عبد الخالق فريد في رسائل أدباء عصره

عبد الخالق فريد في رسائل أدباء عصره

نظرة في رسائل الأستاذ وديع فلسطين

شكيب كاظم

منذ سنوات بعيدات، وانا أتابع المنجز الشعري الثر للشاعر الرومانسي الغنائي عبدالخالق فريد، سواء على مستوى ما نشره من مجموعات شعرية، أم ما كان ينشره من قصائد ومقطوعات في الجرائد والمجلات، لا سيما مجلة (الاديب) اللبنانية التي كان يصدرها في بيروت الشاعر المتأدب، صاحب الديوان الوحيد ( لمن؟) الأستاذ البير أديب بدءاً من سنة 1941 وحتى سنة وفاته خريف عام 1985، وبموت أديب ماتت مجلة (الأديب) الرائعة، وكانت قد عانت قبل ذلك تلكؤاً في الإصدار سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (نيسان 1975-1990) فبدأت بإصدار الأعداد المزدوجة أو الفصلية، أقول كنت أقرأ ما ينشره الشاعر عبد الخالق فريد في مجلة (الأديب) في سنوات العقد السبعيني من القرن العشرين، ومازلت على الرغم من السنوات، احتفظ بطائفة من هذه القصائد مثل (عودة الحب) 1972 و (بقايا ذكريات) و (على الهاتف) 1973، و(إلى فاتنتي) و(نجوى وحنين) 1974، وقصيدته (إلى خلود) 1975، إن قصيدته (الى خلود) التي يقول في مستهلها:

لا تحفري في ضميري طيف أمنية=وتتركيني إلى ذلي وأوهامي

خلود.. يا نغمة حيرى يرتلها=على الأنام فؤاد العاشق الدامي

إنما يوجهها الى امرأة بعينها، ولقد أحصى الباحث الدكتور أحمد مطلوب، أكثر من مئة امرأة وغادة وحسناء تغزل بهن الشاعر عبد الخالق فريد في مجمل منجزه الشعري الذي ناف على العشرين مجموعة شعرية بدءاً بـ (نداء الاعماق) الصادرة سنة 1955 وحتى مجموعته (آهات محترقة) الصادرة سنة 2012 أقول: أحصى الباحث أحمد مطلوب أكثر من مئة مشبب بهن من الغيد الحسان، في كتابه الموسوم بـ (عبدالخالق فريد: شاعر الحب والجمال) بدءاً بـ (ابتسام وإجلال الشربيني وأحلام مروراً ببلقيس وجميلة وخزام ونور ولميعة وانتهاءً بوفاء ويارا.

