد " ، وذكر للصفة " فلذ من الأكباد " تأكيدا لموقعهم في نفوس الآباء وقلوبهم ، فهم قطع من الكبد . ثم يصف حركتهم في حالتين : حالة المشي الخفيف كنى عنها بالصفة " دارجة " ، وحالة الجري تتابعها عيون الآباء خوفا . فوظف الاستعارة للتعبير عنها " تخفق حولها المقل " . والخفق للرايات استعاره الشاعر للمقل . وفي هذا التوظيف جمال وأي جمال . لأن الشعراء درجوا على استعارة الخفق من الرايات للقلوب ، أما هنا فهو استعارة للعيون . ويمكن تأويله هنا على سبيل الاستعارة والكناية معا : لأنه استعار الخفق من الرايات ونسبه للقلوب ، وكنى عنها بالعيون ، أو اعتبر العيون قلوبا . لأن عيون الآباء تتابع حركة الأولاد في جريهم ، وقلوبهم خائفة من أن يقع لهم سوء نتيجة عدم مبالاتهم بالمخاطر .

الضاحكون ... وكلهم نزق ؟   ×××  الصاخبون ... وكلهم جدل ؟

استعار صفة النزق ، رغم ذمامتها بالنسبة للكبار ، لكنها منسجمة مع براءة الصغار ، بل احتلت موقعا جميلا في هذا المقام : فالضحك وكثرة الحركة إذا كانا غير مقبولين من الكبار لكنهما هنا اكتسبا موقعا جميلا كما ذكرت . ورغم تنافر الصخب مع الجدل ، إلا أنه هنا كذلك تناسب مع وصف ما يحدثه الأولاد من ضجيج ناتج عن فرحهم البريء .

العابثون ... بكل ما وجدوا  ×××   والحاطمون ... إذا هم حملوا

يستمر في وصف الأطفال ، فيلحق بهم صفة العبثية المستقبحة كذلك من الكبار ، وليس الأمر كذلك بالنسبة للصغار . وخصيصة العبث هاته تتلاءم والشمولية . حيث لا يسلم أي شيء ، بل إنهم في عبثهم هذا يتسببون في إتلاف ما يجدونه أمامهم . فاستعار صفة الحملة التي تلازم هجوم المحاربين والمقاتلين ، وصف بها حركة الأطفال . فإذا النتيجة واحدة : تحطيم الجنود وتخريبهم الديار ، وتحطيم الأطفال لكل ما بالبيت .

المذنبون ... وليس من حرج   ×××   فلكل ذنب عندهم علل ؟

يلبس الأميري ، رحمة الله عليه ، جبة الفقيه فيجيز للأولاد الذنوب { المذنبون وليس من حرج } وهو جواز ليس مطلقا ، وإنما لارتباطه بالأسباب المبيحة للذنب { فلكل ذنب عندهم علل } .

ثم إن الفاء التي افتتح بها الشطر الثاني ، أضفت جمالا على هذا البيت ، لأنها جعلت الذنوب عندهم مغفورة ما دامت لها مبرراتها . وكأن الشاعر الفقير يردد مع الأصوليين { الضرورات تبيح المحظورات } .

ثم إن تكرار الذنب في هذا البيت لم يأت مستقبحا ، وإنما أفاد أن هذه الذنوب مما لا حرج فيه . لذلك أورد لفظة { المذنبون } في الشطر الأول ، ثم أورد مصدرها { الذنب } في الشطر الثاني . وأورد { ليس من حرج } في الشطر الأول و { عندهم علل } في الشطر الثاني . وهو تكرار يفيد التأكيد على معنى الذنب المغفور ، أو الذي لا عقاب عليه .

المقطع الثاني :

البيت يسكن في ابتعادهم  ×××  ونظامه ... يزهو ويكتمل

فإذا غشوه يضج من صخب ××× ويكاد ركن البيت ينتقل

كم لوثوا بالحبر من بسط  ×××   لا يأبهون بلوم عذلوا

كم من مناضد دحرجوا عبثا  ×××  كم من وسائد في الثرى ركلوا

سجف الستائر من تجاذبهم  ××× مشرومة ... والذيل منفتل

وصحائف الكتب التي درسوا ××× ولفائف الحلوى التي أكلوا

كم فصلوا ... وبنوا بها سفنا  ××× دأماؤها ... الأطباق والقلل

و " الهاتف " المسكين ألهية  ×××  لصغارهم تزجى به القبل

يتميز هذا المقطع بوصف حركة الأولاد داخل البيت : لذلك ينتقل من عمومية الوصف في المقطع الأول ، إلى جزئيات ما يصنعه الأطفال في البيت ، وهو ما يتضح من أول كلمة في هذا المقطع :

البيت يسكن في ابتعادهم  ×××  ونظامه ... يزهو ويكتمل

وفي تقديم " البيت " في الصدر دلالة على أهمية الأوصاف التي سيشملها به . كما نجد المقابلة بين { يسكن في ابتعادهم } و { فإذا غشوه يضج من صخب } .

