علي الوردي 21

علي الوردي:

(21) عقل الإنسان ليس جهازاً فطريّاً،

والسفسطة خير من خزعبلات أرسطو

د. حسين سرمك حسن

# المنطق الأرسطي يبحث عن حقائق مطلقة لا وجود لها في الحياة :

في مدخل الفصل التاسع المهم : ( مهزلة العقل البشري ) ، يسخر الدكتور علي الوردي من قصة " حي بن يقظان " لابن طفيل الذي يرى ، كما كان يرى أغلب الفلاسفة القدماء ، أن عقل الإنسان جهاز فطري ينمو من تلقاء ذاته وينضج حتى لو عاش بين الحيوانات وقامت بتربيته ظبية. في حين أن الأبحاث العلمية أثبتت أن العقل البشري صنيعة من صنائع المجتمع ، وهو لا ينمو ولا ينضج إلا في زحمة الاتصال الاجتماعي . فإذا ولد الإنسان وترعرع بين الحيوانات فإنه يمسي حيوانا مثلها. وما قصة حي بن يقظان التي ابتدعها خيال فيلسوفنا الرائع إلا وهمٌ أو خرافةٌ لا وجود لها في عالمنا الحي الذي نعيش فيه (148) .

والوردي يرى أنها دعوة أخرى للفلاسفة والمفكرين للتعالي على الواقع وعلى الناس والتسامي في أبراجهم العاجية. ومرد ذلك هو إيمان القدماء بالمنطق الأرسطي الذي يبحث عن الحقائق المطلقة. وهذا المنطق قد أطاح به المنطق العلمي الحديث وألغى تصوراته عن الكثير من "الحقائق". فقد قدمت النظرية النسبية فهما جديدا للزمان وللمكان من خلال مفهومها في "الزمكان"، مثلما قلبت أكثر بديهيات الهندسة الإقليدسية رأسا على عقب مثل القول بأن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين ، فأثبت أنشتاين أن الخط المنحني هو أقصر الخطوط ، وذلك لأن الفضاء مُحدّب ، وهذا هو السبب الذي جعل الأجرام السماوية كلها تتحرك في أفلاك مقوسة . أما ابن طفيل وباقي المفكرين القدماء فقد كانوا يسيرون على أساس المنطق الصوري الذي يرى أن هناك حقائق تصلح لكل زمان ومكان . ومن هنا – وهذا من أعظم الإسهامات الفكرية للوردي في مجال السعي لتثوير الفكر الديني – فإن أخطر ما في تطبيقات هذا المنطق ومن مفارقاته أيضا هو ما يحصل بين الطوائف الإسلامية :

 (( فالكتب التي يصدرها رجال الدين من الطوائف الإسلامية المختلفة مفعمة بالمفارقات المنطقية ولا يكاد يخلوا أي كتاب منها . وأنت لا تكاد تعرف نوع الطائفة التي ينتمي إليها الكاتب حتى تستطيع أن تتبين اتجاه أقيسته المنطقية بوضوح تام )) (149) .

ويضرب الوردي على ذلك مثلا بكتاب : (العواصم من القواسم) الذي أصدرته لجنة الشباب المسلم آنذاك والذي يمدح معاوية ويزيد حسب "مقدمات منطقية" قائمة على الأحاديث النبوية تشهد بعدالة الإثنين وزهدهما بالدنيا . وحتى ما روي عن النبي أنه قال أن " الخلافة ثلاثون سنة ثم تصبح مُلكا " ، فهو حديث لا يصحّ في نظر الكاتب لأن الله قد قال عن النبي داود وهو خير من معاوية : ( وآتيناه المُلك والحكمة ) ( سورة البقرة – الآية 251 ) فجعل النبوة مُلكا !! . وهناك كاتب من طائفة مغايرة يأتي بأدلة " قاطعة " تؤيد الرأي المعاكس . وكل جانب يعتقد اعتقادا جازما بأن الحقيقة المطلقة معه .

