في النهايات القصصية والشعور بالغربة

معمارية هاشم عبود الموسوي..

د. منصور نعمان

في المجموعة القصصية (عندما رحل القطار) للقاص د.هاشم عبود الموسوي التي صدرت مؤخرا عن دار حوران - سوريا، التي تحمل عنوان القصة الاولى وتبعتها قصص: حلم ضائع في خريف العمر، رجوع الشيخ الى صباه، النظر للارض من مبنى عال، ما كنت يونانيا.. ولا اظن بأنني ثقيل الدم، عام من المسرة محفورا على جدار العمر، طالب خبيث.. ومدرس ممسوس، ريتا و حضارة وادي الرافدين.

لم يكن بغريب على الدكتور هاشم الموسوي أن يصدر مجموعته القصصية التي سبقها بسنوات، بعدد من الدواوين الشعرية، فضلا عن الكتب المتعددة بالعمارة والهندسة والثقافة، فالرجل منقوع بالخبرة الميدانية في تعامله مع النص باختلاف المنهج والطريقة والتوجه، وخير ما يساق في هذا الباب، مجموعته القصصية التي بين ايدينا، فالتنويعات وانثناء الحدث، وبنية الشخصيات بطابعها المميز، بلورت صورة لبنية قصصية وقد تبدأ القصة من اي نقطة يشاؤها القاص، اما النهاية فهي استخلاص وتقطير وتتبع للاحداث، وبالتالي فان النهاية وان كانت خاتمة تختم توقف القص، الا انها اعلان في الوقت ذاته، لفهم واستيعاب المعنى والاحاطة به، ولاحقا سيتم التطرق لاربع من قصصه الثماني:

ففي قصة (عندما يرحل القطار) الذي كان فيها البطل شابا مقبلا على الحياة وفي بداية زواجه، وفجأة وبضربة كادت ان تقصم حياته، يجد نفسه وحيدا، في عالم لا يعرف فيه شيئا، فما ان ترجل من القطار ليتزود بالماء حتى يتحرك القطار ويتركه بدون مال وأوراق ثبوتية، والاهم دون زوجته، التي تزوجها حديثا، مما يعرضه للانهيار، في بلد اجنبي لا يجيد لغة قومه. واذا كانت الرحلة تبدأ بالعطش والحاجة للتزود بالماء، واذ بالقاص يحولها الى حاجة للعاطفية الانسانية، والبحث عن معنى وجوده، والى الحياة ومشاكستها التي وضعته بلحظة تيه استمرت لساعتين، لكنها بشعور البطل، استطالت وشكلت حفرا لولبيا في ذاته، لقد تراكبت الازمنة، واستحالت اللحظة التي يحياها البطل، وكأنها ازمنة متدحرجة فما من ماض او حاضر او مستقبل، فالزمن لعبة المشاعر المشتبكة والمتأرجحة، ليتخلق الشعور العميق بالازمة الروحية للبطل، وتوحده مع ذاته ازاء الوجود، الذي يشكل جحيم باربوس، وتأتي النهاية، متمثلة بلحظة اللقاء التي تحولت من ذات البطل الى ذات جمعية.ان لقاء البطل بزوجته بعد اللحاق بالقطار، وتوقفه في المحطة التي تسابق فيها مع الزمن مدة ساعتين لبلوغها بسيارة اجرة وهو لا يملك المال ليعطيه للسائق ان لم يبلغ القطار، لكن ما ان بلغ المحطة ووجد القطار يتوقف اما عينيه، واذا بالمسافرين الاجانب الذين اضحوا مشاركين بالحدث يصيحون ويشيرون ويهللون لقدوم الزوج الذي فاته القطار. ان هذه اللحظة، ما هي الى اعادة البطل للعالم من جديد، وانفتاحه للاندماج بالانسانية بعد ان اهتزت ثقته وقناعاته، لقد عاد التوازن الى الحياة بعد ان نشزت نوتة الحياة لبرهة، لكنها عودة الغريب الى ذاته، وشعوره المستديم بالغربة التي يشاطر زوجته فيها. اما قصة (حلم ضائع في خريف العمر) فالبطل كهل او يشعر بانه كهل، الا ان فتاة جميلة توقظ الحياة في جنباته المتيبسة، وما ان يستيقظ من النوم ويذهب للحمام حتى يرن جرس البيت فيفتحه، منتظرا صديقه الدكتور نزار، فخرج مسرعا دون النظر اليه، وهو لم يزل يكمل ارتداؤه لملابسه، مستمرا بالكلام، مرحبا ومحييا صديقه من غير ان يلتفت اليه، مشغولا بالفتاة الساحرة التي استباحات كهولته، انها (نيزك) الملاك الجميل الذي سطا على كيانه، وجذوة الحياة التي هبت مثل ريح لتقتلع الخمول، والتكسر والانكسار، وصارت صورتها في خياله، تنشر الفرحة المغيبة في نفس تعاني القهر، يستمر البطل بمونولوجة الطويل مبررا حالته وفرحته، منتشيا بذكر (نيزك) التي شكلت رمزا لقوة الحياة وحركيتها، دون ان يتلقى اجابة من صديقه، ينتبه واذا به يجد نفسه وحيدا، فلم يرن جرس البيت، ولم يكن يستحم، ولم يات صديقه، وانما كان وحده يهذي، عاد البطل الى قهره وتقهقره، منكفئا على ذاته، معلنا عن سرقة عمره وفرحته فما من نيزك بقي في مسيرة حياته، لقد جاءت النهاية كصفعة مدوية لتقزيم محاولة البطل للانفلات من رحم الغربة، التي ابت الا ان تتمركز وتتغلغل في نفسه المستجدية للحياة. اما نهاية قصة (ما كنت يونانيا.. ولا اظن بانني ثقيل الدم)، لا تختلف عن القصتين السابقتين، وشعور الوحدة المهيمن على البطل، الذي قرر السفر من اليونان بالباخرة منتظرا صديقا له، متجهين الى بيروت، ولم يأت الصديق، فيضطر للجلوس على مصطبة بانتظار تمضية الوقت حتى قدوم الباخرة، والمفاجأة ان يشاطره المصطبة رجل وامرأة يمضيان شهر العسل، ويبدأ حوارهما عن ليلة الامس الزوجية، ولم يعرفا انه عراقي مثلهما، ولم يعلن البطل عن ذلك، وقال: اصبحت ارى واسمع فيلما جنسيا بكل لقطاته المثيرة، كأنني شاهدتهما عاريين امامي (ص48)، كان البطل يتحاشى ان يعرفا بانه يفهم ما يقولانه تماما، لكنه كمن تورط، وانتابته الخشية ان ينهض، فيعدانه قد فهم حوارهما، بقي البطل مكانه يتشاغل الا ان الحوار قد تطور بين الزوجين الى شجار بينهما، فاحدهما يتهم الآخر بالخبرة الجنسية السابقة للزواج وبعد صمت وجيز...

هدأ الزوجان اخيرا، وغيرا موضوع الحوار بينهما واول ما نطقت به العروس: (ما أثقل دم هذا اليوناني الجالس جنبنا) (ص49).

ان عزلة البطل مفروضة عليه، وان لم يتكلم ولم يظهر فهمه لما دار بين العروسين، الا انها عزلة ملزمة، شاء ام أبى، اسوة بالبداية، كونه يحيا في المانيا ومن اجل تحمل جليد الحياة هناك، يسافر سنويا الى بيروت او سوريا، فالغربة ديدنه، والاغتراب عالمه، وان كان يحاول خرقه، فالآخر لا يقبله سواء اكان نظاما تعليميا أم سياسيا، أم اجتماعيا، ففي ظل سكوته وابتلاعه لحوار العروسين، لم يتخلص من رفض العروس لوجوده لا لشيء الا لكونه جالسا لم ينبس بكلمة، وتلك ضربة موجة للبطل الذي ينشد الاندماج والتوحد مع الآخر، لكنه يرتطم بجدار من الرفض.