فإذا غشوه يضج من صخب ××× ويكاد ركن البيت ينتقل

ولفظ { غشوه } استوحاه الشاعر في الغالب من قوله تعالى {فلما تغشاها حملت حملا خفيفا } " الأعراف : 198 " . وله جمال في هذا الشطر . كما أن الكناية واضحة عن ملء الأولاد كل أركان البيت . إن لم يملأوه بأجسادهم فقد ملأوه بصخبهم . ولفظ " تكاد " في الشطر الثاني له جماله كذلك : لأنه يشير إلى صدق الشاعر في الوصف وعدم جنوحه إلى المبالغة . وربما كان فعل المقاربة " يكاد " يضفي على المعنى مزيدا من القوة للدلالة على كثرة ما يحدثه الأطفال من ضجيج في البيت . ثم إن التشخيص في هذا الشطر الثاني لركن البيت قد حققه الفعل " ينتقل " لأنه فعل لا يقوم به الجماد ، بل العاقل الذي يتحرك بوعيه وإرادته . 

كم لوثوا بالحبر من بسط  ×××   لا يأبهون بلوم عذلوا

رغم ما يوحي به البيت من بساطة ، إلا أنه دليل البلاغة التي عرفها أحدهم قائلا : { البلاغة إذا سمعها الجاهل ظن أنه يقدر على مثلها ، فإذا رامها استعصت عليه } .

وهذا ما ينطبق على بلاغة هذا البيت : فلفظ " كم " له جماله ، ولفظ " عذلوا " له جماله كذلك : حيث إن العذال كانوا يحسدون العشاق على عشقهم . أما هنا فحسد الكبار للأطفال ، لأن قدرتهم على الحركة قد قلت ، فأصبحوا يحسدون الصغار على ما أنعم الله به عليهم من خفة الحركة . فاستعار عذل العشاق ليصف به شعور الكبار نحو الصغار .

كم من مناضد دحرجوا عبثا  ×××  كم من وسائد في الثرى ركلوا

لما أدرك الأميري جمال الأداة " كم " فإنه كررها في هذا البيت مرتين ، ليفيد التأكيد معنى كثرة ما يصنع الصغار من الشغب . وتكرار الصفة " عبثا " فيه إلحاح على هذه الخصيصة المستقبحة في الكبار ، والمحببة في الصغار ، كما ذكرنا في غير هذا الموضع .

ثم إن الشطر الثاني من هذا البيت بصيغته له جمال وأي جمال : فلو قال : " كم ركلوا من وسائد في الثرى " لما كان لها المعنى والجمال اللذان للصيغة التي اختارها الأميري . وهذا الاختيار دليل بلاغة التقديم والتأخير ، ودليل الأهمية التي أولاها للوسائد حين قدمها ، ثم هو أخيرا دليل البحث عن التناسب مع روي القصيدة وهو اللام في " ركلوا" .

سجف الستائر من تجاذبهم  ××× مشرومة ... والذيل منفتل

وهنا كذلك جمال في تقديم الجار والمجرور " من تجاذبهم " على الخبر " مشرومة " . بل إن المعنى يختلف ، لأن في هذا التقديم إجابة عن السؤال : ما سبب شرم سجف الستائر ؟ فيكون الجواب الأنسب إخبارا عن السبب وهو " من تجاذبهم " . 

وصحائف الكتب التي درسوا ××× ولفائف الحلوى التي أكلوا

كم فصلوا ... وبنوا بها سفنا  ××× دأماؤها ... الأطباق والقلل

بين هذين البيتين تعالق دلالي ، وهو استدراج للمتلقي ، وتشويق لمعرفة الجواب عن مصير " صحائف الكتب التي درسوا " و " لفائف الحلوى التي أكلوا " ، فلا تظفر بالجواب إلا في البيت الثاني الذي افتتحه كذلك بأداة الاستفهام " كم " ولها الدلالة والكناية عن كثرة ما صنع بها الأطفال من سفن . ثم إن تشبيه الأطباق والقلل بالدأماء  وهو " البحر" بلاغته في حذف الأداة ، حيث لم يقل  : " كأن دأماءها الأطباق والقلل " ، وإنما قال " دأماؤها الأطباق والقلل " . وشتان بين التشبيهين ، لأن الصورة أجمل والمعنى أقوى عند الحذف كما هو معروف عند البلاغيين . والحال شبيه بالفرق بين قولنا " زيد أسد " وقولنا " زيد كأنه أسد " لأنك في حالة حذف الأداة تظهر المعنى أقوى وأظهر في المشبه .

