قمة الإبداع .. في قاع النيجر

محمد جهاد إسماعيل

قمة الإبداع .. في قاع النيجر

محمد جهاد إسماعيل

ناقد أدبي من فلسطين.

 الإبداع هو تلك القيمة العظيمة, التي يسعى إليها كل مجتهد, ويرنو إليها كل مبدع مبتدئ. أما قاع النيجر, فهو قعر نهر النيجر, ذلك النهر الأفريقي الكبير.

( في قاع النيجر ) هي قصة قصيرة رائعة وسحرية, كتبتها الأديبة العراقية الراقية والأميرة, وصاحبة الاسم الجميل ( بان ضياء حبيب الخيالي ).

أرجوكم ألا تفتتنوا وتتشتت أذهانكم, مع رباعية ذلك الاسم الموسيقي, والمدجج بأرقى معاني السمو, والجمال.

سنسلط الضوء في هذه الدراسة التأملية, على إبداع أديبتنا العراقية الحاذقة والقديرة, وعلى إتقانها لحرفة وصنعة الأدب. فبكل أمانة وصدق, هذا ما ظهر وبوضوح في قصتها الأفريقية, ذات الإيقاع الكوشي ( في قاع النيجر ).

 أرض أفريقيا الساحرة – ضفاف النيجر القاتم – قبل دخول النهر إلى العاصمة نيامي – قرية صغيرة هادئة وادعة – أكواخ الصيادين – هانا جالسة في ركن صغير في أحد هذه الأكواخ. بهذا النمط الجغرافي الجيوديسي المتدرج, بدأت أديبتنا في التمهيد لأحداث القصة ومجرياتها. فقد استهلت أديبتنا قصتها بالتطرق إلى البعد المكاني, وقد استخدمت في ذلك أسلوباً مخروطياً رائعاً, يتمثل في توصيف مكانية القصة, بداية من المكان الأكبر, فالأصغر منه, فالأصغر, ثم الأصغر, وهكذا.

لقد كانت أديبتنا في هذا الموقف, أشبه ما تكون بمصورة ارتادت طائرة أو سفينة فضاء. ومن ثم راحت تصور الأرض مستخدمة تقنية ( Zoom in ), إذ راحت تزيد من تركيز رؤيتها للأماكن, لتصور الكبير, فالأصغر منه, فالأصغر, فالأصغر. وعلى هذا النحو قامت مصورتنا المبدعة, أقصد أديبتنا المبدعة, ومن فضائها العالي, بتصوير اليابسة الأفريقية بأسرها, نزولاً إلى الأصغر منها, وإلى الأصغر, وصولاً في النهاية إلى مشهد هانا, وهي جالسة في أحد أركان ذلك الكوخ الهزيل.

يا له من شعور رائع, سيشعره القارئ, عندما يرى الكاتب أو المؤلف, وهو يقدم له مكانية القصة, على هذا النحو المثير والمشوق.

 فكرة القصة جد بسيطة وسهلة, إذ تخلو تماماً من معالم التكلف والتعقيد. لكنها في ذات الوقت تتضمن إيحاءات بعيدة, وعميقة الدلالة. أحداث القصة تدور بشأن فتاة أفريقية حالمة ومحبة للحياة, وفتى أحلامها الأسمر المفعم بالحيوية والأمل.

لقد أرادت أديبتنا العراقية أن تبين لنا من وراء هذه القصة, أن الحب هو قيمة إنسانية تلقائية وعفوية, توجد وتفرض نفسها في كافة الظروف, بما فيها الظروف الصعبة والحالكة والقاهرة. لا مستحيل مع الحب, ولا منغصات تعكر صفو مائه, الغير آسن. فحتى أفارقة النيجر الغارقين في مستنقعات الفقر, وشظف العيش, ومشقة الحياة. يدركون بدورهم قيمة الحب, ويتذوقونه ويعيشون تجاربه, تماماً كما غيرهم من أبناء الشعوب المنعمة والغنية والثرية.

أرادت أديبتنا العراقية من خلال هذه القصة, أن تبرهن لنا, أن سمرة إخواننا الزنوج وقتامة بشرتهم, لا تطفئ وهج قلوبهم المشعة, ولا تقلل من سطوع تلك القلوب النابضة بالأحمر القاني, والمشاعر النبيلة الصادقة.

لإخواننا الزنوج مشاعر مرهفة, فهم يحبون كما كل البشر, وقلوبهم الطيبة تحب كل ما يستحق الحب في هذه الحياة. لذا, أتخيل أديبتنا بإنسانيتها الراقية وأخلاقها الرفيعة ها هنا, وكأنها ترد بقصتها هذه, على سائر المتعجرفين والعنصريين من الفلاسفة والمفكرين البيض, والذين امتهنوا الإنسان الأفريقي الزنجي, فصنفوه على أنه إنسان خارج التاريخ, ولا قيمة له !!. 

 تتعمق أديبتنا من خلال أحداث قصتها, في التطرق إلى الطابع الأفريقي الزنجي, الذي تتميز به هانا ( بطلة القصة ) ومحيطها البسيط الفقير المعدم. إذ تصف لنا أديبتنا معالم ذلك الجمال الأفريقي الساحر, الذي يظهر على محيا هانا. وبذلك تسلط المجهر, على ذلك النوع العذري والطبيعي من الجمال.