ولقد كتب الكثيرون عن شاعرية عبد الخالق فريد، ومنها كتابان الأول من تأليف أستاذي الدكتور أحمد مطلوب، الذي أشرت اليه آنفاً، وكان لي شرف التلمذة على يديه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة بغداد، في العام الدراسي 1964-1965، وكان يدرسنا علوم القرآن والحديث النبوي الشريف، وكان حاصلاً على الماجستير، ومازلت أتذكر أساتذتنا، الدكتور حسين نصار، الذي كان يدرسنا الأدب الجاهلي، فضلاً على الدكتور بدوي أحمد طبانة، ومازلت أتذكر أن أستاذنا أحمد مطلوب كلف طلبة الصف بكتابة تقارير في التفسير القرآني، وكان نصيبي تفسير سورة (ق) فراجعت مكتبة الخلاني شتاء تلك السنة وكانت عامرة بأهلها وكتبها وصحفها وأرشيفها الرائع، ورجعت إلى تفسير الكشاف لجار الله محمود الزمخشري المعتزلي، ولعلي استطردت، لكني بودي أن أذكر لذوي الفضل أفضالهم فضلاً على كتاب (عبدالخالق فريد في رياض الاقحوان) للباحث الدكتور عبد الله الجبوري، أقول: لقد تحدث الكثيرون عن شاعرية الشاعر الفريد عبد الخالق فريد، لكن بودي الحديث عن أدب الرسائل الذي شغف به الشاعر حباً، فهو حريص على تدوين كل الرسائل التي تصل اليه من أصدقائه الكثر في الوطن العربي، وقد عقد الشاعر صداقات واسعة مع شعراء العرب وأدبائهم وباحثيهم، وأدب الرسائل قديم، قدم الكتابة والتحبير، ولقد قرأنا في زمننا الرسائل المتبادلة بين جبران خليل جبران ومي زيارة التي اهتم بها الأديب اللبناني جميل جبر، الذي أردف نشره لرسائلها بتأليف كتاب عن مي عنوانه (مي: في حياتها المضطربة) نشره بعد وفاتها في مستشفى العصفورية للأمراض العقلية في بيروت، كما نشر المحققون كوركيس عواد وشقيقه ميخائيل عواد والدكتور جليل العطية، الرسائل المتبادلة بين الباحث المصري المعروف أحمد تيمور باشا واللغوي العراقي الأب انستاس ماري الكرملي، كما اهتم الروائي العراقي المغترب علي بدر بنشر رسائل المستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسنيون المتوفى خريف عام 1962، ولقد حصلت على جزئين من هذه الرسائل التي دأب الشاعر عبد الخالق فريد على نشرها منجمة تحت عنوان محدد هو: (عبد الخالق فريد في رسائل أدباء عصره) هما الجزآن السادس والثاني عشر، ولقد وجدت الحميمية فاشية في الرسائل التي بعثها الباحث الكاتب المحقق حميد المطبعي ففيها صدق مع الذات، وصحبة لمن يراسله، كلام يخرج من القلب ليدخل شغاف القلب والروح، فضلاً على رسائل الأديب الأنيق وديع فلسطين، الذي كنت أتابع أحاديثه المستطردة في مجلة (الأديب) اللبنانية، والتي ظل يواصل نشرها وبالعنوان ذاته في مجلة (الهلال) القاهرية، منها (حديث مستطرد عن فلسطين)  يناير/كانون الثاني 1975، (حديث مستطرد عن ميخائيل نعمية) 1975، (حديث مستطرد عن زكي مبارك) 1975، (حديث مستطرد عن الأمير مصطفى الشهابي) 1975، ولم يكتف الأديب وديع فلسطين بهذه الأحاديث وغيرها كثير ضاع مني، فخصص أحاديث ثلاثة للنعال والحذاء، مما زخرت به بطون المظان والكتب وتأريخ ما أهمله التاريخ، لقد ظل الأديب فلسطين يواصل الكتابة إلى صديقه الشاعر عبد الخالق فريد، طوال هذه السنوات الطويلة، ولم يحل بينه وبينها حائل على الرغم من الظروف الحياتية العدمية، والتقدم في العمر، واضطراب الحال في مصر إثر أحداث يناير عام 2011.

لقد استمتعت أيما متعة وأنا أجوس خلال هذه السطور الصريحة المتدفقة بالصدق والمحبة، إذ من المعروف للباحثين أن الرسائل مرآة صادقة عاكسة لما في القلب والنفس، لسبب مهم وهو أن كاتب المقال أو الدراسة يضع في حسابه، رقابة الدولة والمجتمع الذي هو أشد قسوة من رقابة الحكومة في مجتمعاتنا المتخلفة، لكن من يكتب رسالة يحسبها أشبه بحديث شخصي مع صديق مخلص، لذا فهو يبوح بكل مكنونات الصدر ومن دلائل هذا الصدق الذي يقترب من التجريح الشخصي ما قرأته في رسالة القاص والشاعر والناقد اللبناني المهاجر (شكر الله الجر-1907-1979) الذي قرأت له الكثير في مجلة (الأديب) اللبنانية الرائعة، إذ يقول في رسالته المؤرخة 4/ آب/ 1966 ما يأتي: (قرأت في الورود العزيزة) (أي مجلة الورود) كلمتك القيمة عني، أخي لا أكتمك ما شعرت به من اشمئزاز لإدخالك ذكر اليأس قنصل في معرض الكلام عن شعري ولكني عذرتك، كونك تجهل من هو اليأس قنصل وأخوه زكي قنصل وتجهل من هما في عالم اللؤم والخساسة،  وكتبت عنهما مقالين تحت عنوان (غلمان يبرود يتحككون بفحول الأرز)، فاستولى عليهما الرعب والصمت، وهكذا قل عن شاعر آخر هو اللئيم (فرحات) في البرزايل يعني إلياس فرحات الرجل الذي عملنا من أجله وأجل عائلته الفقيرة أنا وأخي أشياء وأشياء لا محل لذكرها، أن ضباب الغربة يحجبهم عن عيونكم فلا تعرفون عنهم سوى ما تقرأونه في السطور ولكن ما وراء السطور من أخلاق خسيسة فأنكم تجهلونها ولاشك) ص75 - الجزء السادس.

