الحنين إلى شوقي وحافظ

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

نحن الآن في حاجة إلى الشاعرين العظيمين شوقي وحافظ ، فقد كانا يمثلان المثقف الحقيقي الذي ينحاز إلى الوطن قبل الغزاة ، والمظلومين قبل الطغاة ، والمصلحين قبل الفاسدين ، وقالة الحق قبل المنافقين والمتملقين ، ومع أنهما توفيا قبل ثمانين عاما (1932م) ؛ فإنهما يعيشان معنا في زماننا ، يواجهان أنواعا من البشر تسلحوا بالكذب والادعاء والتضليل والتدليس ، ويسعون إلى تخريب البلد بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان ، من قبيل المدنية والحداثة وقبول الآخر وحرية التعبير ، فضلا عن الديمقراطية المظلومة ، رغبة في تحقيق مصالح خاصة ومنافع شخصية ، دون خوف من الله ، أو إصغاء لصوت الضمير .

شوقي وحافظ يمثلان ضمير الأمة وهويتها وحضارتها ، وآلامها وآمالها وأمانيها ، ودفع كل منهما ثمن مواقفه ورأيه الذي هو رأي الأمة وموقفها ؛ فعرفا  النفي والتشريد والفقر المدقع ، ولكنهما مع الفارق - بين طبقة كل منهما – انحازا إلى الإنسان في فقره وضعفه ومظلوميته وثورته على الاستبداد والطغيان ، وبحثه عن الحرية والكرامة والعلم والمعرفة والرقي الروحي والخلقي ..

لم  أجد إلا صدى خافتا في أجهزة الإعلام والصحافة لذكرى الرجلين العظيمين ، ولكني وجدت اهتماما غير عادي بذكرى بعض الممثلين والمطربين والراقصات ، وكأن الأدب والشعر لا قيمة لهما ولا لأصحابهما الذين عاشوا مع الناس أحزانهم وأفراحهم ، وظلت كلماتهم حية تسعى بيننا اليوم وغدا ، لأنها ولدت من رحم الصدق والإخلاص والموهبة والثقافة .

الشاعر العظيم يبقى حيا بين الناس مهما اختلف النقاد حوله ، وهو يقدم شهادة موثقة على أن الشعر لا تصنعه الدعاية ولا الوقوف على عتبة السلطان ، ولا قوة الذراع وفتحة الصدر ، وادعاء التجديد والتحديث ، هذا ليس شعرا لسبب بسيط ، هو البعد عن قضايا الناس وروحهم ، ووجدانهم ، والانغلاق في قضايا ذاتية لا تهم غير صاحبها ، وليتها عولجت معالجة فنية شعرية، ولكنها تعالج في نثرية مقيتة يغلفها ادعاء عريض بالشاعرية والوعي بطبيعة الفن .

لقد وقف شوقي وحافظ من قضايا الأمة الموقف الطبيعي والتلقائي الذي يؤصل للقيم العليا ويبني على أساسها مجتمعا يربط بين هوية الأمة وصناعة المستقبل في إطار فني متنوع بين القصيدة الغنائية والمسرحية الشعرية ، والمطولة التي تقترب من الملحمة ، والرواية والمقالة والترجمة ، اقرأ ما يقوله شوقي في أبيات شاعت وما زالت تعالج واقعا سائدا بيننا حتى الآن ، يصف شوقي وضع المعلم وما ينبغي له في المجتمع المصري :

قُـم لِـلـمُـعَـلِّمِ وَفِّه التَبجيلا / كـادَ الـمُـعَـلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا / أَعَـلِـمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي يَـبـنـي وَيُـنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا ؟ 

ترى ما ذا يقول لو عاش بيننا ورأى صورة المعلم الآن وهو يستجدى طلابه من أجل درس خصوصي أو الدخول في مجموعة خصوصية ، ويستهين به الطلاب وأولياء أمورهم  ؟ يقول شوقي على لسان المدْرَسَة:

أنا المدرسةُ اجعلني/  كأمٍّ، لا تمِلْ عنّي / ولا تفزعْ كمأخوذٍ / من البيتِ إلى السجنِ / كأنى وجهُ صيّادٍ /           وأنت الطيرُ في الغصنِ /ولا بدَّ لك اليومَ /  وإلا فغداً.. مِنّى

ما ذا لو علم شوقي أن طلاب المدارس الثانوية لا يحضرون إلى مدارسهم وخاصة في الصفين الثاني والثالث ، وأن المدرسين سعداء بعدم حضورهم ، ويتسللون إلى بيوتهم أو بيوت تلاميذهم لإنجاز الدروس الخصوصية أو دروس المجموعات ، ثم تأمل ما يقوله شوقي لتكتمل الدائرة المعرفية ، وهو يتحدث عن الكتب وأهميتها :

أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا /       لَم أَجِد لي وافِيًا إِلا الكِتابا /صاحِبٌ إِنْ عِبتَهُ أَو لَم تَعِبْ / لَيسَ بِالواجِدِ لِلصاحِبِ عابا / كُلَّما أَخلَقتُهُ جَدَّدَني /وَكَساني مِن حِلى الفَضلِ ثِيابا .

