دراسةٌ نقدِيَّةٌ لِكتابِ " جلباب العبوديَّة "

دراسةٌ نقدِيَّةٌ لِكتابِ " جلباب العبوديَّة "

للكاتبةِ الأديبة "دوريس خوري"

حاتم جوعيه - الجليل

[email protected]

مقدَّمة ٌ : الكاتبة ُ والأديبة ُ الشَّاعرة ُ " دوريس خوري " تعتبرُ من الكتابِ والأدباءِ المُبدعين واللامعين على الصَّعيد المحلي .

أثبتت حُضورَها الثقافي والأدبي المُمَيَّز وتركتْ بصَماتها الإبداعيَّة َ في كلِّ جهة ٍ وصوب في فترة ٍ زمنيَّة ٍ قصيرة ٍ نسبيًّا ...

 تمتازُ كتاباتها ( الشِّعريَّة ُ والنثريَّة ُ ) بالرَّشاقة ِ والعذوبة ِ والصَّدق ِ... وبنفحة ٍ صوفيَّة ٍ أحيانا ً وبأريج ٍ مُميَّز ٍ فيه شيىءٌ من روح ِ جبران وفكر وفلسفة ِ " فريدريك نيتشه " ومثاليَّات الفلاسفة ِ اليونانيين كأفلاطون وسقراط وأرسطوطاليس ، وفيهِ من رومانسيَّةِ وشفافيَّةِ وسحر ِ شعراء المَهْجَر ِاللبنانيين . ونجدُ في كتاباتِها بُعدًا إنسانيًّا ووطنيًّا وفلسفيًّا . وممَّا يُميِّزُها، في كتاباتها ، عن معظم ِ الأدب ِ المحلي النزعة والصَّبغة الإنسانيَّة والرُّومانسيَّة الحالمة والرُّؤيا الفلسفيَّة الشَّاملة للحياةِ والصِّدق في التعابير ، وأسلوبها السَّاحر والعذب والرَّشيق الذي تمتازُ بهِ ، وقد يُذكرنا بعمالقةِ وجهابذةِ الإبداع اللبنانيين في الشِّعر ِ والأدب ِ كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم ... ولا نستغربُ هذا من كاتِبتِنا لأن جذورَها لبنانيَّة فهي من أصل ٍ لبنانيٍّ تزوَّجَت في البلاد وتسكنُ الآن في قرية " البقيعة " الجليليَّة مع زوجها وأولادها . ودوريسُ في كتاباتِهَا تبتعدُ عن الشَّعاراتِ الرَّنانةِ والصَّخبِ والمُتاجرةِ بالوطنيَّةِ والتصنع ِ والسِّطحيَّةِ المُباشرة ، بل نجدُ في معظم ِ ما تكتبُ الأسلوبَ الحِواري الهادىء والمنطقي والحافل والمُترَع بالمعاني المُبَطنة والعميقة والأهداف السَّامية . وكتابُها هذا الذي بين أيدينا " جلباب العبوديَّة " هو قفزة ٌ نوعيَّة ٌ إبداعيَّة ٌ جديدة وإطلالة ٌ مُشرقة ٌ مُمَيَّزة ٌ في فردوس ِ الأدَ ب ِ الإنساني المحلي يُضيفُ إلى أدبنا المحلي حُلّة ً رائعة ً وباقة ً جديدة ً ساحرة ً فوَّاحَة ً تغذي الفكرَ وُتنعِشُ الروحَ والقلبَ والوجدان .

مدخل : -

 لم يكتبْ عن هذا المُؤلف ( الكتاب ) بعدَ صدورهِ أيُّ ناقدٍ وكاتب ٍ محليٍّ دراسة ً تحليليَّة ً مُستفيضة ً مُطوَّلة ً ، ربَّما أنَّ نقادنا المحليِّين اعتادوا على النهج ِ الكتابي المُقتضب والسطحي ( استعراض ) ... وإمَّا لكونِهم لم يفهمُوا ما وراءِ السُّطور لأنَّ هذا الكتابَ ليسَ لكلِّ قارىءٍ كما هو واضحٌ ، بل لنخبة ٍ من المُثقفين المُمَيَّزين ذوي الإطلاع ِ والآفاق ِ والأبعاد الواسعة .

