صالون الدكتور نبيل يناقش قضية الانتحال

صالون الدكتور نبيل

يناقش قضية الانتحال

د. كمال أحمد غنيم

[email protected]

كتب كمال غنيم من الجامعة الإسلامية بغزة:

استضاف الأستاذ الدكتور نبيل أبو على في صالونه في قاعة الأمناء  في الجامعة الإسلامية بغزة يوم الاثنين  5 يناير 2015 الساعة الحادية عشرة صباحاً جمعاً من الأساتذة والمختصين في اللغة العربية وآدابها، وافتتح الأستاذ الدكتور نبيل أبو علي الصالون بالترحيب بالحاضرين، وأعلن عن شروعه في عقد الصالون مطلع كل شهر، وقدّم قضية الانتحال برؤية موجزة استعرضت مفاصلها وتداعياتها، وشارك الحاضرون في طرح آرائهم تجاه قضية من أبرز القضايا التي اشتعلت حولها الخلافات في بدايات القرن الماضي.

قال أ.د. نبيل أبو علي:

قضية الانتحال ليست وليدة اليوم فقد أشار لها ابن سلام الجمحي (139هـ - 232هـ) في كتابه (طبقات فحول الشعراء) في حقبة التدوين، وذلك بحد ذاته تأكيد على يقظة العلماء العرب في تدوين الشعر العربي وحرصهم على تنقيته من الدخيل عليه، فما كان عمله إلا من أجل تحقيق الشعر العربي، فقد استبعد شعر عاد وثمود لأنه ضعيف، وغير متصل، ذكره أصحاب القصص والسير، قال: "وكان ممن هجّن الشعر وأفسده وحمل كل غُثاء، محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها، ويقول لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله"، واستدل بأدلة نقلية منها قوله تعالى: "وأنه أهلك عاد وثمود فما أبقى"، وقوله تعالى: "فهل ترى لهم من باقية"، وأدلة منطقية منها أنه لم تكن العربية في عهد عاد وثمود فإسماعيل عليه السلام أول من تكلم العربية. وقال أبو عمرو بن العلاء: "ما لسان حمير بلساننا"، كما أن الشعر العربي في الجاهلية ينتسب إلى مائة أو مائتي عام ومن الحجج المنطقية في ذلك أن ابنة عنترة تزوجت ابن عمها في فترة غزوة حنين، واستشهد فيها، مما يؤكد أن عنترة لم يكن بعيداً عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اجتهد ابن سلام  في تمييز المنحول من غيره. وأشار إلى أسباب الانتحال: وأهمها العصبية القبلية، والرواة المتزيدون الوضاعون، الذين احترفوا بيع الشعر بدينار ذهب.

وقد أثار قضية الانتحال في العصر الحديث نولدكه الذي عدّ الشعر العربي الجاهلي كله منحولا. أما مرجليوت فقد حاول أن يطعن فيه من خلال الزعم  بأنه لا يمثل حياة الجاهلية الدينية، ولا اللغوية، فلغة قريش تختلف عن لغة اليمن. مع أن الشعر العربي ومن خلال الدراسات العديدة يمثل حياة العرب الاجتماعية والدينية والاقتصادية ويمثل تفاوت المستويات واختلاف البيئات وكتاب "الأصنام" لابن الكلبي عبّر عن حضور الدين في شغرهم بشكل كبير.

 أما العرب المحدثون فقد أقر مصطفى صادق الرافعي بالانتحال لكن مع تأكيده على الصحيح المروي، بينما ردد طه حسين أقوال المستشرقين  في كتابه "في الشعر الجاهلي" عام 1927، الذي أصبح فيما بعد "في الأدب الجاهلي"، وزعم أن معظم الشعر الجاهلي منحول لا يمثل الحياة الدينية، ولا يمثل الحياة السياسية، ولا يمثل الحياة الاقتصادية، متناسيا ظواهر شعرية مثل  "شعر الصعاليك".

أ.د. وليد محمد عامر:

أثمن فكرة الصالون الأدبي التي تتحدى الحصار وتدون التاريخ وتسجل المعاناة، والشعر سجل الأمة نقرأ فيه تاريخ الإسلام، وتاريخ نضال الشعب، وتاريخ الأمة عبر مراحلها، وتسعى كلية الآداب إلى تعزيز ذلك المشهد من خلال أنشطتها المتمثلة في:  المؤتمرات، والأيام الدراسية، والندوات، وهذا اللقاء يأتي تتويجا لذلك النشاط، وهو لقاء زاخر لأنه مع عالم كبير هو الأستاذ الدكتور نبيل أبو علي.

أ.د. محمود العامودي:

لا بد من التأكيد على أن المادة المروية الصحيحة لا تضيق عن الحصر. وأن ما دخل دائرة الشك قليل جداً لا يذكر. وأن ذكر العلماء القدماء ظاهرة الانتحال يحسب لهم لا  عليهم، وقد قال الحطيئة: ويل للشعر من الرواة السوء.

