المفهوم الأدبي للبلاغة

الطيب عبد الرازق النقر

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

أضحى علم البلاغة من العلوم التى يلتقطها الطلاب فى يسر ويتداولونها دون تعقيد بعد أن أرسى دعائمها جهابذة من أقطاب اللغة والأدب على مر العصور، ذلك النفر الذى غاص فى أعماق هذا العلم ودقق فى محيطه اللجب واستجلى أخباره من خطفات الأحاديث ونتاف الكتب التى تحتوي على الفكر المشرق والبيان الجميل. فالبلاغة دوحة سقاها النبل الخالص وغذاها الكرم المحض وتعهدتها اليد الأمينة ورعاها الكتاب الحق الذى فصل من لدن حكيم خبير فلقد ألهم الأدباء واستهوى الشعراء وتكالب على مرعاه الخصب وبستانه النضر وفود الفقهاء، ونجد أن البلاغة التي نطق بها أناساً لم تثبت لهم قدماً فى أرض ولم تطمئن لهم نفس فى بقعة أتخذت مفهومين لا ثالث لهما هما المفهوم الأدبى للبلاغة كما فى العصور المنصرمة والمفهوم العلمى الذى تبلور نتيجة لتعاقب الحقب فى عصرنا الحالى.

ومالا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن البلاغة كانت فى بداية نشئتها عبارة عن صفة تلازم الأديب أو البليغ الذى كانت له جلالة تغشى العيون وقداسة تملأ الصدور لأن الكلام الذى يتفوه به تنزه عن شوائب اللبس، وخلص من أكدار الشُبهات، وبرئ من وصمة التعقيد. فالبلاغةلم تكن تدل على معنى اصطلاحى كما هو شائع الان، وذلك لأن العرب الأقحاح أساطين الفصاحة قد طبعوا على جزالة الألفاظ وفخامة الأساليب ولم يتلقوا هذه الأفانين من النثر المشرق الإسلوب، والشعر المحكم الأداء، والزجل الجيد الحبك، والخطب الناصعة البيان، من أساتذة يظهرون مكنونها، أو يفصحون لهم عن مضمونها، وإنما أدركوه بفطرتهم التى ليس فيها كدر ولا عيب ولا إفك ولا ريب، وبسليقتهم التى لم تطبع على ضعف أو تعكس على كلال، أو تدل على ركاكة. ولعل الدلائل التى تؤكد صحة هذا الزعم تفوق الاحصاء ولقد نقلت إلينا مدونات الأدباء تلك الجواهر النفيسة التى لا تخلق ديباجتها ولا يخبو بريقها العديد من هذه الصور والعوالم التى لا تضاهى فى حسن رونقها وشدة طلاوتها، ومن ذلك "ما يروى عن طرفة بن العبد أنه استمع وهو فى معية الصبا ولم يبلغ بعد مبالغ الرجال إلى المسيب بن علس ينشد احدى قصائده وقد ألم فيها بوصف بعيره على هذا النحو:

وقد أتناسى الهم عند ادكاره *** بناج عليه الصيعيرية مكدم

فقال طرفة: استنوق الجمل. وذلك لأن الصيعرية:سمة خاصة بالنوق لا بالجمل وتكون عادة فى أعناق النوق". وعندما جاء الإسلام ومعه معجزته الخالدة القرآن الكريم، ذلك الكتاب المحكم النسج، الدقيق السبك، الجزل العبارة، المتناسق الأجزاء، الذى يأخذه بعضه برقاب بعض، ووقف حيال فصاحتة وأية براعتة من خلعت عليهم الفصاحة زُخْرفها مبهورين مبهوتين لا يلوون على فعل شئ رغم أن حروفه وألفاظه نظمت من تلك اللغة التى استقامت لهم وجرت على ألسنتهم ولكن فى تراكيب لم يألوفوها وأساليب لم يعهدوها الأمر الذي جعل الوليد بن المغيرة صاحب الذوق المصقول والذي لا يباري فى مجافاة الحق الذي قُدِم له بصادع البرهان، ذلك الشيخ الذي كان يخاصم الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ويغالى فى خصومته و يعمل على تأريث تلك الخصومة بين بهاليل قريش وسادتها يقر فى عجز وصغار ببلاغة هذا الكتاب الذي أنعش الذاوى من قيم وجدد البالي من عدم وأحيا موات الأنفس التى تضطرب فى الحياة، فقال بعد أن أفحمته آيات من سورة "فصلت" وأعيته قوة سبكها وحسن نظمها وسلاسة معانيها لصناديد قريش:"والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، أن له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وأن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يعلي عليه".