وفي رسالة للأديب السوري عبد الغني العطري، صاحب ورئيس تحرير مجلة (الدنيا) وقرأت الكثير من كتاباته على صفحات مجلة (الأديب) المحتجبة عن الصدور بسبب وفاة منشئها البير أديب مؤرخة في دمشق 3/ كانون الثاني 1980، ينتقص فيها من الأديب السوري أدهم الجندي قائلاً: (أما المرحوم أدهم الجندي فلم يصدر له جزء ثالث من كتاب أعلام الأدب والفن، كما لم يصدر له أي كتاب آخر لأن أدعياء الأدب والفن عندنا منصرفون للتطبيل بعضهم لبعض) تراجع  ص 91 من الجزء السادس.

هذا بعض الكلام الصريح الذي تزخر به الرسائل الشخصية، وما أظن ان أيا منهما، يستطيع البوح بهذا الشكل لو كان يظن أن الرسالة ستنشر مستقبلا، أو أنه يكتب مادة للنشر، ومنذ سنوات أثارت الرسائل المتبادلة بين الأديبة السورية غادة السمان، والأديب الفلسطيني المغتال يوم السبت الثامن من شهر تموز سنة 1972 غسان كنفاني أثارت الرسائل لغطاً ونقاشاً بسبب الصراحة المكتوبة بها، إذ تولت غادة نشر رسائل غسان لها، لكنها أحجمت عن نشر ردودها ورسائلها إليه بحجة احتراقها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية!  فأظهرت غادة ضغف غسان إزاءها، حتى يصرح لها أنه مستعد حتى للعق حذائها!! لقد كانت غادة سادية، متغطرسة إزاء من وقع في حبائلها وغرامها، حتى أنها تقيم حفلة للاحتفاء برأس السنة فتدعو أصحابها وصويحباتها، وتتناسى دعوة غسان الذي يذهب إلى مكان الحفل الصاخب، فيرجع مخذولاً مهموماً محسوراً، بسبب أنها تعمدت تجاهله وتركته وراءها ظهرياً، ولو كانت منصفة، لنشرت رسائلها وغسيلها ولكن...

 وماذا تنفع هذه الـ (لكن) واضعين في الحسبان أنها نشرت الرسائل بعد مقتل غسان المأساوي.

الكتابة تعبير عن إرهاصات الذات، ولقد كنت أخمن طبيعة هذا الرجل، وديع فلسطين، وأنا أقرأ كتاباته، سواء تلك التي نشرها في (الأديب) أم تلك التي أطالعها في (الهلال) المصرية، ولقد تأكد لي معدن هذا الرجل الطيب وأنا أقرأ رسائله إلى الشاعر عبد الخالق فريد ففيها أريحية وطيبة ودماثة خلق ورهافة حس، أنه ينقل لصديقه كل أخبار الأصدقاء المسرة منها والمحزنة، ولقد تأثرت كثيراًَ باهتمامه بوضع الأديب الباحث صديقنا الدكتور يوسف عز الدين، الذي كنت أتواصل معه بالرسائل حتى عام 2007، حيث غادرت العراق الى مدينة حمص بسورية، وانقطعت مراسلاتنا، ومن قبل ذلك وفاة شقيقه الأستاذ عبد الرزاق أحمد السامرائي، الذي أطلق عليه الأدباء  لطيبته ودماثة خلقه لقب: سفير الأدب العربي وكان رحمه الله يعتز أيما اعتزاز بهذا النعت.