أما المستشرقون فإنهم أهل مكر لأنهم حاولوا طعن التراث على كافة الأصعدة: الشعر والقرآن الكريم والحديث النبوي! حيث طعن مرجليوث وطه حسين في ثلاثة أشياء: الشعر الجاهلي منحول (لأنه يفسر القرآن)، طعنوا في ابن عباس (الذي يُعدّ منبع أهل التفسير)، وطعنوا في أبو هريرة (الذي يعد منبع من أهم وأغزر منابع الحديث).

أ.د. سعيد الفيومي:

طه حسين حاول خلخلة الفكر. وقصائد عنترة وامرؤ القيس تؤكد على الحضور القوي للشعر وتلك القوة تنبئ عن إرهاصات مهدت لها. والشعر يمثل الإطار المعرفي، لذلك كان الهجوم عليه. وقد عاش العربة في الجاهلية حياة اقتصادية واسعة فاعلة حية، وذلك كفيل بخلق لغة عربية مشتركة، وفيه رد على القول بأن شعر العرب لا يمثل العرب قديماً وحديثاً. وتحليل التراكيب يؤكد على انتماء الشعر إلى العصر الجاهلي.

ووجود شعر منحول أمر لا شك فيه مع  أمة أمية ليست قارئة، لكن الحكم بالمجمل على الشعر الجاهلي حكم غير منطقي ولا بد من البحث عن الأسباب التي دفعت إلى ذلك الحكم.

د. خضر أبو جحجوح:

يقول طه حسين: ""للتوراة والإنجيل أن يحدثا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدث، لكن لا يمنع ذلك كونهما أسطورة". وهو بذلك يفصح عن نية خبيث، ذلك أنه يمثل الجمعية الملكية الآسيوية التي نشر فيها مرجليوث مقاله.

ولا ينبغي أن نغفل عن أن الشعر المنتحل لا بد له من مثال يُنحل على أساسه. وتزوير الكلام (ما لسان حمير بلساننا وما لغتهم بلغتنا) هذا النحل هو النحل الحقيقي، لأن اللغة لا تختلف اختلافا جذرياً وإنما اختلاف لهجة.

د. محمد البع:

المقصود من الزعم بالانتحال في جملة الشعر الجاهلي هو نزع سلطة اللغة العربية ومصداقيتها. والانتحال حلقة من حلقات طعن اللغة العربية. وهناك ردود علمية حاسمة ردت على طه حسين واسقطت دعواته. والتهجم على الدين لم يقتصر على الشعر وإنما على القرآن والسنة والتهجم السياسي والعسكري عبر الحروب الصليبية القديمة والمعاصرة! الهجوم لم يقتصر على اللغة ولا على الشعر.

د. عاطف أبو حمادة:

معلومة للتاريخ في حق الدكتور نبيل أبو علي: "المؤسسة عادة ما تكون رافعة للرجال لكن من خلال شريط الذكريات أقول إن الدكتور نبيل أبو علي رافعة للمؤسسات: الجامعة الإسلامية، واتحاد الكتاب، والمؤسسات المجتمعية.  ونحن نأمل في خير كثير من خلال افتتاحه لهذا الصالون.

أما عن الانتحال فهناك معلومة غير متداولة كثيرا تقوم على كون الرواة نوعين: رواية الشعر عن الشاعر ذاته وتلك مدارس، ورواة تلمذوا على الصحف، وهؤلاء مطعون في أمانتهم على مدار المراحل.

كما أن العرب كانوا يعلمون أبناءهم الشعر بطريقة التنعيم، قال المغيرة لقريش: ماذا ستقولون للقادمين عن محمد في موسم الحج؟ كاهن أم شاعر أم مجنون؟ فالعرب تعرف الشعر وبحوره!

والشعر حاضر في حياتهم اليومية فكل وفد من الوفود على النبي له شاعر يقابله الرسول صلى الله عليه وسلم بشاعر، وخطيب يقابله بخطيب.

وقد ابن سلام للرواية انتبه ومن باب الحرص أثار قضية الانتحال فيمن أخذوا عن الصحف، أما الرواية الشفوية فليست مأخذاً... جدي كان لا يقرأ ولا يكتب لكنه كان يحفظ السيرة الهلالية وسيرة عنترة وغيرها... فهؤلاء يحفظون ويتناقلون فما الغريب في اعتماد الرواية؟

وابن سلام جاء في فترة صراع بين الحضارات، الشعوبية ونقمتها على العرب ومحاولة إثبات أنهم متخلفين، لكنهم في تلك المرحلة لم يستطيعوا الطعن في الشعر بل كانوا يحسدونهم.  لذلك اختاروا إثارة الشك بعد كل تلك المراحل.

والأسلوب هو الرجل... كل قصيدة بعد التمحيص ترسم شخصية الشاعر، والمنتحل بهذه الطريقة لا يصمد ويمكن اكتشافه بسهولة. وبعض الانتحال لا يمكن أن يطعن في النص بكامله، بعض الأبيات لطرفة منحولة عليه.

