محبرة الخليقة (27)

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع الكبير "جوزف حرب"

د. حسين سرمك حسن

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

ولأن الشاعر قد أحالنا إلى اسطورة أصول مرتبطة بالإله "زفس" أو "زيوس" فإن هذا الكائن الخنثى المكوّر لم يأتِ من الشمس التي هي مصدر الذكر ، ولا من الأرض التي هي مصدر الأنثى ، بل من القمر الذي يجمع خصال المكوّنين . وبعد أن يقوم الإله بشطرهما إلى نصفين مستقلين ، يقدّم الشاعر لمساته الخفيفة لكن البليغة وأولّها التأكيد على أنّ فصل المكوّنين بالطريقة المباشرة الفجّة التي جعلت الوجه إلى الأمام لكي يرى كل نصف عواقب شطر الآخر ويتعظ ويخشى الآلهة .. العقاب فلسفة السلطة الذكورية في سياسة الكون في حين أهانت عشتار الإله إنليل لأنه سلط الطوفان على البشر وأفنى أبناءها!) . (لقد بدأ الحبّ في الأرض ، ولكن تمشّى الفناء إلى كلّ نصف) . وكأنّ الجانب الروحي من الحب خدعة توصل إلى النقصان والفناء من دون الجانب الشهواني الجنسي العملي . فأوجد زوش الأعضاء التناسلية . فصار السلوك البشري الجنسي مفتوحاً على ثلاثة احتمالات حسبما وصفها افلاطون (فالذكور الذين انشطروا عن الخنثى (الكائن المشترك) يعشقون النساء ويهيمون بهن ومنهم يأتي معظم الزناة ، وكذلك النساء اللاتي يعشقن الرجال ويمارسن الزنى ، والنساء اللواتي انشطرن عن أنثى يعشقن بنات جنسهنّ ، ولا يابهن للرجال . أمّا الاشطار الذكور وهم أنصاف ذكر فيميلون إلى الذكور دون سواهم) . وهنا وبخلاف الوصف الأفلاطوني تأتي اللمسة التصحيحية للشاعر التي تكلمنا عليها سابقاً فقد جعل مرحلة الجنسية المثلية الذكورية والأنثوية مرحلة مستقلة وسابقة لا تدفع الفناء عن الإنسان ، ولا توفّر له الخلود الذي لم يتحقق إلا بالإجتماع الطبيعي لطرفي المعادلة الإلهية المتوازن :

(                     سوى من تلاقوا ، ونصفُ

          رجالٌ ، ونصفٌ

                      نساءْ .

                      وكانا إذا اتحدا في التناسل ،

          ينتصران على الموتِ ،

                      لكن

                      يعودانِ نصفاً

                      يفتّشُ عن نصفهِ . – ص 544) .

وإذ يؤكّد افلاطون على التوق الذي يستعر في كلّ مكوّن وخصوصا في المثلي الذكوري ، وصولاً إلى الجمال المطلق أو ما أسماه البعض بـ "أوقيانوس الجمال" الذي يشبه الغمر البدئي ، فإن جوزف حرب يؤكد على الإمتداد الخلودي الذي يواجه به الإنسان قوى الفناء المقدّرة ، وهذا الهاجس يسيطر عليه في كلّ أعماله ، ومنذ لحظة الإهداء في هذا الديوان الملحمة . إنّ التوق الحارق يعالج مرارات الفناء لكنه لن يخلق أولاداً وبنات . لكن هناك الجانب المهنوي الذي يلتقي بغايات افلاطون من جانب آخر وهو الذي يتعلق بالكمال .. الوحدة التي تنتج عن اجتماع النصفين : المذكر والمؤنث ، وكأننا سنقف أمام الصورة الاصل البدئية للألوهة في وحدتها الأولّية . وهذا الإتحاد التكاملي الذي ينطوي عليه اللاشعور النقي الذي لن تبلغه حتى في الفردوس وسيتحقق ويا للمفارقة في الموت ، هو الذي يخيف الآلهة . هنا يكمل الشاعر لمساته الحكيمة العميقة :

(                     يعودانِ نصفاً

                      يفتشُ عن نصفهِ .