و " الهاتف " المسكين ألهية  ×××  لصغارهم تزجى به القبل

وهنا كذلك جمال في استعمال الأميري للفعل " تزجى " في الشطر الثاني ، حيث يزيد المعنى جمالا وقوة : حيث دل على كثرة لعب الأطفال بالهاتف من جهة ، وكثرة التقبيل من جهة ثانية ، وكناية عن محبة قوية لا تكون عادة إلا بين العشاق.

المقطع الثامن :

يستمر الأميري في توظيف ذخائر وإمكانات اللغة العربية وبلاغتها في بقية المقاطع ، لكن هذا المقطع الثامن يسترعي الاهتمام بحضور أكبر للمحسنات البلاغية ، لذلك يستوقفنا بثرائه البياني . ففي البيت الأول :

كم ذا بذلت حشاشتي لهم ××× ووهبتهم روحي وما بذلوا

نجده يستعمل أسلوب المقابلة بين " بذلت " و " ما بذلوا " ، كما نجد استعمال أداة الاستفهام " كم " التي أدرك جماله فأكثر من استعماله في هذه القصيدة . بل هي تزيد ظهور معنى كثرة البذل في سبيل الأبناء .

وأما أداة النفي " ما " في خاتمة البيت فتقوي معنى المقابلة ، كما تبرز إحساس الشاعر بالغبن ، لأن كرمه وتضحيته في سبيل الأبناء ، يقابلها البخل من جهتهم . ثم إن تقديم المفعول " حشاشتي " على الجار والمجرور " لهم " أظهر المعنى المراد ، وهو إعطاء الأهمية للحشاشة ، إذ قدمها لأبنائه بسخاء أكثر من مرة .

وحرمت نفسي كل مطلبها ××× وحبوتهم كل الذي سألوا

يستمر في أسلوب المقابلة ، فيوظفه في هذا البيت كذلك بين الفعلين " حرمت " في الشطر الأول ، و" حبوتهم " في الشطر الثاني . كما زاد اللفظ " كل " البيت جمالا بتكراره في الشطرين : فدل على حرمان الشاعر نفسه بكثرة من جهة ، وإيثار الأبناء بكثرة من جهة ثانية .

فهم العذاب ... له عذوبته ××× وهو النظام ... جماله الخلل

انظر إلى الطباق في هذا البيت بين " العذاب " و " العذوبة " في الشطر الأول ، وبين " النظام " و " الخلل " في الشطر الثاني ، لتدرك مدى فهم الشاعر لأسرار اللغة . وهو ما يقوي المعنى ليتمكن المتلقي من إدراكه ، ثم يقتنع بما في مشقة تربية الأبناء من لذة . وما في فوضاهم من جمال ، أين منه جمال النظام والتنسيق . فأنت إذا حاولت الغوص في معاني هذا البيت ، تحتاج لمراجعة مفهومك للجمال ومقابلته بالمفهوم الذي يقدمه الشاعر : حيث الجمال في الفوضى والتناسق في عدمه  .

وانظر إلى تكرار الضمير " هم "  في الشطرين ، وما دل عليه من عناية بالأطفال ومنحهم الأولوية ، واعبارهم مصدر كل لذة وكل جمال لمن يسعى إليهما .

وهم الهموم تقض مضجعنا ××× وهم الغد المرموق والأمل

ثمانظر إلى التكرار المحمود للضمير " هم " في هذا البيت كذلك ، وإلى تقويته معنى ما يؤمله الشاعر من الأطفال . ثم إن استعمال أسلوب المقابلة بين صورة " الهموم  التي تقض المضجع " في الشطر الأول ، وصورة " الغد المشرق الباسم " في الشطر الثاني . مما قوى معنى تعب الآباء وانشغالهم بالأبناء ، وقوى كذلك معنى ترقب الأمل المشرق من هذا الخلف .

وهم الهناءة والعناء معا  ×××  فمقامهم وفراقهم جلل

تضيق المسافة في هذا البيت بين " المقابلة " فلا نجدها في شطرين ، كما في الأبيات السابقة ، بل في شطر واحد " الهناءة " و " العناء " في الشطر الأول ، و " مقامهم " و " فراقهم " في الشطر الثاني . فتحققت قوة الشعور المزدوج عند الآباء : شعور بالراحة والتعب في المقام والفراق .