المصريون معروفون بالدعابة والفكاهة، ولقد أمتعتني هذه المفاكهة التي يقول فيها من رسالة مؤرخة في الرابع عشر من مايس 1985، (تأخرت في الرد على رسالتك وأنت تعرف أننا لا نعمل إلا بالقراءة والكتابة ولا لهذه نهاية، ولا لتلك منتهى، وإنما هي أشغال شاقة مؤبدة تطاردنا من المهد إلى اللحد، ولو كنت شاعراً مثلك، لكانت المطاردات من الغواني والهوائم، وهي مطاردات ألذ وأطيب دون ريب، وسبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة) ص144.

لكنني ظلت أبحث عن حقيقة هذا المستنصري، أهو أنيس منصور أم صلاح منتصر؟ وأن كنت أرجح الأول إن كان أحدها!

ولقد أحزنني قوله عن البير أديب رسالة مؤرخة في العشرين من حزيران 1985، الذي وصفه بـ(اللعين) ولا أدري هل الوصف هذا جاء بسبب حرب عام 1967 وهزيمة العرب في حزيرانها، أم بسبب الحرارة المرتفعة، إذ علقت على الصفحة 150 قائلاً: إذن بماذا نصف تموز؟ لا ريب أنه الألعن، وأنت تحيا في القاهرة، حيث درجة الحرارة لا تصل إلى الأربعين، فما بالنا ونحن نجتاز، الخمسين مئوية في الظل، وقد رافقه الصوم هذا العام 2012 1433هـ، وسيظل مرافقاً له للسنوات الخمس المقبلة!!

أقول أحزنني وصفه لوضع البير أديب الذي (بات شديد الهزال) وهو يلزم الفراش طول الوقت وقد كف بصره تماماً، ولا أمل اطلاقاً في استئناف اصدار (الأديب) إلا إذا تطوع بعض أهل النخوة لإصدارها والإنفاق عليها).

وإذ لم أتمكن من معرفة هذا المستنصري على وجه التحديد، فإني لم أستطع معرفة الأخت الشاعرة واللامعة العظيمة!!

من خلال استقرائي لرسائل الاديب الكاتب وديع فلسطين، فلقد وجدته عزيز النفس، عالي الهمة، لا يقدم على عمل فيه انتقاص من مكانته ومنزلته، وكثيراً ما أعتذر عن دعوات، ولطالما لم يحضر مؤتمرات ودعوات، ورفض أن يكتب ما لا يتفق مع آرائه ومعتقداته، لا يحب الشعر الحر أو ما يسمى بـ (شعر التفعيلة) الذي أوجدته نازك الملائكة، ثم تراجعت عنه، واضعاً السبب في إنحسار مد الشعر العمودي على عائق مصطفى عبد اللطيف السحرتي، والدكتور محمد مندور والدكتور محمد النويهي والدكتور عبد القادر القط والدكتور جابر عصفور، غير ناس رأس النفيظة الدكتور لويس عوض!!

وفي السياسة ملكي وفدي، حتى أنه يأس على ما أصاب العراقيين بسبب ضياع ملك الملك فيضل عندما كان العراقيون ينعمون بالرخاء والسكينة، وكان العراق يعرف بأنه أكبر قارئ للكتب في كل العالم العربي، ومصر اليوم تأسى بدورها على ضياع ملك الملك فاروق، فقد كنا نعيش وقتها في أسعد أيام حياتنا تراجع (ص88) من الجزء الثاني عشر.

بعد هذه السياحة في الرسائل المرسلة إلى الشاعر عبد الخالق فريد، أرى من حقي أن أتساءل هل بالإمكان أن يرينا شاعرنا الفريد، الجانب الآخر من نهر الرسائل هذه، أعني الرسائل التي أرسلها الشاعر إلى أصدقائه من الأدباء والشعراء، هل يحتفظ بنسخ منها أم أنها ذهبت مع الأيام ..؟!