قداسة أدبيات حسن البنا في عيون أتباعه

قداسة أدبيات حسن البنا في عيون أتباعه

جابر قميحة في كتاب جديد عن الإمام

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

محمود قرني

ما زالت شخصية الإمام حسن البنا وتراثه الخطابي النظري والتنظيمي عناصر تمثل إلهاما مستمرا لكثيرين من مريديه . ولاشك أن هذه الصورة قد تعاظمت بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير ، عقب صعود نجم حركة الإخوان المسلمين الى سدة الحكم وكأن نبوءة الإمام البنا تتحقق اليوم على ارض الواقع ، بعد مرور أكثر من ثمانين عاما من التأسيس والعمل الجبهوي والتنظيمي . غير أن الضجيج السادر حول خطاب الجماعة تنظيرا وتنظيما لايعني بحال أنه خطاب على درجة من الشيوع تسمح له بالسيطرة المجتمعية الكاملة ، ربما العكس هو الصحيح . فأدبيات الجماعة لا زالت تمثل أقنوما خاصا لا يجعل منها أكثر من غيتو إجتماعي تبدو فكرة سيطرته الكاملة على العقل المجتمعي كضرب من الوهم الذي لايقل خطلا عن أوهام حكام الشمولية والقمع والفساد الذين أسقطتهم الثورة سقوطا مدويا . غير أن أنصار الخطاب الانتقائي الذي يتذرع بالعصمة ، حتى عندما يصدر من أكاديميين مرموقين يظل في حاجة إلى نقاش لما يبدو فيه من تناقضات أقلها احتقار المنهج العلمي في قراءة الخطاب النقدي سواء كان خطابا سياسيا أو ثقافيا او مجتمعيا .

وقد وقع في يدي كتاب ضخم للدكتو جابر قميحة أحد الأكاديميين ، وأحد كوادر جماعة الإخوان المسلمين ، يتناول الملامح الفنية والجمالية لأدبيات حسن البنا . والعنوان الذي يبدو عميقا مؤثرا وفضفاضا يدفع للقراءة واللهاث خلف تلك المعايير الجمالية التي نسعي الى استخلاصها من مثل هذا التراث ـ الخطابي في الأغلب ـ والذي يفتقر ، بحكم طبيعته ، الى تلك المعايير الجمالية التي يشير إليها عنوان الكتاب ، سوى باعتباره خطابا تحريضيا بالأساس .

ويبدو أن المشكلة الحقيقية ليست في تراث البنا ، رغم الاختلاف الجذري مع أفكاره التي تقوم ـ في معظم الأحوال ـ على التمييز بين عناصر الأمة على أسس ومعايير تناهض معايير الدولة الحديثة وعلى رأسها معيار المواطنة ، في أمة تتشكل وتقوم على الاختلاف الديني والتعدد اللوني وربما العرقي ، هذا إذا سلمنا بالمعايير التي استنتها الدولة الحديثة للنهوض بفكرة للمواطنة . أما المشكلة فتكمن لدى بعض الباحثين في تلك التصورات الأخلاقية التي لا تمت بصلة الى النقد العلمي أو المنهجي رغم أنهم يقفون في صفوف الأكاديميين ، وأعتقد أن كتاب الدكتور قميحة يقع هذا الموقع لعدة أسباب:

أولا: يتناول المؤلف وقائع غير موثقة منسوبة الى الإمام حسن البنا في معظم الكتاب وهي وقائع تعتمد على مشاهدات المؤلف أو على ما سمع من أقران ورفاق الإمام أو من نقلوا عنه.

ثانيا: اعتماد قميحة على إصدار أحكام قيمية على خطب ومقالات لم يتضمنها الكتاب في معظم الأمثلة التي ساقها وبالتالي بدت تلك الأحكام كأنها قراءات في الفراغ وأبلغ مثال على ذلك تلك الأحكام البلاغية والفكرية التي ينسبها المؤلف للإمام بمناسبة نقده لكتاب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر حيث قال ان الإمام لم ينقد الكتاب بأفكار من عندياته بل نقد بعضه ببعضه فكان يقول جملة من إحدي الصفحات ثم يقول إن الكاتب يناقضها بجملة أخري في صفحة تالية أو سابقة ، غير أن قميحة لم يقدم لنا مثالا واحدا على تلك الجمل التي استخلصها الإمام من كتاب طه حسين هذا رغم أن المؤكد بقاء كتاب مستقبل الثقافة في مصر وامتداد تأثيره الى لحظتنا الراهنة بينما ذهبت انتقادات الإمام الى مستقرها . 