لقد كانت البلاغة فى القرون الغابرة والعهود المندثرة لا تخرج عن كونها مجرد مهارات للإبانة والإفصاح عما يجيش فى نفس المتكلم من معان، بحيث يتم توصيلها إلى نفس السامع على نحو محكم محسن، يبرهن على ذكاء المتكلم، وإدراكه لمتطلبات الموقف، بالإضافة إلى مؤثرات شخصية أخرى، تتعلق بشمائل المتكلم وسنه وسمته، وجماله وطول صمته". ونحن إذا استفرغنا الوسع فى معرفة كنه البلاغة لأدركنا الصلة الوثيقة التى تجمع بين مفهوم البلاغة ومفهوم التوصيل، فلقد قرر بعض القدماء فيما رواه ابن رشيق فى كتابه العمدة فى محاسن الشعر وآدابه ونقده:"قيل لبعضهم:ما البلاغة؟ فقال:إبلاغ المتكلم حاجته، بحسن إفهام السامع، ولذلك سميت بلاغة". إذن البلاغة هى "تحبير اللفظ وإتقانه، ليبلغ المعنى قلب السامع أو القارئ بلا حجاز، كما أنها إهداء المعنى إلى القلب فى أحسن صورة من اللفظ". ونجد أن عبدالله بن المقفع أجرى الكُتاب قريحة، وأغزرهم مادّة، وأطولهم باعاً والذي يرجع إليه الفضل فى إقرار الحقائق اللغوية والأدبية زعم أن البلاغة:"اسم جامع لمعان تجرى فى وجوه كثيرة، فمنها ما يكون فى السكوت، ومنها ما يكون فى الاستماع، ومنها ما يكون فى الإشارة، ومنها يكون فى الحديث، ومنها ما يكون فى الاحتجاج، ومنها ما يكون جواباً، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً وخطباً ومنها ما يكون رسائل". و البلاغة فى السكوت التى أشار إليها ابن المقفع الكاتب المترسل فى فنون الإنشاء ليست هى البعد عن المناقشات الفجة والأصوات الناشزة بل فى الصمت الذى يعد أحياناً أبلغ من الكلام كما قال الشاعر رياض الحفناوى:

ولربما سكت البليغ لحاجة*** وسكوته ضرب من الإفصاح

فالبلاغة فى أوضح صورها وأدق معانيها كما ذكر أبوهلال العسكرى الذي يعد من أوائل البلاغيين الذين تناولوا هذا اللفظ تحديداً لمفهومه وتعريفاً لمعناه أنها تعنى: بلوغ الغاية والإنتهاء إليها، فمبلغ الشئ:منتهاه، ثم ذكر أنها سميت كذلك لأنها: تُنْهِى المعنى إلى قلب السامع أو عقله. ولو أتى هذا المعنى عن طريق الصمت المطبق وعدم تحريك اللسان بالكلام.  "فالبلاغة كلّ ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه فى نفسك كتمكنه فى نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن". وعرفها الآمدى صاحب الموازنة أنها:إصابة المعنى وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة، سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصاناً يقف دون الغاية...فإذا اتفق مع هذا معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن فذاك زائد فى بهاء الكلام، وان لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه".