الشاعر والحضور في الذات وفي الوجود

الشاعر والحضور في الذات وفي الوجود

محمد فريد الرياحي

[email protected]

عندما تنعدم الفاعلية، تفقد الحياة معناها، وتصبح أكثر التصاقا بالموت الذي لا يميت مرة واحدة، ولكنه الموت البطيء الذي يستنزف طاقات الإنسان، ويتركه موزعا بين الإيجاب والسلب، لا إلى هذا ولا إلى ذاك. وفي هذا التوزع، تكمن مأساة الإنسان الذي لا يملك إلا اختيارا واحدا في لحظة واحدة. أما أن يجهل هذا الإنسان اختياره بجهله لذاته، فتلك هي مشكلته في حياته. إنه من هنا يكون حضور الشاعر ضروريا لإيجاد حضور إنساني كامل يروم بعث الحياة عن طريق إثبات الذوات الإنسانية في المعترك الوجودي، إذ لا سبيل إلى تغيير العالم من غير تغيير الإنسان، بتمكينه من مصيره، وتبصرته بدوره في الوجود. والإنسان يجد في الشعر الحق ذاته وحقيقته، وليس الشعر في هذه الحال خاضعا لتوجيهات فكرية فوقية، ولكنه يعرف نفسه بنفسه بمعزل عن كل وصاية كيف ما كان مصدرها، لأنه يعي حريته. والحضور الشعري الذي هو أصل الحضور الإنساني، لا يمكن أن يكون بدون حرية تصدر عن الذات، وتخلق شروط نموها، وامتدادها بنفسها. ولهذا كان الرجوع إلى هذه الذات ضروريا، عندما تضيع الرؤى في مجاهل الظلام. إن هذه الذات حقيقة وجودية، وهي التي تملي شروطها الفاعلة على العالم، والشاعر، من هنا، حاضر في ذاته، وحضوره في الذات يمكنه من الحضور في الوجود، وحضوره في الوجود يمنحه القدرة على اختراق الحدود، وتجاوز السدود، من أجل التوحد بسر العالم. ومن يتوحد بسر العالم يعرف أنه المبتدأ والمنتهى. لهذا كان الشعر الحق منذ البداية، وفي هذا مات الشعراء بعد أن أفنوا ذواتهم في سبيل الاقتراب من وجهتهم، والفناء فيها، وكان موتهم بعثا للإنسانية. ليس الشعر خاصا بأمة من الأمم، وقفا عليها دون غيرها. إنما الشعر لغة الإنسان الفنان، في كل مكان وزمان. وليس الشعر خاضعا لتجارب قومية أو محلية، ولكنه موصول في سيرورته وصيرورته بالتجارب الكلية. وهو وإن انطلق من تجربة قومية أو محلية، فإنه ينظر إليها من الزاوية الإنسانية، لأنها في عرفه حقيقة الإنسان، وجوهر طبيعته. ومن هنا فالشعر في حضوره لا يهتم إلا بما هو كلي وشمولي. أليس في هذا الاهتمام ما يؤكد ارتباطه الوثيق بالفلسفة.؟ أليست الحقيقة الوجودية حقيقة كلية لا تقبل التجزيء والتبعيض.؟ أليس الشاعر بقادر على معرفة هذه الحقيقة بحضوره الشعري. كان المعري حاضرا حضورا شعريا عندما تنبه إلى المأساة الوجودية، فاستوت في ملته الحياة العبثية والموت المجاني، وكان العجب من الذي يرغب في الازدياد. وكان المتنبي حاضرا حضورا شعريا، إذ جعل من نفسه مكمن الإعجاب، ومصدر التأثير، وموطن الجاذبية، كل الأشياء ترتد إليه، وتفنى فيه، وتصدر عنه، وتأخذ منه امتدادها، وتمددها، لأنها تعرفه، ولأنه يعرفها. وهذا النوع من الاتحاد والتوحد بين الشاعر والعالم، هو الذي يعطي الأشياء بعدها الروحي، والفكري والشعري، ويمكنها من الوعي الوجودي.تصبح هذه الأشياء ناطقة حية، ويصبح الشاعر بعضا منها، يحس بها إحساسا حادا وعميقا. إنه بين المعري والمتنبي خلاف واختلاف في الموقف الشعري. المعري فقد إحساسه بهذه الأشياء، واحتد عنده الشعور بالذات، بمعزل عن العالم. والمتنبي تعمق لديه الاتصال بالحياة وبالذات في آن. والإحساس بالذات وبالعالم بطريقة قوية وعميقة، هو أوج الحضور الشعري عند الشاعر الذي يكره حياة البعد الواحد، ويشغل نفسه بالسؤال عن مصيره، وعن صيرورته، وعن هويته. أن يكون الشاعر أولا يكون، تلك هي القضية. وقد اختار المعري أن يكون بطريقته الخاصة.، فاعتزل الناس والوجود، ولم يستسغ حياة البعد الواحد.

ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا=تجاهلت حتى ظن أني جاهل

كان تجاهله احتجاجا على الناس، وعلى العالم من حوله. وكان احتجاجه دليلا على حضوره في المكان وفي الزمان. لم يكن المعري كما أراد. وتلك مأساته في مجتمع لا يقدر الاختيار، ولا يقدس الحرية. واختار المتنبي أن يكون بطريقته الخاصة أيضا. تغلغل في الواقع الحياتي، واختلط بالعالم دون أن يفقد جوهره أو ذاته. كانت الأنا عنده هي القمة التي يطل منها على السفح، ليحضر كل شيء، وليشهد كل شيء. كانت مشاهدات المعري، ومشاهدات المتنبي من خلال الذات، وإن كانت ذات المعري فضلت الانعزال والاعتزال، في حين أن ذات المتنبي اختارت التفرد والتوحد بالأشياء في آن. إن الاختيار الذي أخذ به كل من المعري والمتنبي، لم يكن عبثا من العبث، ولكنه كان نتيجة لتفكير عميق يمشي على أسئلة كثيرة. من هنا فمصير الشاعر لا يمكن أن ينفصل عن السؤال. والفلسفة، في أبدع معانيها، هي طرح للسؤال. أليس الشاعر من هنا فيلسوفا والفيلسوف شاعرا.؟ لقد انتهى الإشكال الفكري والشعري الذي فصل بين الشعر والفلسفة. غير أن الفلسفة في هذه الحال ليست عقلا خالصا أو فكرا محضا، ولكنها النار المقدسة التي تشتعل وتشتعل حتى الحد الذي تلتقي فيه بالشعر المتوهج. فليشعر إذن كل شاعر فيلسوف وفيلسوف شاعر، بما أحس به ألبير كامي في بلاد يونان، وهو يعانق دفقة الشعر النابض، وروعة الفلسفة الحية، وليردد قولته الصوفية، (أحس بأن لي قلبا إغريقيا).