دراسةٌ لديوانِ ظلال العتمةِ الأخيرةِ للشاعر "عُلاَ عيسَى"

دراسةٌ لديوانِ ظلال العتمةِ الأخيرةِ

للشاعر "عُلاَ عيسَى"

حاتم جوعيه - الجليل

ملاحظة : (  رغم مكانته الشعرية  والأدبية  ونشاطاته الثقافية والصحفية

وعطائه الإبداعي الغزير المتواصل محليا وإصداراته العيديدة  لم  يكتب عنه بعد وفاته أيُّ كاتبٍ وناقدٍ وأديبٍ محليٍّ ) .

مقدمة :-  الشاعرُ والأديبُ والناقدُ المرحومُ " عُلا َعيسى "  من  سكان قرية كفر قاسم – المثلث – وهو اسم ٌ معروف على الصعيد الثفافي والأدبي المحلي ، كتب َالشعرَ والنقد الأدبي والنثر على أنواعه المتعددة  وقد  أبدع َ  في جميع المجالات الكتابية .         صدرَ له ُعدة ُمجموعات شعرية ونثرية  ، منها : 1-  ظلال العتمة الأخيرة  . 2- النص المجاور وزوايا النص . 3 -  مداخل الى فهم القصة "دراسات " .. وغيرها .          وهذا الديوان الذي بين أيدينا بعنوان : " ظلالُ العتمةِ الأخيرة ِ"  يقع  في (81 )  صفحة  من الحجم المتوسط  -  تحليهِ بعضُ اللوحات ِالجميلة والمعبِّرة  بريشةِ  الفنان  " عبد التمام " – من قرية كفر قاسم ، وقصائدُ الديوان من الناحيةِ  الشكلية بعضها كلاسيكي تقليدي  والقسم الكبير على نمط شعر التفعيلة  ،  والقليل يدورُ في إطارِ الشعر ِالحُرِّ المترع بموسيقى داخلية أخَّاذة  . وعلا عيسى متمكن من أدواته الشعرية كما هو متمكن ومتمرسٌ أيضا في النقد الأدبي -  وله تجربة طويلة وخصبة ومثمرة في عالم الشعر والأدب واستطاع  أن يصلَ الى المستوى الإبداعيِّ الراقي في كتاباته ِ( شعرا ونثرا ) وان يشقَّ  له طريقا ًممّيزا ًوأسلوبا خاصا به .   وهو  بحكم ثقافتهِ الواسعة وموهبته المتوقدة بإستطاعته أن يكون َ ُمبدعا ًورائداً ومجددا في الشعر  .   سأختار بعض  النماذج  من  شعره مع  الإستعراض  والتحليل ، ولنبدأ    بالقصيدة الأولى من الديوان  بعنوان : ( رؤيا لماض يتجدد  " ص 4 " )  والقصيدة كلاسيكية  "عمودية "  على بحر الكامل ، وهي سياسية قومية يتغنى  فيها بحب الوطن وبمدى  تشبث  الإنسان الفلسطيني  بأرضه واستعداده  الدائم للتضحيةِ  والفداء ِلأجل الحقوق ِالمشروعة والذودِ عن الحمى -  والقصيدة على مستوى فني عال بالرغم من  كونها  تقليدية  ، وفيها الصورُ الشعرية الجميلة ُ والرؤيا  الفلسفية والإنسانية  والنظرة ُ المستقبلية  السامية  للحياة وللإشراق والعيش الكريم  وللفجر الخالد ...   َبيْدَ  أنه  ُيوجدُ  فيها  بعضُ الأخطاءِ العروضّية ِ  "في الوزن " -  مثلا في بيت :                               "فبنوُ عُمومتي قد بنوُا غرفات ذلٍّ        على  قلبي   وزادُوا   حرقتي"       وأيضا  في بيت : " وإذا انتفضت ستعلمون حقيقة                                       

                                              ما قال "راشدُ" يوما  عن هبتي  " )      ولو قال  في الشطرة الثانية  " ما قال راشد ُ  يومَها عن هبتي "     لأستقام الوزن مئة بالمئة    -   ولكن  حسب رأيي  إن خطأ  عروضًّيا   وكسرة  أو كسرتين  في الوزن لا يقررُ ويعني  شيئا  في مدى  إبداع الشاعر  ومستواه الشعري .    وحتى الشعراء الكبار العمالقة  بعضهم  له أخطاء  في الوزن ، مثل  الأعشى الأكبر الذي  لقبَ  بصناجة ِالعرب  لجودة  موسيقاه  الشعرية  وانسيابها  الجميل  فقد  وقع  في خطإ عروضي في قصيدته  التي  يعتبرها الكثيرون من المعلقات ، ومطلعها  :                                           

 "ودعْ هريرةَ إنَّ الركبَ مرتحلُ       وهل تطيقُ وداعًا أيها الرجلُ   "       ويقول في القصيدة  : " تسمعُ للحلي ِوسواسا إذا انصرفتْ "  -   فهذه الشطرة "صدر البيت "  مكسورة  ولو قال الأعشى  :                          

   " وتسمعُ الحليَ  وسواسًا إذا انصرفت "   لاستقامَ الوزن ُ  .           