وانظر إلى الخبر " جلل " في خاتمة البيت ، وما أضفاه من جمال على المعنى ، حين كشف عن مكانة الأباء في قلوب الآباء : فهم متهيبون منهم في الحالتين معا . حالة الإقامة وحالة الرحيل .

عبء وتحمله الكواهل في ××× حب فلا برم ولا ملل

تنساب الألفاظ وتتوارد المعاني في هذا البيت للدلالة على مسؤولية الآباء ورضاهم بتحملها ، وكأنه يستوحي هذا الرضى من معنى المسؤولية التي قبلها الإنسان في قوله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } " الأحزاب : 72 " .

تدل على معنى المسؤولية هاته ألفاظ تقوي هذا المعنى : " عبء ، تحمله ، الكواهل " وتقابله في الشطر الآخر معاني الرضى بهذه المسؤولية ، أما الألفاظ التي تقوي دلالتها فهي " حب ، لا برم ، لا ملل " . ثم إن هذا الرضى الوارد معناه في الشطر الثاني ، وثيق الصلة بمقام المؤمن القوي حين يصل إلى هذه الدرجة العالية من الإيمان .

ريحانة الله التي نبتت ××× من غرسنا والأمر يتصل

هذا الرضى الذي يشعر به الآباء ، رغم مشقة تحمل مسؤولية رعاية الأبناء ، يبدو مبهما ، ولا نجد له تفسيرا إلا في هذا البيت الموالي . فكأنه إجابة عن السؤال الملح على المتلقي : ما سبب هذا الحب للأبناء ، وتحمل عذابهم وتحرك القلوب خوفا عليهم ؟

الجواب : أن الأطفال " ريحانة الله " ، ويعرف الريحان بطيب شذاه . فإذا كان " ريحانة الله " فهو منتهى الطيب . ثم إن تقديم الفاعل " ريحانة الله " أتى دالا على محبة الأطفال عموما ، لأن الله أحبهم ، ولأنهم من نسلنا وذريتنا .

وتمكن قراءة البيت بصورة أخرى : " نبتت ريحانة الله من غرسنا " لكن الجمال وقوة المعنى وأهمية التقديم كلها تجعل الصيغة التي استعملها الشاعر مقنعة بتملك الأميري ناصية البيان .

و لا ننسى التضمين الذي قام به الشاعر للحديث النبوي الشريف " الولد من ريحانة الجنة " .

حكم الإله وكله حكم ××× ولكل خلق عنده أجل

إذا لم يقتنع المتلقي بالتبرير الأول الذي قدمه الأميري لسبب تحمل الآباء التعب في سبيل الأبناء ، فإنه يورد في هذا البيت خاتمة التبريرات وأقوى الحجج لسر محبة الأطفال : " إنه حكم الله الذي جعل أفئدة الآباء تتعلق بالأبناء " . ثم إن لفظتي " حكم " و  " حكم " وما بينهما بديع الجناس الناقص ، في الشطر الأول ، أفرزتا معاني كثيرة ، فتفسر للمؤمن كل التشريعات التي شرعها الله للإنسان لخيره وسعادته ، لا لشقائه ومشقته . ومن حكمه تعالى أن جعل لكل خلق أجلا يتساوى فيه الكبير والصغير والآباء والأبناء .

تمثل هذه المحاولة تجربة توظيف " نظرية النظم " بأكبر قدر من الحياد والصفاء . لم نجتهد إلا في محاولة الفهم الشمولي للنظرية حتى تتجاوز " علم المعاني " لتشمل علوم البلاغة بأكملها . وهذا ما يبرر رجوعنا إلى علوم البيان والمعاني والبديع ، كما حاول تجليتها الجرجاني في كتابيه " أسرار البلاغة " و " دلائل الإعجاز " .

هدفنا من هذه المحاولة إلى :

1 ـ كسر الطوق عن أنفسنا .

2 ـ إثبات قدرة الذات المسلمة على تقديم قراءتها وتذوقها الخاصين للإبداع الإسلامي .

3 ــ تجديد الصلة بالتراث النقدي القديم . وهو أحد أهداف هذا المؤتمر العالمي الرابع  للغة العربية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا .

4 ـ محاولة فهم طرق النظر في الشعر وغيره من الآداب وفق نظرية النظم ، التي إذا أحسن فهمها واستيعابها ، فإنها تعني بشكل من الأشكال كل العناصر الجمالية التي وظفت في الإبداع .

               

هوامش الدراسة :

1 ـ الدكتورأحمد محمد علي " معلقة زهير في ضوء نظرية النظم " ص 9 .

2 ــ نفسه ص 9 .

* أستاذ النقد الأدبي

كلية الآداب ابن مسيك /جامعة الحسن الثاني المحمدية