فكتاب العميد يلخص موقفه من بناء الدولة الحديثة لا سيما في النظام التعليمي الذي وضع الكتاب أهم أسسه لا سيما تأصيله لفكرة التعليم المدني التي تناهض أفكار الإمام حول التعليم الديني الطائفي بطبيعته والذي يناهض خلق العقل العلمي المدني المتجانس والمتطلع إلى اجتياز حقول العلوم الحديثة على اختلاف مصادرها ، بعيدا عن المرجعية الكهنوتية التي تخضع جميع الظواهر للتأويل الغيبي الميتافيزيقي .

ثالثا: شيوع الأوصاف الفضفاضة التي تناهض المنهج الأكاديمي حول شخصية الإمام لدرجة تكاد تصل به الى مراتب الأولياء الصالحين وأصحاب الكرامات وربما الرسل في بعض الأحيان.

وليس لنا اعتراض على ما يراه المؤلف في شخصية الإمام فهو حقه وشأنه ، ولكن المنهجية تقتضي مقدمات تعقبها أسباب ونتائج وهو ما لم يحدث حيث اكتفى المؤلف بإ يراد بعض الحكايات غير الموثقة التي دفعته لإطلاق أوصاف مجانية ليس لها ما يؤازرها.

رابعا : الخطل الذي يدفع بعض تيارات اليمين الديني بالتحديد الى تكريس ما يرفضونه على المستوى المنهجي.

ففي الوقت الذي يرفض فيه هذا التيار مناهج النقد الغربي والواقعية الاشتراكية يكرسون فيه لما يسمونه ' النقد الإسلامي' و ' الأدب الإسلامي' وهي فكرة تستهدف توسيع دائرة نظرية النقد العربي التي توقف نموها الى دائرة أوسع تتواشج مع فكرة الإمامة حيث النهوض بالأمة الإسلامية وليس العربية وحدها وهي فكرة أيديولوجية بالأساس أوقعت أصحابها في مآزق غير منتهية منها إضفاء قيمة كبرى على الأدب الوعظي والأخلاقي والخطابي في الرواية والقصة والشعر وفي معظم الفنون وكان من نتيجة ذلك أن احتفى هذا التيار بالقيم الإبداعية الرجعية التي تجاوزها الفن في كل مرجعياته ، وهي في الإجمال لأسماء خارج نطاق العملية الإبداعية داخل لغتها وكانت ولا زالت عديمة التأثير ، وفي المقابل أساء هذا الاحتفاء للأسماء الكبرى والمؤثرة حقيقة في تاريخ الانواع الأدبية العربية الحديثة.

يتأكد هذا الاتجاه عبر العديد من هذه المؤلفات . ويدلنا الدكتور جابر قميحة على الموقف ذاته ليس في منهجية كتابه فحسب ولكن بإجمال ما يوجهه من انتقادات للمدرسة الحديثة في الادب . يقول في صفحة 67 من كتابه إن هؤلاء ـ يقصد المحدثين ـ سلكوا الى هذه الغاية سبلا لا تؤدي إليها ولا تفيد فيها ومن هذه السبل: الإسراف في التقليد الأوروبي والإعجاب بأدب الغرب إعجابا جعلهم ينصرفون عن محاسن لغتهم والغلو في التشكك واتخاذ الفروض حقائق مسلمة تبنى عليها نتائج ثابتة لتنقض آراء الأقدمين والزراية بالأسلاف والبحث في هدم العقائد الأدبية الثابتة ، التحلل من قواعد الأخلاق والإبهام والغموض ، وهذا في الإجمال ما يسميه قميحة التجديد المدمر الهدام ويطرح في المقابل ما يقول إنه الأصول الصحيحة المثمرة مثل: الابتكار في الأغراض والمعاني والأخيلة والأساليب ، تمجيد السلف ، نزاهة البحث ، كمال الاستقراء ، وحسن الاستقصاء وخدمة الأخلاق والفضيلة.