                      لا اتحادٌ لنصفهما أبديٌّ ، لأنهما

      عندها يدركان حقيقةَ زوشٍ ، فيجتمعانِ عليهِ،

                                                     فيفنى ،

      ويتّحدانِ . – ص 546) . 

فما هو الحلَ الآن ؟

لقد ابتكرت الآلهة الذكورية القاسية صاحبة العين بالعين عقاباً رهيباً في صورة حلّ للمعضلة الكبرى هذه ؛ معضلة كبرى لأن الذكر يخشى أي مظهر او ظاهرة تذكّره بنقصه ، و كماله الإخصابي المصطنع المهدّد . هذا الحل العقابي الشرس وهو ديدن الذكورة التي جلبت لنا الحرب كما سنرى لاحقاً وجعلت الموت مصنّعاً لا طبيعياً ، هو حل اصطناعي مضاف :

(                     وقرّرَ زوشُ إذا اتحدا هكذا

              شطرَ النصفَ

                      نصفينِ

                      وأصبحَ كلٌّ بنصفِ فمٍ ، نصفِ

              أنفٍ ،

                      وعينْ .

                      كنصفٍ

                      لطائرْ ،

                      كنحتٍ لنصفٍ من الوجهِ

                      فوق المقابرْ . – ص 546) .

هنا تظهر محنة كونية ووجودية تحاصر كلّ المحاولات الذكورية للإلتفاف على قوانين وقواعد عمل الحضور الأمومي ومحاولات سحب البساط من تحت اقدامها (الحسد يأكل الحسنات) ، وتتمثل في أن أية محاولة ذكورية لبناء مجد الرجل الخاص لا بدّ أن تمرّ عبر وسائل وأدوات فعل الأنثى المجرّبة ، كما أن أي تدبير علاجي ذكوري للتعامل مع ثغرات وجوده توصل في النهاية إلى ما يعزّز ترياق سلطة الأمومة وحضورها ، وإن كان حضورا متخفّياً أو مقموعاً بسلطة الذكورة . وللخلاص من تهديد الكمال الإنساني شطر زفس النصف المشطور أصلا إلى نصفين .. وهكذا أشعر الذكورة بأهمية الإلتحام بالأنوثة لتحقيق الوحدة المخصبة المقاومة لإرادة الأجتثاث . جعل الحلم الأمومي التكاملي الأول هو حلم الخلاص .. أعاده من الذاكرة الجمعية إلى الفعل . ونتيجة أخرى مترتبة على هذا الفعل هي أن الإنسان الناتج عنه ، أي نصف النصف وفق أطروحة الشاعر ، والنصف المهذّب وفق أطروحة افلاطون ، سوف يصل إلى "ميتافيزيك الجمال" كمأ سمّاه افلاطون حيث سيغدو عاشقاً لجمالات الأجساد جميعها ، ثم (يكتشف أن ثمة جمالاً أسمى وأرفع من جمال الأجساد هو جمال الروح ، حتى أن روحاً جميلة ولو أنها في جسد رديء ، تمتلك إغراءً يجتذب حبّه وعنايته :

(                    ويبقى الحنينُ إلى المطلقِ الأبديِّ

    الإلهيِّ حُلمَ اللذينِ قد انشطرا وهما واحدٌ .

                      فمتى

                      يرجعانِ ؟

                      فيبدأ ذا النصفُ يعشقُ كلّ جمالِ

    الذي هو نصفٌ لهُ . ثمّ يعشقُ كلّ الجمالِ بأنصافِ كلِّ

    الخليقةِ . لا امرأةٌ

                      بل جميعُ النساءِ .

                                              ولا رجلٌ

                                              بل جميعُ الرجالِ .

                      هو الحبُّ يسمو بان يتركَ الجزءَ

    كيْ يتبعَ الكلَ . حتى تراهُ وقد صار قلباً يحبُ الجمالَ

    الذي يسكنُ

                      الروح

                      ليس الجسدْ .  – ص 547) .