 فحتى الجمال ومعالم الجمال في هذا الكون تخضع لسطوة الفساد والإفساد, فليس كل ما نظنه جميل هو بالفعل جميل, حتى وإن بدا لنا جميل. الجمال الذي تحققه مستحضرات التجميل والمساحيق الكيماوية, هو جمال زائف ومخادع في ذات الوقت. أما الجمال الحقيقي فهو جمال الخلقة الطبيعية, ذلك الجمال العذري البدائي, أو الجمال البري الخالص الذي لم يستأنس بعد.

تلك النوعية الراقية من الجمال, والتي جسدتها أديبتنا في شخصية هانا, قد لا تروق للكثيرين من المتسرعين, والمتخبطين, والسذج, المنخدعين بالجمال الزائف والمزور. لذلك, فهذا النوع الاستثنائي والفاخر والنقي من الجمال, يحتاج إلى فلسفة خاصة كي يفهم ويقدر من خلالها, كما ويحتاج لمن يتذوقون الجمال بوعي وحكمة, أي من يتذوقوه بقلوبهم وعقولهم, وليس بقلوبهم فحسب.

 حتى الفقراء يحبون, حتى البسطاء لهم مشاعر, هكذا هي الحياة. نتعلم من هذه القصة أن الحب الحقيقي والحب الصادق, هو الذي يتبادله الفقراء والبسطاء. فحب من هكذا نوع يخلو عادة من أطماع النفس البشرية, وحسابات المال, والجاه, والغنى, والمصالح, والثروة.

هؤلاء الفقراء والبسطاء المطحونين بين رحى شظف العيش وقسوته, يحبون من أجل الحب, وليس من أجل دوافع أو مآرب أخرى.

 تطوف بنا أحداث القصة في جولة أو رحلة سياحية, في أكناف الطبيعة القروية والبدائية البسيطة. يجول بنا ركاب القصة, فنتنقل سوية بين مطارح ومحطات نقية, خالصة التكوين, تخلو من معالم التلوث, ومعاني التمدن المفسد, والتحضر المخادع.

حقاً إن تلك المطارح والمحطات الطبيعية, بأيكولوجيتها النضرة, وعافيتها وصحتها وهدوءها, وبعدها كل البعد عن عوادم السيارات والمصانع, والتكتلات الإسمنتية للبنايات, لهي أجمل وأروع ما جاء في أحداث القصة, بالإضافة إلى المسألة الأكثر جمالاً وروعة, ألا وهي قصة هانا, وروحها الهانئة.

 ذلك الاختلاف في الطبيعة ووسط العيش, يؤثر على أخلاق البشر وبلا شك. فنمط حياة التمدن أو السكن في المدن والمجتمعات الحضرية, قد يجعل الإنسان عصبياً, وعدوانياً, وغير متسامح, وبخيل, ومتكبر, وغير متعاون, وانعزالي , وأناني. أي قد يؤثر بالسلب على حياة المرء وسلوكه العام.

ساكني الريف والقرى الهامشية المهمشة, ليسوا مثاليين وليسوا ملائكة, هم الآخرون يخطئون بدورهم, وقد يرتكبوا بعض المسلكيات اللاأخلاقية, لكن حياتهم وبيئتهم بطبيعتها, غالباً ما تبث فيهم أخلاقيات وروح الشهامة, والكرم, والتسامح, والشجاعة, والإخلاص, والتواضع, والتعاون, والتعارف, والصبر, والتحمل, والأمل.

 البيئة المتقدمة والمعقدة تجعل من حلم المرء معقداً, أما البيئة الفقيرة والمعدمة فتجعل حلم المرء متواضعاً وبسيطاً. ساكن البيئة أو الوسط المتقدم قد لا ينام الليل, بسبب تفكيره وتخطيطه لغزوته الجديدة في البورصة !!.

أما ساكن البيئة أو الوسط المتأخر والفقير, فينام باكراً مطمئناً وهادئ البال, يغط في نوم عميق, فأسمى أماني هذا المتواضع الفقير, هو أن تسلم ثمار زروعه من هجمات العصافير !!.

 هكذا هي المعادلة في كافة القارات, وفي كافة أرجاء العالم. إن كان بسطاء العالم وفقراءه بهذا الحال, فما بالكم ببسطاء وفقراء أفريقيا, وإن كان بسطاء وفقراء أفريقيا بالحال المتأخر والمتقهقر الذي تعرفونه , فما بالكم ببسطاء وفقراء النيجر!. نعم إن فقر بسطاء النيجر, يتجاوز بكثير مفهوم مصطلح ( الفقر المدقع ), ففقر بسطاء النيجر, فقر لا يضاهيه فقر على سطح هذا الكوكب !!.

 البشر الفقراء والبسطاء, قد يكونوا أحياناً سذج وأغبياء. سذج وأغبياء من حيث انسياقهم وراء عاطفتهم في كثير من المواقف. والانسياق وراء العاطفة إنما يدل على العفوية والتلقائية والتفكير السطحي المهلهل, الخالي من أدنى مقادير الحرص والخبث والمكر والدهاء.