ثم يتناول الوردي عادة "التطبير" في عاشوراء ويراجع كتاب "نظرة دامعة" الذي يؤيد عادة التطبير من قبيل المواساة لسيد الشهداء ومواساة الشهيد حسنة. ويحلّل الوردي عبارة يستقيها من الكتاب ويُرتّب جملها حسب مقتضيات القياس المنطقي على الصورة التالية :

1-مواساة الشهداء حسنة ( مقدمة كبرى )

2-التطبير مواساة للشهداء ( مقدمة صغرى )

3-إذن فالتطبير حَسَن ( نتيجة )

أي أن الكاتب استطاع أن يدافع عن عادة "التطبير" باستخدام قياس أرسطوطاليسي صحيح. ولكن الوردي يعود ليرتب جمل عبارة اقتبسها من الكتاب السابق "العواصم من القواصم" على الشكل التالي :

1-منع الفرقة بين المسلمين واجب ( مقدمة كبرى )

2-استخلاف يزيد كان من أجل منع هذه الفرقة ( مقدمة صغرى )

3-ما قام به معاوية من استخلاف يزيد كان واجبا عليه إذن ( نتيجة )

ويعلّق على ذلك بالقول :

(( والمسلم لا يستطيع أن يشك في صحة المقدمة الصغرى أو الكبرى . فالمقدمة الكبرى مستندة على أمر الله ورسوله . أما المقدمة الصغرى فهي مستندة على رأي الصحابي الكبير عبد الله بن عمر الذي هو كالنجم في هداه . وما على المسلم عندئذ إلا أن يسلم بصحة النتيجة وأنفه راغم )) (150) .

ويخلص الوردي في ختام الفصل إلى نتيجة هي أن جميع الطوائف الإسلامية هي من الناحية المنطقية طائفة واحدة ، يصح أن نسميها : "الطائفة الأرسطوطاليسية" . حيث يدّعون أنهم يسعون وراء الحقيقة المطلقة التي لا وجود لها في المنطق الحديث .

# السفسطة خير من خزعبلات أرسطو :

-------------------------------------

(ما هي السفسطة؟) : هو عنوان الفصل التاسع الذي جعل مقتربه فيه كتاب " مرتضى العسكري": (مع الدكتور الوردي) ، والذي اتهم فيه الوردي بـ "السفسطة". وفي ردّه يعلن الوردي أنه يفتخر بأن يكون سوفسطائيا لأن السفسطة عنده خير من الخزعبلات المنطقية الأرسطية . وانحيازه للسفسطة ناجم عن أنها تؤمن بالحقيقة النسبية قولاً وفعلاً . ففي حين كان أفلاطون يرى أن العدالة الاجتماعية فكرة مجردة يمكن الوصول إليها عن طريق التفكير السليم ، كان السوفسطائيون على العكس من ذلك يرون أن العدل من صنع التاريخ ونتيجة من نتائج التفاعل الاجتماعي . ومن مباديء السوفسطائيين هو قولهم : " الإنسان مقياس كل شيء " ، فوجهوا الأنظار نحو دراسة الإنسان ووضعوا الأساس للتربية النظامية . وقالوا إن الحقيقة هي تناقض ونزاع وليست مطلقة وكل إنسان يراها حسب مصالحه وشهواته ، ومن تنازع هذه الحقائق الفردية تنبعث "الحقيقة الوسطى" التي تنفع النوع الإنساني بوجه عام . ويعتقد الوردي أن هذه النظرية كان من الممكن – لو فهمها المفكرون القدماء – أن تؤدّي إلى أن يختفي جزء كبير من الظلم الذي كان يعج به التاريخ القديم والذي استمر حتى يومنا هذا ، والسبب هو أن طغاة الزمان القديم كانوا أولي عقلية أفلاطونية من حيث يشعرون أو لا يشعرون . فقد كانوا وبِعَونٍ من الوعاظ الذين يحيطون بهم يقيسون العدل وفق ما يشتهون ، ثم يظنون أن مقياسهم هذا خالد مطلق ، مستندين في ذلك إلى التخريجات " المنطقية " التي يقدمها لهم الوعّاظ . ويرى أن الشعوب الحديثة وقد أقرت رأي الأكثرية فهي قد مالت قليلا أو كثيرا نحو النظرية السوفسطائية في العدل . وفي تشكيك السوفسطائية في ديانة الأغريق يشبّه الوردي دورهم بدور "الحنفاء" في الجاهلية . ولأنهم لم يطرحوا ديانة بديلة عن الديانة القائمة فقد تيسّر الطريق لسقراط المؤمن الذي بدأ سوفسطائيا أن ينتصر عليهم. ثم جاء أفلاطون ليخطو خطوة أكبر في القضاء على السفسطة من خلال نسبة آرائه المضادة لها إلى أستاذه سقراط .