وهذا هو الطريقُ القويمُ في الإقتراب من أسرار الحبّ ، والدخول فيها ؛ يبدأ المرء بنماذج الجمال في هذا العالم ليجعلها درجات يرقى بها ، جاعلاً غايته ذلك الجمال الأسمى المطلق ، من نموذج للجمال الحسّي الى نموذجين ، ومن نموذجين إلى الجمال ككل ، ومن الجمال الحسّي إلى الجمال الخلقي ، ومن الجمال الخلقي إلى جمال المعرفة ، ومن المعرفة بفروعها المختلفة إلى المعرفة المطلقة التي يكون موضوعها الوحيد الجمال المطلق فيعرف آخر الأمر ماهية الجمال المطلق :

(                    فإذا بلغَ الروحَ أصبحَ أسمى ،

    وعادَ بأنصافِ كلِّ الجمالِ التقى

                               واتحدْ .

                     وباتَ هو العارفُ المتأمّلُ ، والعائدُ

    المتذكّرُ ، والصانعُ الكلَّ ،

                               حتى الأبدْ . – ص 548) .

سيكون الحبّ هو المحرّك لكل معرفة ، والهيجان الغرامي يؤدي إلى العلم الكامل . ولوصول الروح إلى العالم الإلهي الذي هو وطنها الحقيقي ، يجب أن تكون منجذبة بالحب . وسيقود الحبُّ الروح إلى التأمل الذي هو آخر درجة من المعرفة الإلهية) (54) .  

وفي أية لحظة فائقة ، أمام الجمال الباهر ، لحظة صوفية من الخشوع الطاهر في حضرة الجمال ، سيشعر هذا الفرد بأنه موشك على أن يطير .. وأن ريشاً فعلياً سينبت له ، ليس على جلده في بصيلات شعره حسب ، بل في روحه . وسوف تنتاب نفسه ثورة عارمة تجعلها ترتجف وتحدث لها إحساسات مثل إحساسات من بدؤوا يسنّنون ، فهم عند بزوغ الأسنان يتوقفون عن الأكل ويعانون الألم ، وسيطير بروح خفّاقة نحو الأعالي السامية ، معرفة وحبّاً ، بجناحين يعظّمان الإنسان هما : جناح الشعر ، وجناح العشق :

(                 وليس له من طريقٍ سوى عشقِ كلّ

    الجمالِ الذي يُنبتُ الريشَ فيهِ

                  أمام الرياحْ .

                  يطيرُ إلى الوطنِ الأوليِّ ، وكلٌّ

    من الحبِّ والشعرِ

                  هذا جناحٌ

                   وهذا جناحْ . – ص 548) . 

وتبقى هناك اللمسة التغييرية والتصحيحية الكبرى في موقف الشاعر من موضوعة الجمال والرقي عبر سلّمه مما هو أرضي إلى ما هو سماوي . فقد انطلق أفلاطون في أطروحته تلك من حبّ الفتية ، من الجنسية المثلية الذكورية ، واعتبر أن من هذا الجمال يصدر فيض من الجزئيّات الصغيرة يُسمّى من أجل هذا بالإشتهاء ، وحين تتلقّاه النفس تنشط فتدفأ وتستريح من عذابها ويغمره الفرح والبهجة . إن حبّ الشباب عند البشر يُسمّى الحب ذو الأجنحة ولكنه عند الخالدين يُسمّى "المُريّش" بسبب قدرته على إنبات الريش ! فبمديح افلاطون لمن يحبّون الذكور يقول إنّ هؤلاء تتوافر فيهم خصال الرجولة أكثر من غيرهم .. وتراهم يهيمون بالغلمان ، وإذا تزوّجوا تزوّجوا مكرهين . ولا يفترق المحبّان ولو إلى لحظة قصيرة ، ولا يستطيع أحد أن يزعم أن اللذة الجنسية هي وحدها التي تحقق لهما السعادة ما داما معاً إذ يكمن في أعماقهما شوق ليس من السهل الإبانة عنه ، ولا حتى الدلالة عليه وإن عبّروا عنه في كثير من الغموض والإبهام (...) إن المحب يتحد بمحبوبه ويفنى فيه فيصير المحب والمحبوب شخصاً واحداً (55) .