     وعلا عيسى  يعني  براشد  هنا  الشاعر الفلسطيني  الكبير المرحوم – الشهيد "راشد حسين " الذي تنبأ  مسبقا بانتفاضة ِالشعب الفلسطيني الجبارة  ضد الإحتلال ومن ثم تحرير الأراضي وقيام الدولة الفلسطينية العتيدة على تراب الأهل والأجداد .            ولنقتطف بعضَ الأبيات من قصيدة علا عيسى هذه  فيول فيها :

                                                                                          

("لسنا  عبيدا ً سيدي    لتسوقنا              بقيودِ  ظلمكم  لسوق ِ نخاسة ِ")

  قلمي وإن أخرستموهُ بحكمِكمْ              سيظلُّ في نفسي مدادَ  كرامتي  

  يا حائكاً  كفن َ الشهادة ِ منشدا ً          الأرضُ ترقصُ من عناق ِ أحبتي ِ      فالركبُ سارَ ولم َيعُدْ في موطني            متخاذل ٌ  متهاون ٌ  ِمنْ  أمتي")     ويقول أيضا:" يرضى الخنوع ويدفن الرأس التي      كانت تعانق في القديم القمة"   / فتجددي وتجددي يا عزتي //  وأنيري دربا للبراعم عاجلا   /                    لأشم جذلانا  زهورَ سيادتي "  //  ...                                                            

                    إن هذه  القصيدة  وطنية  حماسية  رائعة  وملتهبة   بروح النصال والفداء ومحبة الأرض والتضحية .           وديوان "علا عيسى "  مليء بالقصائد الحديثة  (  التفعيلية والحرة )   العميقة بالرموز والإيحاءات والصور البلاغية والمفردات الفنية الحديثة ، وشاعرنا نجدهُ ، في العديد من قصائد هذا   الاديوان ،  يجنح  ويتخذ  له  مسارا  وأسلوبا   ولونا    مميزا وجديدا في الشعر العربي المحلي  ،    بشكل  عام ،  وهو  الشعر الصوفي  الفلسفي – والمحبة الأبدية  والإلهية  .     وقد   برز    قديما  ( في  العصر   العباسي والمملوكي )    بعض  الشعراء   الجهابذة  من   العرب   والفرس المبدعين   في هذا المجال واللون ، مثل:  "الحلاج "  ، "الفردوسي " ،   " محيي الدين بن عربي "   ،   و    " ابن الفارض "   وحافظ  الشيرازي ،   وعمر  الخيام  ورابعه العدويه  والفارابي .. .وغيرهم     .    وفي   العصر الحديث   تأثر  بعض  الشعراء  العرب  الكبار  الكبار   بالشعر   والأدب  الصوفي   القديم   مثل   الشاعر  العراقي  الكبير     "عبد الوهاب البياتي "  ..وغيره  .         ونحن نرى هنا أن شاعرنا القدير "علا  عيسى "  قد تأثر تأثرا واضحا بأولئك الشعراء المذكورين  وبشعر عبد الوهاب البياتي أيضا  .. ولكنه  في  أسلوبه   وتوجهه  يختلف   كثيرا عنهم  ،  فهو  يوظف  الفكر الفلسفي الصوفي  ويستعمل  الكثير من الرموز والأيحاءات  ( والكثير منها جديد ومبتكر )  لمواضيع  وأهداف  وأبعاد هو  يريدها  .  والشاعر  "علا عيسى " في هذا اللون  غامض  جدا  ، وليس كل ناقد او  كل  إنسان  مثقف  أو عادي يستطيع أن  يفهمه ويصل الى إدراك وإستعاب مستوى شعره  في شطحاته  وطلاسمه  الصوفية ...  ولكن لا أستطيع القول  إن  الزميل "علا عيسى "   قد  وصل الى  القمة القصوى  في هذا  اللون الشعري  لأن   هذا الموضوع  وهذا الدرب صعب  وشائك  ومعقد  ويحتاج إلى ثقافة  واسعة وتجارب طويلة  وممارسة  مضنية  فنية  وروحية  ووجدانية  للتحليق  الى القمم  الإبداعية ، وكان  الدرب  والمشوار  طويلا   ، نوعا  ما ، أمام  علا عيسى  ،   بيد أنه  في  سنوات قليلة   إستطاع  أن  يحقق  الكثير من التقدم ويصل بشعره الصوفي إلى  مستوى عال في الإبداع . 