 يظهرُ في هذا الكتابِ " جلباب العبوديَّة " تأثرُ الكاتبة ُ " دوريس خوري " بجبران خليل جبران ، خاصَّة ً في كتابه ِ " النبيّ " حيثُ توظف ُ كاتبتنا العديدَ من الشَّخصيَّاتِ الإلهيَّة الأسطوريَّة ، مثل : " النبي مان " وهو الشَّخصيَّة ُ المركزَّة ُ الوهميَّة ُ التي تتمنى كاتبتنا أن يأتي إلى العالم ِ ( المُخلص الذي يخلصنا من عذابنا وقيودنا ) ... وهذا هو حلمُ الكثيرين من الإصلاحيَّين والمفكرين المبدئيذِين المثاليِّين في العالم ِ . وقد أشارَ بعضُ النقادِ أنَّ الكاتبة َ تشبهُ إلى حدٍّ ما شخصيَّة " جبران " ... وعلى حدِّ قولها هل يُعقلُ أنَّ تفكيرَ امرأةٍ يُشبهُ تفكيرَ رجل ٍ مثل جبران خليل جبران . وَمنْ يتمعَّنُ في الكتاب يجدُها تغوصُ في عالم ِ الفكر ِ الإنساني ، وخاصَّة ً مع المفكرين الغربيِّين ويَلمَسُ تعلقهَا بتراثِها الأدبي والديني الشَّرقي المَحض المُترع بالروحانيَّات والبعيد عن الماديَّات والفكر الإلحادي ، وخاصَّة ً في حوارها مع " روميَّة " .. أي مدينة روما رمز الستعمار والإحتلال والتسلط .

 ... هذا ويطغى على معظم فصول ومواد الكتاب الأسلوبُ الحواري بين الأبطال ، إضافة ً إلى الأسلوب السَّردي التقريري في بعض ِ أقسامهِ والقريب بعض الشيىء للتقارير ِوالريبورتاجات الصَّحفيَّة ممَّا يُعطي فرصة ً وذريعة ً لبعض ِ النويقدين ومُدَّعي الأدب والنقد الحاسدين بالتَّهجُّم ِ على الكتابِ وصاحبتهِ ومحاولة التقليل من أهميَّتهِ ومستواه .

 ومن الحواريَّات الهامَّةِ عند كاتبتنا : الحوار الذي دارَ بين "عنات " وشخصيَّة " حورا " ومن ميزاتِ وفحوى هذا الحوار والأشياء التي نستنتجُها وماذا كانت ترمزُ وتهدفُ الشَّاعرة ُ والكاتبة ُ إليهِ مثل :

1 ) دافعت عن التراثِ الديني والأدبي والسِّياسي والفكري الشَّرقي الرُّوحاني وجادَلتْ روميَّة ( روما ) رمز الفكر التسلطي والمادي .

2 ) ووظفت الكاتبة ُ الإلهة َ " حورا " لأهدافٍ وآراءٍ عديدة . ونستشِفُّ ونلمسُ أيضًا في هذا الكتاب " جلباب العبوديَّة " تأثر الكاتبة الكبير بكتاب " هكذا تكلمَ زاردشت " للفيلسوف الألماني " فريدريك نيتشه " وفيهِ كانَ توظيفُ الآلهة ِ ، مثل : الإله " زاراد شت أو زارا " للوصول ِ إلى الكثير ِ من الأمور والمعاني والأهدافِ ولدعم ِ وتثبيتِ العديدِ من الآراء والنظريَّات الفلسفَّة والطروحات الإجتماعيَّة والسُّلوكيَّة .... وكم ذكرتُ سابقا ً لم يكتبْ عن هذا الكتاب ، كما يجبُ ، دراسة ً مُستفيضة ً شاملة وواسعة أيُّ كاتبٍ وناقدٍ محليٍّ .

 إنَّ لغة َ الكاتبةِ المُبدعة " دوريس خوري " وأسلوبها يختلفُ عن لغة ِ وأسلوبِ جبران خليل جبران رغم تأثرها بكتاباتِ جبران ... والشَّبَهُ المُمَيَّزُ بينهما هو توظيف أسماء وشخصيَّات الآلهة ، وفي لجوئِها إلى الطبيعة ِ والإرتماء بين أحضانِها والتصوُّف في محرابها والتغني بسحرها وجمالِهَا .

... ومن حقِّ كلِّ كاتب ٍ أن يوظفَ أيتها شخصيَّة يُريدُها ، في كتاباتهِ ، إن كانت تاريخيَّة أو ميثولوجيَّة ً للوصول ِ للأهدافِ المنشودة ِ فكريًّا وآيديلوجيًّا واجتماعيًّا . ولقد ذكرَتْ الكاتبة ُ " شهيره عباد " ، سابقا ً ، في مقال ٍ لها عن كتابِ " جلباب العبوديَّة " لدوريس : إن هذا هو الأسلوب الدوريسي الجديد - ( وأنا أموت وأكثر نفس العولمة ) .