# هل حرّف أفلاطون آراء سقراط ؟ :

-------------------------------------

وهنا يطرح الوردي وجهة نظر فريدة يقول فيها أنه قد اجتمعت لديه من القرائن التاريخية ما جعله يرى أن التعاليم التي نسبها أفلاطون إلى سقراط هي ليست آراء الأخير بل هي آراء أفلاطون الخاصة به والتي تختلف تماما عن تعاليم سقراط ، وباختصار :

كان سقراط فقيرا وشعبيا في حين كان أفلاطون نبيلا وثريا ومن اصحاب العبيد ، وكان يكره العامة والديمقراطية كرها شديدا ، ويدعو إلى سحق النظام الديمقراطي القائم ، ويبشّر بحكم الأقلية من أرباب العقل " العالي " .. وأقام معبدا كرّسه لآلهات الشعر .. في حين أن سقراط كان يعلّم الناس في الأسواق ويُنكر الآلهة القديمة .

2- كان سقراط دميم الخلقة إلى أبعد الحدود .. في حين كان أفلاطون جميلا أنيقا وفوق ذلك يعتقد بأن جمال الخلقة دليل على جمال الخلق .. فماذا يقول عن سقراط الدميم  .

- كان الفلاسفة قبل سقراط منهمكين بالعالم " الأعلى " والحقائق الكونية وأهملوا العالم الأسفل . وجاء سقراط فأنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض . .. أما أفلاطون فقد أرجع الفلسفة إلى البحث في السماء مرة أخرى وابتكر " عالم المُثُل " التي سُمّيت باسمه بعد ذلك ولكنه نسبها وقتها لسقراط .

4- كان أفلاطون مصاباً بالإنحراف الجنسي ، وكان يعاشر تلاميذه معاشرة الغلمان ، ولم يتزوج طوال حياته ، في حين كان سقراط ذا زوجة وثلاثة أطفال ، وكان يتحمل بذاءة زوجته بصبر عظيم . ويضع الوردي احتمال أن يكون سقراط هو النبي "لوط" مع شيوع الشذوذ الجنسي بشكل عظيم بين الإغريقيين وبذاءة زوجة سقراط التي تشبه بذاءة زوجة لوط التي ذكرها القرآن الكريم .

أفلاطون فيثاغوري وليس سقراطي :

-------------------------------------

ويُكمل الوردي اكتشافه الفريد هذا بالقول أن أفلاطون كان فيثاغوريا أكثر منه سقراطيا . وقد حرّف مباديء سقراط لكي يجعلها أكثر ملائمة للمباديء التي كان المذهب الفيثاغوري يدعو إليها . وحين يطرح جانبا من شعائر المذهب الفيثاغوري يقدم ملاحظة مهمة ، وهي تشابه هذه المشاعر شبها عجيبا مع شعائر النحلة اليزيدية في عصرنا . ويرى أن من الممكن أن هذا المذهب قد غالى في عقائده ومشاعره بعد موت زعيمه فيثاغور كما غالت النحلة اليزيدية بعد موت شيخها "عدي بن مسافر" الأموي .

ثم يقدم الوردي القرائن التي تشير إلى وجود الترابط الفكري بين تعاليم فيثاغور وتعاليم أفلاطون :

كان فيثاغور يحتقر الواقع الذي يعيش فيه ويرى أن على الفيلسوف الحقيقي أن يتسامى على الاهتمام بهذا العالم الواطيء . ولهذا أسس مدرسة صوفية يعيش فيها التلاميذ مع أساتذتهم معاً بعيدا عن الناس . وعلى غراره أسّس أفلاطون " أكاديمية " يعيش فيها مع تلاميذه لسنوات عديدة . وقد يكون انحرافه الجنسي عاملا في هذا الاعتكاف .

كان فيثاغور أول من وضع لفظ فلسفة ، وعدّ نفسه فيلسوفا وليس حكيما لأن الحكمة لا تُضاف إلا إلى الآلهة . ومن الغريب أن أفلاطون ينسب هذا القول إلى سقراط ، وذلك نكاية بـ " السوفسطائيين " ، فكلمة " السوفسطائي " في اللغة الإغريقية معناها " الحكيم " . أما كلمة " فيلسوف " فمعناها " محب الحكمة " . وبهذا وصم أفلاطون السوفسطائيين بوصمة الغرور باعتبار أنهم سمّوا أنفسهم " حكماء " وهي سمة من سمات الآلهة .