اما القصة الاخرى (ريتا وحضارة وادي الرافدين) التي انتهت باللقاء الحميمي بين ريتا والبطل، الا ان الغربة بقيت، وابقت على المسافة المعلقة بينهما. وتبدأ الاحداث من حانة وصاحبتها (ريتا) التي ألفت اصدقاء جمعت الظروف بينهم في المانيا، واصبحت هي الاخرى صديقتهم، الا ان الالفة والتواصل الاجتماعي ودفء الحوار بينهم، قربهم وجعل منهم اصدقاء يسعون الى اللقاء يوميا، وكان البطل العراقي يسعى جاهدا ان يمضي ساعة من الوقت حول الطاولة المحجوزة لهم، وتشاركهم (ريتا) الجلسة، وذات يوم لم يأت احد من شلة الاصدقاء الا البطل فشاطرته (ريتا) الجلسة، بحديث دافىء، الا ان صديقها الالماني المقرب (هانس) قوي البنية، الذي يشعر بالامتعاض من البطل بوصفه الاقرب الى (ريتا) ثم يدفعه لافتعال شجار بينهما، بعد اهانته البطل، مما استدعاه لمنازلة غير متوقعة، يتغلب فيها البطل باستخدام الباب الزجاجي المروحي، فما ان يدخل (هانس) حتى تغلق الباب بقوة فتصدمه ويتساقط الزجاج على جسده الذي خر ساقطا، وما ان يحاول من جديد حتى يعيد البطل لعبة الباب الزجاجي من جديد، فيسقط (هانس) ثانية، ويهجم عليه وقد بلغ اشده، فانهال عليه البطل ضربا مبرحا وهزم غريمه (هانس) لقد انتهت القصة بمرافقة البطل لـ(ريتا) الى شقتها وامضيا ليلة هانئة، الا انها طلبت ان يعود لزيارتها من جديد ليحدثها عن تاريخ العراق وحضارته القديمة.

ان النهاية كانت استجابة لحالة الغربة التي يعيشها البطل، وحاجته للقاء داخل الحانة باصدقائه، الا انا هناك من يعلن رفضه لحالة الالتحام والتأقلم، ونزوع في العمق لكشف البطل لماهيته، واذا كانت (ريتا) شكلا من اشكال الانجذاب، والتآلف الظاهري، الا ان جوهرها يكشف عن نقطية ثاوية في الاعماق، وإن طارحته الفراش، الا ان ذلك لا يعني انها تفهمته او قبلته، او غاصت في اعماقه لقد كانت جملتها الاخيرة مفعمة بالانفصال غير المعلن، وهي تشدد حاجتها للحديث عن تاريخ العراق القديم وكأنها تقول: اني لم افهمك بعد ومازلت غريبا عني. في ضوء ما تقدم، فان النهايات للقصص الاربع، كشفت حالة السخط لبلوى البطل من الغربة والشعور بالمنفى وعدم امكانية خرق جدران مدن المنافي، فالبطل يجتهد محاولا، الا ان شروط الغربة تقصيه وتدفعه وتحيله الى: ضائع، حالم، مقصي، او غير مفهوم، لا من الشخصيات الاجنبية التي ظهرت حسب، وانما من ابناء جلدته من العراقيين ايضا وبالمستوى نفسه، ان ذلك يدفعه للنكوص وزيادة ثقل الغربة في بنية البطل الداخلية، وان تحلى بمحاولة للنفاذ واختراق غربته، ان ميزة هذه النهايات للقاص، كمن يفتح عدسة كاميرا ليجعل من الخبيء ظاهرا للعيان، ليعيد تركيز الحدث من جديد.