 فأسلوبُ دوريس يختلفُ كليًّا عن جميع ما يكتبهُ الأدباءُ والشُّعراءُ المحليُّون وفي العالم العربي قاطبة ً لعدَّةِ جهاتٍ ومحطاتٍ في هذا الكتاب ، ومن خلال الحوار الدائر بين شخصيَّةِ " حورا " و " عنات " ، واستحضار روح الوطن وهو شاهد على أقوالها ( أقوال الكاتبة شهيره ) فمثلا ً : - قالت " حورا " : ( الوطن ليس فقط مكانا ً للسكن ولا هو أسلاكٌ شائكة وحدود ، بل هو الوطن الأرضي الواسع ) .... وهنا نستشفُّ الحِسَّ الإنساني والأممي في كتابات دوريس ، ومفادُ وفحوى كتاباتها بشكل ٍ عام : إنَّ الإنسانَ هو بسلوكهِ وقِيَمِهِ ومبادئِه السَّامية وليس من حيث كونه لأيَّة ِ مجموعة ٍ أو فئة ٍ ينتمي ... والإنسان ُ أينما يتوجَّهُ وأيُّ بلاد ٍ يحلُّ فيها تكونُ وَطنهُ ... وليسَ الوطنُ الحقيقي هو حفنة تراب ومكانا ً للإقامةِ ( إنهُ شعورٌ وفكرٌ أمميٌّ شاملٌ ) ... ولهذا نجدُ معظمَ الأنبياء ِ قد هاجرُوا من أوطانِهم وَبَثوُّا ونشَرُوا تعاليمَهم ورسالاتهم السَّاميَّة والإنسانيَّة خارجَ أوطانهم ... في بلادٍ أخرى ... ونتذكرُ هنا قولَ السّيِّدِ المسيح : " لا كرامة لنبيٍّ في وطنهِ " .

 والجديرُ بالذكر ِ ان " دوريس " درَستْ موضوعَ الفلسقة واللاهوت " فلسفة الديانات " دراسة ً أكاديميَّة وهي إنسانة ٌ مؤمنة ٌ باللهِ جلَّ جلاله وبالديانات ِ والكتب ِ السَّماويَّة وبالأنبياءِ والرسل المبعوثين والمرسلين من قبل ِ الخالق ِ لهداية ِ البشر وتنويرهم ليسيروا في الطريق ِالصَّحيح ِ القويم .

 وأكثرُ أمر ٍ وموضوع ٍ ركزتْ عليه دوريسُ هو فتور الأنظمة الدينيَّة والسياسية ، وصورة ُ غلاف ِ الكتاب تعبِّرُ عن ذلك . إنَّ الفكرَ والقانونَ الديني جاءَ عندما كانت البشريَّة ُ في مرحلة تأخر ٍ وتخلف ٍ وانحطاط ٍ خُلقي ، والدينُ كانَ هو السَّبيلَ الوحيدَ الذي ضبَط َ ومسَكَ المجتمعَ ونظمَهُ ومنعَ الفوضَى الإجتماعيَّة والسُّلوكيَّة والتسيُّبَ . ولكن علينا أن ننظرَ بعين الإعتبار أن المجتمعات البشريَّة في تطوُّر ٍ كبير ٍ وسريع ٍ . فمثلا ً : الشيىءُ الذي كانَ يصلحُ قبلَ آلافِ السنين ربَّما لايصلحُ بحذافيرهِ الآن للإنسان العصري . ولهذا : يتطلبُ إعادة النظر إليه ِ من منطلق ٍ إنسانيٍّ تقدُّميٍّ والعمل على تطوير بعض القوانين والأسس والآيديلوجيَّات لتلائِمَ الوضعَ الحالي والتطوُّرَ البشري .

 فمثلا ً قديما ً كان السَّارقُ تقطعُ يدُهُ جزاءً على جرمهِ وخطيئتهِ ( القيم بالسِّرقة ) ، والزاني والزانية ُ كانا يُرجمان ِ حتى الموت ... وأمَّا في يومنا هذا فنجدُ أن مثل هذه القوانين غير منطقيَّة ومعقولة ، ويمكنُ أن يُعاقبَ الإنسانُ على جُرمِهِ وخطيئتهِ بعقابٍ أقلّ حدَّة ً وعُنفا ً حيث يُرْدَعُ ويُمنعُ كلُّ خاطىءٍ ومرتكب الإثم والجرم عن متابعة ِ ممارستهِ للخطيئةِ بما يتلاءمَ مع مستوى فكر وروح هذا العصر .