كان فيثاغور يؤمن بعالم " المُثُل " ويرى أن المُثُل عبارة عن أعداد موجودة في العالم الآخر .. وجاء أفلاطون فسار في هذا الإتجاه خطوة أبعد حيث جعل " المُثُل " أفكاراً مطلقة ، والأفكار المطلقة تشابه الأعداد . وفي آخر حياته اعترف بأن المُثُل هي أعداد .

كان فيثاغور رياضيا بارعا وله نظرية هندسية باسمه ، وكان أفلاطون مولعا بالرياضيات حتى أنه كتب على باب أكاديميته : " لا يدخلها إلا من كان رياضيا " . (151) .

# تحطيم السوفسطائية هزيمة للفكر البشري :

--------------------------------------------

ويستنتج الوردي أن منطق أفلاطون الذي عُرف فيما بعد باسم تلميذه أرسطوطاليس هو أقرب إلى مفهوم المعادلات الرياضية منه إلى مفهوم العلاقات الاجتماعية . فنستطيع أن نستخلص من هذا أن المنطق السوفسطائي كان اجتماعيا ، بينما كان منطق أفلاطون رياضيا . وشتان بين منطق الأرقام ومنطق البشر .

والوردي بذلك يعد انتصار الأفلاطونية على السفسطائية ردّة في مسار الفكر البشري وليس تطورا :

(( قلنا ونعيد القول هنا بأن الفكر البشري قد خسر خسارة كبرى بموت السفسطة وانتصار المنطق الأفلاطوني . ولو كانت السفسطة باقية تدعو إلى منطق النسبية والتغيّر ، كما كانت تفعل قديما ، لربما رأينا المجتمع البشري على غير ما هو عليه اليوم . ونحن على أي حال لا نستطيع أن نُنكر عبقرية أفلاطون وعظمة أفكاره التي جاء بها ... ولكننا مع ذلك نقول بأن أفلاطون أساء إلى الفكر البشري أكثر مما خدمه . ... فهو قد شوّه بقلمه العبقري سمعة السفسطة وحرّض الناس على احتقارها ، وبهذا خسر الفكر البشري جانبا من الحقيقة لا يُستهان به .. هُزمت السفسطة هزيمة نكراء على يد أفلاطون وتلاميذه . وضاعت الكتب التي كتبها أصحابها عنها . ونحن لا نعرف عنها إلا ما كتب خصومها عنها . والويل للمغلوب الذي لا يُسمع له صوت . كان الفكر البشري ، ولا يزال بحاجة إلى نوعين من الآراء يتنازعان ويتفاعلان : الآراء الأفلاطونية والآراء السوفسطائية . تلك تصعد به إلى السماء وهذه تنزل به إلى الأرض ... أما القضاء على إحدى الوجهتين والإبقاء على الأخرى تصول وتجول وتحتكر المدارس العلمية لها وحدها ، فذلك أمر يدفع بالعقول نحو التحذلق والصعود فوق السحاب ، من غير أن تنزل قليلا إلى هذه الأرض التي نعيش عليها ونعاني من مشكلاتها ما نعاني )) (152) .

ومن المهم أن نذكر إن مؤرخا كبيرا للحضارة اليونانية مثل " إدوارد ويل " في كتابه : " العالم اليوناني والشرق " الصادر في عام 1972 لم يتردد في نعت إبادة تراث " العقلانية السوفسطائية " بأنها " نكبة " ، وفي تحميل السلطة التي مارسها أفلاطون وأرسطو شطرا من المسؤولية عن خمود العقل النقدي للبشرية على مدى عشرين قرنا " (153) .  

# دعوة إلى فلسفة شعبيّة عمليّة :

---------------------------------

ومن جديد فإن المداورة الطويلة والتفصيلية التي قام بها الوردي في هذا الفصل لم تكن تحليقا في أجواء نظرية عاجية كما يقول هو نفسه في وصف المفكرين المؤمنين بالمنطق الصوري ، بل هي مداورة قام بها وهو يضع نصب عينيه غاياته الأساسية التنويرية والثورية التي أشرنا إليها سابقا . فهو إذ يستنتج أن أفلاطون قد حوّل البحث النظري من الشارع إلى الأكاديمية وبهذا عزله عن الحياة الاجتماعية وجعله مغرورا يتعالى على الناس ، فإنه يؤكد مرارا على أن لا حياة لهذا المنطق في العصر الحديث الذي نزل بالعلم إلى مستوى الشعب وجعله حرفة من الحرف على منوال ما فعل السوفسطائيون قديما :