   وسأختار بعض المقتطفات من شعره ، في هذا اللون ،  ولنأخذ  نموذجا من قصيدة بعنوان : "عودة ابن متى في ثوب جديد  - ص  38  " – فيقول فيها :     "قبل ابتلاعي في تجبرك //    كم تمتمات تشكر  //  في  وصلك أمضيت //  هل تذكرين //   أفنيت عمري عابدا أسماءك //    خمر الهوى لجلالك  //  جرعت //   حين استطلت غيابك حلت بقلبي فرفرات جنوني // فمضيت  //  الذنب ذنبي إن ذهبت مغاضبا  //     طال  انتضاري ناشدا //  إيماءة لتسري عني هموما  وأنادي : //   بحر الضياع قد احتواني مرغما  //خلجات نفسي قد مسها مس فتصتخب الثنايا  //    رعشات فوق الشفاه // ومن اللسان تسافر الكلمات //   فأحس أن المحيط – لاثمي -  مستدرجي والقاع يغفر فاه  //  تتشكل البسمات ألوانا وألوان  //    أمواج خوف فوق أمواج //  أنساق للأزل الذي يتمرد //  في الغربة ... إلخ ...  " ) . 

              ويقول في نهاية القصيدة : " انبذيني أولا أو لا تنبذيني //  خلف البحر //  في بطن الارض //  الحديد //  الصحراء    //    ما عاد السقم  //  الخوف  //  الموت  //الموت يثنيني //   فشعبي ظلي ويقطيني //   سأمكثُ في جرحِهمْ  //  أرضِهمْ //   بطنهم ْ//  ... حتى وإن باعوني    //   فأنا  ابن متّىَّ  الفلسطيني //  " )  .                                                        

              وكما هو واضح هنا فشاعرنا  يوظفُ الفكرَ  الصوفيَّ  والرموزَ الصوفيةَ المبهمة َ أحيانا  للقضايا الإنسانية  والوطنية ِ وللقضيةِ  الفلسطينية المقدسة والعادلة  .    وقد  أبدعَ أيُّما إبداع ٍفي هذا  المجال  ،  وربما  يكونُ علا عيسى أولَ شاعر عربيّ قد طرقَ هذا  البابَ في هذا  المنحى والتوجُّه والأسلوب .       ولننتقل  إلى قصيدة ٍأخرى من  الديوان بعنوان  " عودة العاشق إلى أحضان الحبيبة – ص 18 – " ،  وهي موجهة إلى الرموز من شعبنا  وللشاعر محمود درويش بشكل خاص  ،  ويتحدثُ فيها عن الغربة والبعاد عن الوطن ،  وعن  الإنتفاضة ِ ونضال  ِالشعب  الفلسطيني   بلغة شاعريةٍ جميلة ٍمنسابة سلسة ومؤثرة ، والقصيدة ُتفعيلية ٌ - فيقول فيها  :  "  محمودُ يا محمود ُ أغنية ٌعزفنا  //  تعزفُ الأغنية //  لحن الكرامة يعزفُ //  لحن البطولة وزَّعا    //    فغشاءُ آذان ٍبذلٍّ أترِعَا  //   صمت به دوّرا وحواره وأطفال الشجاعيَّة // ما ظل من طرق على أبوابنا لعدوٍّ  // فهديَّة لكَ مني // منا هويَّة ْ// وخلود في حضن ِحانيةٍ وفيَّه ْ //  ستكونُ لك الأرض ... مع سما شمس ٍ( وفيَّه ْ ) //  مثل البشَرْ // مثل البشَْر // مثل البشرْ   .. //  ")   .      وأما  في  قصيدته   "اللوحة الثانية  -ص 36 – "   –على وزن مجزوء الوافر فهي قصيدة ٌجميلة وغنائية تصلحُ للتلحين والغناء             و رومانسية شفافة وحماسية ، فيقول فيها  :  

   " عروسُ الثلج ِتحملني   //      ألى قنديليَ الأخضَرْ  

    وموتي في ثرى وطني //       سيخرسُ ليلي الأحمرْ //     

     ولفظ الدم من عيني // تعفر خدها عقدين //  ُيعَوِّضني ..//  

      فيا أرضُ التي انفجَرَت ْ... إلخ ... " ) .    

                وسأكتفي بهذا القدر من استعاض وتحليل القصائد --      

       وأخيرا  -  كنا نتمنى للشاعر المرحوم " علا عيسى "  العمر المديد  والكثير من العطاء والإبداع الأدبي الأدبي والكثير من الإصدارات الشعرية والنثرية  فهو ركن هام في حركتنا ومسيرتنا الشعرية والأدبية والفكرية محليا  ،  ولكن يد المنون لم تمهله فقد توفي قبل فترة قصيرة بعد معاناة من داء عضال.