 ولهذا تتشوَّقُ وتتلهَّفُ الإلهة ُ " حورا " - على لسان ِ الكاتية ِ دوريس إلى مَجيىءِ مُصلح ٍ إجتماعيٍّ ونبيٍّ مُنتظر موعود يُلخِّصُ كلَّ رسالاتِ الانبياءِ والرُّسلِ السابقين القدامى ... ولكن تعاليمها تصيغها بأسلوبٍ وبنكهة ٍ جديدة ، وجاءتْ مُترعة ً بحُلة ٍ قشيبة ٍ تتلاءمُ مع روح ِ العصر ِ الحديث .

 ونستطيعُ أن نقولَ : لولا اهميَّة َ كتابات دوريس لما كتبَ عنها هكذا العديدُ من الصُّحفِ والمجلات ووسائل ووسائل الإعلام المحليَّة - ولما كان هذا الحوارُ القائِمُ والدائمُ والمستمرُّ بين الحركةِ الأدبيَّةِ والثقافيَّةِ ( خاصَّة ً بعد صدور هذا الكتاب الذي نحن في صددِه وكتابها الأخير ) .

 وأنا أحبِّذ ُ وأتمنى من كلِّ شخص ٍ يدخلُ مجالَ النقد الأدبي أن يُدَققَ ويتمعَّنَ طويلا ً في كلِّ كتابٍ يقرأهُ وحتى لو أعادَ قراءَتهُ عدَّة َ مرَّات ٍ قبلَ الكتابة ِ عنه ، وخاصَّة ً إذا كان كتابا ً مثل كتاب ِ دوريس خوري لكي يفهمَ ما تقصدُهُ وترمزهُ في كتاباتِها .

 لقد أصدرَتْ دوريسُ حتى الآن خمسة كتب وهي :

1 ) عودة الآلهة . 2) جلباب العبوديَّة . 3 ) نسائم لبنانيَّة 4) أجنحة الغد . 5 ) مسرحيَّة اشتقتلك يا بلدنا. 6) عانقتني شمسُها .

 تناولتْ دوريسُ في كتابها " جلباب العبوديَّة " عدَّة َ جوانب وقضايا ، منها : 1) إنسانيَّة . 2 ) تشريعيَّة ولاهوتيَّة .

3 ) فلسفيَّة . 4 ) إنسانيَّة .

ومَفادُ الكتاب وفحواهُ العدالة ُ ُ الكاملة ُ والمثاليَّة ُ... فهي تحلمُ بجمهوريَّة ٍ كجمهوريَّة ِ أفلاطون مثاليَّة لتعيشَ فيها ، في دولة ٍ مثاليَّة ٍ يسودُها السَّلام والمحبَّة والإخاء والتعاون والتعايش المشترك ، وهي تطالِبُ بتجديد ِ طابَع ِ وروح ِ الوطن المتحنط ِ فكريًّا وآيديلوجيًّا لِيُوَاكِبَ روحَ العصر ِ والمَدِّ الثقافي والعلمي والتيكنيلوجي الكبير .

 وعن جهاد النفس ِ فالكاتبة دوريس طالبَتْ (( من خلال الحوار الدائر ِ بين شخصيَّات ِ الكتاب )) بالترفع ِ عن النزوات والشَّهوات الجسديَّة وأن يكونَ الإنسانُ حضاريًّا في سلوكِه ِ وتصرُّفاتهِ الغرائزيَّة والإجتماعيَّة فتكون العلاقة ُ بين الأنثى والذكر علاقة َ احترام ٍ ومحبَّة ٍ واتفاق ٍ في الأسس والأمور ِ الهامَّة الفكريَّة وغيرها ... وليسَ فقط علاقة من أجل ِ الجنس بشكل ٍ حيوانيٍّ بهيميٍّ ومجرَّدة من المحبَّةِ والمشاعر ِالعاطفيَّة ِ كالكثير ِ من العلاقات ِ الزوجيَّة في المجتمع العربي المكبوت .

 والكاتبة ُ دوريس تتحمَّلُ بدورها الكثيرَ من الإنتقادات اللاذعة ِ وغير ِ العادلة ِ والمنطقيَّة أحيانا ً بسسبِ رأيِها الجريءِ وتصريحاتِها الصَّادقةِ التي تجَسِّدُ وتعكِسُ مشاكلَ وهمومَ وقضايا المجتمع ِ العربي ومآِسيهِ وعُقدَه وسلبيَّاته وإيجابيَّاته في كلِّ مكان ٍ وزمان ٍ ( محليًّا وخارجيًّا ).