لكن السؤال الذي يثور في ذهن المتلقي هو : من أين جاءت افلاطون هذه الأفكار التي يَعبُر بها الإنسان من حب الذكور الأرضي إلى الحب المطلق ، وحب الجمال المطلق أو إلى الغمر الجمالي ؛ أوقيانوس الجمال كما سمّاه ؟

والجواب هو : (أن نظام الحب الأفلاطوني لم يكن ما هو عليه لو لم يكن ثمرة التجربة الشخصية للفيلسوف . فأفلاطون كان قد شغفه في أحد الأيام حب شاب جميل جداً يُدعى "ديون" . فلجمال هذا الشاب يعود كل النظام الأفلاطوني حسب إقرار أفلاطون نفسه . وأن حب ديون هو الذي ولّد الهذيان في قلب الفيلسوف ، وقد أدخله الهذيان إلى العالم الإلهي) (56) .

إنّ المؤلف هو الحي الذي لا يموت في عالم الإبداع ، والأفكار تنبع عادة من "الداخل" ، ولا تتساقط ثمار المعرفة على رأس الفيلسوف من "لخارج" .

# وقفة مع نظرية محيي الدين بن عربي في الخلق :

وقد أعاد ذاكرتي استعراض الشاعر لنظرية أفلاطون في الخليقة هذه إلى نظرية مقابلة للشيخ الأكبري محيي الدين بن عربي ، تقابلها وتتفوّق عليها معقوليةً وترابطاً وجمالاً ورؤى . ولن أتوقّف عند عمليّات التقطيع والصعق والفصل والوصل التي ازدحمت بها قصة أفلاطون ، وسأتجاوز أطروحة "النفس الواحدة" التي جاء منها البشر رجالاً ونساء (راجع الآية 1 من سورة النساء) والتي ينطلق منها ابن عربي في قصّته ، وسوف أؤكد فقط على دور الأنوثة في هذه القصّة مقابل الإحتفاء والتلميع الأفلاطوني للذكور عاشقي الغلمان والصبيان . فحواء هي أصل آدم بما أن المرأة أصل في ظهور الإنسان لما تتمتع به من قدرة على الولادة ، فتعود إليها الفاعلية بحكم صدور الكائنات البشرية عنها ، وثانيها بمعنى المماثلة بين حواء وآدم وانعدام الفرق بينهما كإنسان بغض النظر عن ذكورته أو أنوثته ، وثالثها أن حواء نفس آدم وذاته للتشابه الدلالي بين عين ونفس . وإذا كان القصد من عبارة "حواء عين آدم" أنها نفسه ، فذلك يعني أنوثته لأن للنفس ، عند ابن عربي ، معنى الأنوثة في كل إنسان . إن حوّاء هي الأنوثة البشرية الثاوية في آدم . وفكرة صدور المرأة عن الضلع لا وجود لها في الأصل الأول للشرع وهو القرآن ، الذي يؤكد أن الرجل والمرأة من نفس واحدة بل تغيب كلمة الضلع في القرآن . ويصب استعمال ابن عربي لعبارة "صدور المرأة عن الضلع" في تصوره للأنوثة باعتبارها ترمز إلى الميل والإنحناء (ويرتسمان في الضلع) الدّالين على الإستدارة الميتافيزيقية والمتجسدتين في استدارة الرحم . إنّ الصورتين : الرجل والأنثى تحققان كمال الوجود ، ويحملهما الإنسان الكامل ، وبهما يحضن حقائق الموجودات ... ولمّا كانت النساء محل التكوين ، وكان الإنسان بالصورة يقتضي أن يكون فعّالاً ، ولا أكمل من وجود الإنسان ، ولا يكون ذلك إلا في النساء .. ومن الإنحناء صدرت المرأة ، لذلك يقوى فيها الحنو كما يذكر شيخ المتصوّفة ، فانحناء حواء حنوها على ابنائها مثل انجناء الأضلاع على ما في الجوف .. فاعوجاجها هو عين استقامتها . ويُستخلص من هذه النظرة أن الحفظ الإلهي للعالم يتم على مستويين : الأول حفظ طبيعي تصونه المرأة بفضل انحناء رحمها وقدرتها على الولادة ، والثاني حفظ روحي تضمنه الأنوثة بإشاعة الحبّ والحنو والعطف (راجع كتاب الأنوثة في فكر ابن عربي لنزهة براضة) .    

... وهذه المراجعة الرائعة هي واحدة من عطايا مراجعة جوزف حرب لشكل من أشكال قصة الخليقة .