نعم ففي ظل المنظومات والمعايير الأخلاقية الحديثة, والتي غالباً ما تسير دفتها وتتحكم في منسوبها النفعية والمادة والمصالح والأهواء. يمكننا القول أن من لا يفكر ويتصرف بخبث ومكر ودهاء, هو بالفعل غبي وساذج !!. هذا ليس رأيي الشخصي, وإنما رأي كل من يراقب تصرفات البشر ومسلكياتهم, في عصر ما بعد الحداثة والعولمة !!.

 وفقاً لهذه النظرية, فقد كانت ( هانا ) بطلة القصة, غبية وساذجة بكل المقاييس. فبساطة هانا الشديدة, وطيبة قلبها ونقاؤه, وعاطفتها الجامحة, كل هذا دفعها لعدم التفكير بعقلها وعدم اللجوء إلى الحكمة والمنطق. فقد انجذبت هانا نحو هيبة الصخور, وديناميكية النهر, بلا تفكير ولا وعي, ذهبت لتحتفل هناك. لكن النيجر الذي خالته جميلاً وهادئاًً, كان متوحشاً قاسياً شريراً, إذ التهمها في طرفة عين, بعدما تواطأت معه تلك الصخور الخائنة. فقد قدمت الصخور هانا إلى جوف النهر, كالقربان الذي يقدم على المذبح !!.

 لم تكن هذه هي المرة الأولى, التي راحت فيها هانا تداعب النهر والصخور. لقد داعبتهما من قبل ومازحتهما مرات كثيرة, لكنها في كل مرة كانت تمشي فوق الصخور بأقدام راسخة, وخطى ثابتة. أما في هذه المرة, فقد دفعتها عفويتها وتلقائيتها وعاطفتها الطاغية, إلى الاستهتار والتسرع والغباء, إذ راحت تمشي فوق الصخور بذات مشيتها الأولى, بينما عقلها شارد سارح, يفكر في حلمها الجميل, الذي صار حقيقة.

لم تشفع لهانا صداقتها القديمة مع النهر والصخور, فقد تآمر كليهما عليها, وقذفا بها في قلب الظلمات. النهر الهادر كما الوحش الكاسر, عندما يجوع ويثور لا يرحم أحد, يلتهم كل من يجد أمامه, حتى لو كان ولده هو الضحية. والصخور اللئيمة الغادرة, المتشائمة والعابسة, لا يروقها أن ترى أحداً يمشي فوقها, وهو فرحاً, متفائلاً, هانئ البال.

 ليس الإنسان هو الذي يجرم في حق الطبيعة فحسب, بل الطبيعة هي الأخرى لا ترحم. يتنوع البشر وتختلف أحوالهم وأمزجتهم ونفوسهم, فمنهم الغني والفقير, منهم الشهم ومنهم الشرير. لكن علينا أن نعلم أن نوع البشر الذي جاءت منه هانا وربعها البسطاء, لهو من أرقى وأسمى أنواع البشر. كما نستنتج أيضاً من حادثة هانا, أن الإنسان ربما بالفعل قد يتفنن في ابتكار وسائل إبادة الأمم والبشر, وقد يزحزح الجبال وينسفها, وقد يرتاد الفضاء المهول, وقد يفعل المعجزات المستحيلة, لكنه وحينما تتمالكه وتتسيده العاطفة, يصير أضعف مخلوق على وجه البسيطة !!.

 حدثتنا أديبتنا العراقية الرائعة, صاحبة الشعور المرهف, والحس الإنساني الجميل, حدثتنا عن قصة هانا البسيطة. ليست هانا فحسب هي البسيطة, بل كانت القصة بسائر أحداثها بسيطة أيضاً.

نعم كانت بسيطة الفهم والحجم واللغة والتصوير, لكنها كانت ذات مدلولات فلسفية وأبعاد إنسانية وسوسيولوجية عميقة, وجد دقيقة.

لقد تطرقنا إلى ذلك في سالف السطور, وبما فيه الكفاية. أما الآن فدعونا نختتم هذه الدراسة بإطلالة, نتأمل من خلالها في الثراء اللغوي والإبداع الاستاطيقي المذهل, والذي برز بوضوح في مواضع كثيرة من أحداث القصة.

 وكمثال على ذلك الإبداع اللغوي والإستاطيقي المذهل, والذي بثته أديبتنا في أوصال القصة, دعونا نتأمل في الاقتباس التالي, حيث يجري وصف نهر النيجر ببهاء منقطع النظير:

 ( النيجر يزأر ملتوياً عند الصخور في تلك المنطقة, منحدراً بقوة وسرعة لاطماً الصخور الصابرة, ناحتاً إياها بأشكال حسب مزاجه في كل مرة, ناثراً أشلائه كشذرات متطايرة في فضاء المكان, رائحة شهية تملاً المكان, رائحة أشجار مغسولة باللجين المنبعث من النهر, رائحة الطين والنباتات النهرية تملأ الجو بعبق سحري ).