هذه هي الروشتة التي تقوم على فروض أخلاقية لا تمت للمنهج العلمي بأدنى صلة وتعيد الأدب والفنون بعامة الى عصر ما قبل النقد إذا صح هذا التعبير كمرادف لمصطلح عصر ما قبل الدولة وهما لا يخلوان ـ على أية حال ـ من وشائج. ولا يكاد المرء أن يفهم شيئا إزاء تلك المواصفات التي افترضها قميحة كمدخل للأديب المنشود . فلم يضرب لنا مثلا واحدا على مايقول ممن صنفهم باعتبارهم كتابا إسلاميين . فالمتأمل لفكرة الغرض الشعري سيجد أنها لدي هؤلاء في أقصي مراحل تقليديتها ولم تقترح بأي معني أشكالا يمكنها أن تدفع بالمزيد من الحيوية والتجديد الى جسد الشعر العربي ، وهو أمر ينطبق على بقية الفروض التي قدمها المؤلف ، في الوقت الذي بدا فيه حديثه عن تأثر الإبداع العربي بالمقولات والأشكال الغربية دون تمحيص كلاما ملقي على عوانه لأنه لم يقدم دليلا واحدا عليه فضلا عن أن ما قدمه الإبداع العربي في أشكاله المستحدثة والتي تم أخذ بعضها عن الغرب قد تجاوز الغرب نفسه لدي بعض كاتبيه من المبدعين العرب .

وما من شك أن شخصية الإمام حسن البنا إحدي تلك الشخصيات الكاريزمية في عصرنا الحديث ويقف بتأثيره العميق والواسع الى جانب اكبر الأسماء المؤثرة في عصرنا . فالرجل رحل عن دنيانا عام 1949 ولا زال تراثه حيا وفاعلا وتزداد دائرة مريديه يوما بعد يوم.

كل ذلك يستوجب درجة أكبر من التوقير لتراث الرجل أولا ولعقول المتعاملين مع هذا التراث من داخل المؤمنين به ومن خارجهم ، لكن على هؤلاء المتحدثين باسمه التخلي عن التعامل معه باعتباره أقنوما مقدسا لأنه يحمل بين جنباته الخطأ والصواب ، وهو في النهاية حديث لبشر مثلنا يخطئ ويصيب ، ويؤخد منه ويرد ، ولن يصدق أحد أن البنا أو غير البنا قد حصل على مرتبة المعصومية.

أما ما قدمه الدكتور قميحة فيذهب بعيدا عن مسلك العلم وأظن أنه كان يعول على معرفة افتراضية يعلم بها يقينا كل قارئ لكتابه ، هذه المعرفة تفترض تسليما بخوارق المتحدث عنه دون نقاش او تساؤلات وهو تصور محافظ من جانب ورومانسي من جانب آخر وقاصر من جانب ثالث لأنه يفترض أن الكتاب لن يطالعه سوى محبي هذا القطب الكبير ولا يتصور أبدا اتساع هذه الدائرة لتشمل المختلفين معه ومع إمامه على حد سواء ، لذلك بدا الكتاب تعضيدا لمعصومية زائفة و كقول بغير معروف .

ومن أسف أن معظم هذه الكتب تعول على العقل العام الذي تشكل في إطار السلطة الدينية المقدسة بطبيعة الحال وهو ما يوفر الكثير من العصمة والحماية لكثير من الأعمال التي تتم كتابتها تحت تأثير هذه القداسة بينما حقيقة الأمر ان هذا الكتاب وأمثاله لا يملكان أدنى عصمة من النقد لأنهما لا يمثلان الدين بحال والكاتب والمكتوب عنه لا يملكان أية قداسة ، فهما من البشر الفانين الذين يصيبون ويخطئون وهذا لا يقلل من الاحترام المكفول لكليهما فالأول أكاديمي مرموق سيطر عليه المريد والثاني زعيم سياسي مؤثر قبل أن يكون حاملا لراية دينية ، وقد أكدت خطى حركة الإخوان التاريخية انها تنظيم سياسي خالص يرفع شعارات دينية ، تشهد على ذلك التحالفات السياسية الواسعة التي انخرطوا فيها منذ اعلانهم حركة أو جمعية حتى توليهم السلطة بعد الخامس والعشرين من يناير ، وهو أمر لن نخوض فيه لأنه ينأى عن موضوع الكتاب.

بقي القول أن هذا الكتاب ضم ثلاثة أبواب الأول: في السيرة والمسيرة والثاني تحت عنوان الأبعاد والمنهج وتناول فيه المؤلف الخطابة الترجمة الرسائل المقال والقصة أما الباب الثالث فجاء تحت عنوان من الطوابع والملامح الفنية حيث اشتمل على خمسة فصول هي: مراعاة المقتضي التصوير البياني الأسلوب والأداء التعبيري براعة التمثيل والاستشهاد والعاطفة هذا بالإضافة الى ما أسماه المؤلف: كلمة أخيرة: وثبت المصادر والمراجع.

يقع الكتاب في 821 صفحة من القطع الكبير وصدر عن دار النشر للجامعات بالقاهرة.