لماذا لا نجد لدى بعض الأدعياء الذين يتصدرون المشهد الثقافي شيئا مما عند شوقي الذي كان يعيش واقع بلاده أولا بأول ، وكان يأسى على الخلافات المفتعلة بين الزعماء السياسيين والقادة ، وكأنه يراهم الآن وهم يريدون هدم الوطن من أجل إلغاء الجمعية التأسيسية التي لا تروق بعضهم ، أو يريد بعضهم أن يعرقل استقرار الوطن ويمنع تشكيل مؤسساته الدستورية ، ويؤخر توجه أبنائه نحو العمل والإنتاج .

إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما /  وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما / وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ / وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما / وَأَينَ الفَوزُ لا مِصرُ اِستَقَرَّت / عَلى حالٍ وَلا السودانُ داما .

ثم ها هو حافظ إبراهيم يوجهه سهامه إلى من أفسدوا الحياة السياسية ، وشغلوا الناس بهوامش الأمور:

أيُّهَـا القَـائِمُـوْنَ بِـالأَمْـرِ فِيْـنَا / هَـلْ نُـسَيِّــمُ وَلاَءَنَـا وَالـوِدَادَا / خفضوا جَيْشُكُـمْ وَنَامُـوا هَـنِيْئـاً / وَابْتَغُـوا صَيْدُكُـمْ وَجُـوْبُوْا البِـلادَا /وَإِذَا أَعْـوَزَتْـكُـمُ ذَاتَ طَـــوْقٍ / بَيْـنَ تِلْكَ الرُّبَـى فَصِيْـدُوا العِبَـادَا / وَإِنَّـمَـا نَحْـنُ وَالحَـمَامُ سَــوَاءٌ /                 لَـمْ تُغَـادِرْ أَطْـوَاقُنَـا الأَجْـيَـادَا .

لماذا لا نجد اليوم من يكتب لنا قصائد خالدة مثل قصائد شوقي : نهج البردة ، وكبار الحوادث ، وسلوا قلبي ، وإلى عرفات الله ،  وقصصه الرمزية للأطفال ، وغيرها ، ولماذا لا نجد مثل قصائد حافظ الخالدة ، مصر تتحدث عن نفسها ، واللغة العربية ، وعمر بن الخطاب ، والنيل، وحريق ميت غمر وغيرها ؟

يجب أن نتذكر أن شوقي وحافظ كان يتحركان في سياق حياة حقيقية غير مزيفة لا تعرف التدليس أو التضليل كما يشيع في أيامنا ، فعرفت روادا من أمثال محمود سامي البارودي ، وعلى مبارك ، ومصطفي كامل ، ومحمد عبده ، ومحمد فريد ، وخليل مطران ، وشكيب أرسلان ، وجرجي زيدان ، وعلى الغاياتي ، وعبد العزيز جاويش ، وإسماعيل صبري ، وأديب إسحق  ، ومحمد فريد وجدي ، ومحب الدين الخطيب ، ومحمد رشيد رضا ، ومصطفى لطفي المنفلوطي ، وعبد العزيز البشري ، وعبد الرحمن شكري ، وإبراهيم عبد القادر المازني ، وعباس محمود العقاد ، ومصطفى صادق الرافعي ، وأحمد حسن الزيات ، وعلى الطنطاوي ، وحسن البنا ، وسيد قطب وغيرهم .

لقد كانوا نمطا فريدا في الإيثار والاحترام المتبادل ، والإخلاص لقضية الوطن ، وهو ما جعل شوقي  يقول في رثاء حافظ الذي توفي قبله بعدة شهور:

قَد كُنتُ أوثِـرُ أَن تَقـولَ رِثائــــــي .... يا مُنصِفَ المَوتى مِـنَ الأَحيـاءِ

لَكِن سَبَقتَ وَكُـلُّ طـولِ سَلامَـةٍ ....    قَـدَرٌ وَكُــلُّ مَنِـيَّـةٍ بِقَـضـــــــــاءِ

رحمهما الله.