((وأصبح المفكر الحديث متواضعا يصغي إلى الناس على مختلف طبقاتهم وأذواقهم ، ويحاول أن يتفهّم السرّ الكامن وراء أعمالهم وعاداتهم . أما المفكر القديم فكان لا يمشي بين الناس إلا وهو ممسك أنفه بيده ويقول : " قبح الله هذه الأخلاق السافلة " .. وإذا بحثنا عن سبب هذا الفرق بين المفكر القديم والمفكر الحديث لوجدناه ناشئا من تحول الناس في حياتهم السياسية من نظام الاستبداد إلى نظام الديمقراطية . فقد كان المفكر القديم يعيش في كنف الطغاة ، وهو لا يستطيع أن يؤلف كتابا إلا إذا احتضنه أحد المترفين وأنعم عليه . أما في عهد الديمقراطية الحديثة فقد انعكست الآية ، حيث أصبح المؤلف يرنو ببصره نحو الرعية ، ولذا صار شعار المفكر الحديث أن ينقد الحكام ويفضحهم لكي ينال بذلك الحظوة لدى القراء )) (154) .

أي أن الوردي يريد تثبيت السمة الشعبية أولا ، والعملية ثانيا ، لأي منهج يتناول المعضلات الاجتماعية والفلسفية .

# بين معاوية وأفلاطون :

-------------------------

أما بالنسبة لغاية الوردي الكبرى الثانية المتمثلة في خلق مقتربات "عقلية " متوازنة للنظر إلى النزاع بين علي ومعاوية تبتعد عن النظرة الدينية والطائفية ، وتضعه في صورته وزمانه الطبيعيين ، فيحاول خلق حالة من التشابه بين سلوك أفلاطون وغاياته وسلوك معاوية وغاياته ، حيث يرى أن كثيرا من الباحثين يميل إلى القول بأن أفلاطون كان يسجّل في كتبه تعاليمه الخاصة به ، وينسبها إلى سقراط . فكان يكتب آراءه ويقول : قال سقراط ... وهو في هذا يشابه أبا هريرة الذي كان يعيش في كنف معاوية ويتنعم بأمواله ويقول : ( حدثني حبيبي رسول الله .. ) . ويواصل استنتاجه الجريء بالقول :

(( والظاهر أن أفلاطون أراد أن يستغل اسم سقراط في سبيل مصلحته الخاصة . وربما حاول أن يتخذ من مقتل سقراط ذريعة للقضاء على السفسطة والديمقراطية اللتين كانتا من ألدّ أعدائه . وهو إذن يذكّرنا بما فعل معاوية في تاريخ الإسلام حيث اتخذ " قميص عثمان " حجة للوصول إلى الخلافة . ومما ساعد أفلاطون على عمله ذلك هو أن سقراط لم يسجل تعاليمه في كتاب ، بل كان يبثها شفهيا بين الناس . .. ونحن نعرف كيف استطاع بعض الأتباع أن يحرّفوا تعاليم أنبيائهم رغم " الكتب المُنزلة " التي جاء بها أولئك الأنبياء . ولعل أفلاطون كان أقدر على هذا التحريف من غيره فهو كان عبقريا في ذكائه كما كان معاوية عبقريا في دهائه . وقد استطاع الإثنان الصعود إلى المنصة بقميص الشهيد، ذاك إلى منصة الفلسفة العالية ، وهذا صعد إلى الخلافة المقدسة . ومن يقدر بعد ذلك أن يجادلهما في أي شيء أو يرد عليهما )) (155) .

ويواصل الوردي تأسيس ركائز التشابه بين سلوك أفلاطون في علاقته بسقراط في تصوير الأخير كعدو للسفسطة ، وسلوك معاوية في علاقته بعثمان وتصويره له كعدو لعلي بن أبي طالب ، فيقول :

(( ومن مهازل القدر أن نجد أفلاطون يصور لنا سقراط كأنه العدو الأكبر للسفسطة ، ثم نجد معاوية بعد هذا يصوّر لنا عثمان بأنه خصم لعلي بن أبي طالب وعدوّ لمباديء الثورة التي اتضحت في عهده . وادّعى أفلاطون بأنه وليّ سقراط والسائر على هداه . بينما ادعى معاوية بأنه ولي عثمان والآخذ بثأره . والمظنون أن كليهما كانا كاذبين فيما ادعيا به )) (156).