أ.د. نبيل أبو علي:

(ابن سلام، والمفضل الضبي، والأصمعي) ضبطوا الشعر الجاهلي وأظهروا منحوله.

د. باسم البابلي:

هناك تقارب في  وجهات النظر مع التباين في ذكر الأدلة، وهناك تساؤلات: لماذا أبرز هذه القضية؟ والظاهرة: ما أثرها على الإسلام؟ الجاحظ: أثار القضية، واتهمه محمود شاكر أنه أخذ القضية من ابن سلام دون تشرب لها. ما الهدف في الطعن بالإسلام؟

إن التجارة صنعت لغة موحدة: التبادل الثقافي من خلال الاجتماع في مكة كمركز ديني واقتصادي. وقوله تعالى: "وأنه أهلك عاداً الأولى وما أبقى" ليس بالضرورة دليلاً على فناء كل تراثهم، فالذين جاءوا بعدهم أو من بقي من الصالحين فيهم قاموا بإخبار العرب عن طريق الرواية والتناقل. كما أن اللغة قبل إسماعيل أو بعد إسماعيل عليه السلام رأي علمي فيه نظر وليس قاطعاً.  والسؤال المهم: هل حُصر الشعر المطعون فيه أم لم يحصر؟

أ.د. نبيل أبو علي:

ابن سلام قال بالانتحال ليمحص المادة التي سيقيم عليها كتابه. وهو تحدث عن شعر الفحول لا غيرهم، ذكر الفحول وأهمل غيرهم. واجتهد في وضع المقاييس ولكن خالف بعضها... الكثرة بعد الجودة طرأت له.

أد. كمال، وأ.د. محمود:

ليس بالضرورة أن يكون كل من تركهم ابن سلام غير فحل.

ا.د. نبيل أبو علي:

القواعد النحوية كانت سبباً في وضع بعض الأشعار من ذلك الشواهد النحوية، بيت شاهد على جمع (من)، نُسب لأبي النجم العجيلي:

أتوا ناري فقلت منون أنتم؟ *** فقالوا الجن قلت عموا ظلاما

استشهد به سيبويه ولم ينسبه، وهو لشمر بن الحارث الضبي، وقيل: لتأبط شرا

أ.د. كمال غنيم:

لا بدّ من رؤية مؤسسية متكاملة تهتم بنشر موسوعة الشعر الجاهلي المحقق والأكثر صحة بعنوان واضح "الشعر العربي الصحيح" يندرج فيها ما رواه ابن سلام والمفضل الضبي والأصمعي وغيرهم، ذلك أن اجتهاد الأفراد والباحثين غير كافٍ ويبقى متفرقاٌ.

وحال الشعر المنحول كحال الحديث الموضوع مع الفارق، لذلك فلا مانع من وجود "علم جرح وتعديل" ومعايير يُبنى عليها اعتماد الصحيح من المنحول بين يدي العمل المؤسسي الذي ذكرته في النقطة الأولى.

أما عن الطعن في الشعر العربي من خلال وروده بلغة قريش أو لهجتها، فذلك مردود عليه بواقعنا الذي نحياه، ذلك أن العرب اعتمدوا لغة قريش كما يعتمد شعراؤنا الفصحى السهلة على الرغم من لهجات الشعوب العربية المختلفة، فسيادة لغة قريش تشبه سيادة العربية الفصحى الحديثة غلى وسائل الإعلام على الرغم من اختلاف العاميات العربية المعاصرة التي قد تصل لدى البعض إلى ما يشبه اللغة الأخرى البعيدة، فلغة العرب الفصحى اليوم في المغرب والمشرق هي لغة مشتركة على الرغم من وجود اللهجات.

ولا بد من الانتباه أنه ثبت لدينا في عصرنا الشعر الصحيح والمنحول، ذلك أن كل ما ورد في القرون القديمة هو تراث قديم أصيل يمثل مرحلة سابقة، وله قيمته العلمية والجمالية بغض النظر عن قائله سواء أكان منسوباً للجاهلية أم إلى صدر الإسلام!

وأنا أقول: إن الحراك الفكري الذي استهدف التراث العربي والإسلامي في بدايات النهضة زمن مرجليوث وطه حسين قد تجاوزه الزمن، والأمة فهمت قرآنها وعرفت ثقافتها لكنها ما زالت تحتاج إلى جرعات عملية تسهم في تطبيق الأفكار على الأرض وفي الواقع حتى تنهض من كبوتها، فلا خوف من الانتحال ولا من غيره على ثقافتنا لكن الخوف يكمن في تقاعسنا وعدم إمساكنا بزمام الحضارة والمبادرة إلى صناعة الحياة من جديد!

أ.د. نبيل أبو على:

أشكركم على هذا الحضور الطيب والتفاعل الجميل، ويمكننا أن نعتبر العمل المؤسسي الذي أشار إليه كمال توصية تخلص إليها هذه الجلسة الطيبة.