النقد في مواجهة استبدادية اللغة

النقد في مواجهة استبدادية اللغة

محمد فريد الرياحي

[email protected]

اللغة أداة تواصلية. اللغة نسق تواصلي. اللغة أصوات تعبيرية معبرة. هذا ما ألفه الناس، بل هذا وما إليه، وما هو موصول به من التعريفات،هو ما تعاقد عليه هؤلاء الناس، فكيف تكون اللغة استبدادية أي كيف يكون الخطاب استبداديا.؟ اللغة هي الخطاب الذي تسبقه نية الفعل والفاعلية، ويحققه الإصرار على تأدية الرسالة، وهو خطاب لا يعرف البراءة والحياد. والسر في ذلك أنه بالذات متصل موصول. والذات في كل الأحوال تود لو تحقق فعلها الإرادي واللاإرادي، بل تريد لنفسها سيطرة على الآخر من خلال الإقناع والإبداع والإمتاع والتأثير والإيحاء، وما في الكتابة من أحابيل البلاغة. اللغة إذن وفي هذا السياق ليست بريئة أو حيادية. ولكنها بالجرأة موصوفة. في الخطاب تكون الكتابة من أجل تحقيق ذات الكاتب، ويكون الكاتب من أجل جذب الآخر إلى دائرة الكتابة، فإذا تحقق الجذب كان الآخر قارئا ومفسرا، وكانت قراءته وكان تفسيره في مجال الكتابة الذي هو مجال الانحراف اللغوي والانزياح اللفظي، وكان الانجذاب الكلي للذين يمارسون القراءة بفعل الأساليب الكتابية. إن اللغة ،وهي خطاب وكتابة، تبحت فيما تبحث عن الآخر، وهي تجده بطريقتها في الأداء، وشكلها في البناء. والصورة في الكتابة هي سر الأسرار. هي الرَّكوب الذي يركبه الكاتب بحثا عن الآخر من أجل نفيه. ولقد تنبه أفلاطون إلى خداع الصورة وصورة الخداع، وإلى أن الحقيقة الحق بمبعد عن التزويق والتلفيق. ولهذا تبرأ من الشعر، وطرد الشعراء من مدينته التي هي المدينة في صفائها وسموقها، ونقائها وشروقها، من وجهة نظر فلسفية. الفلسفة عند أفلاطون هي البديل عن الشعر أي البديل عن الكتابة في مجاليها البلاغي والخداعي، والحقيقة الحق في الفلسفة. أما البلاغة فكذب وبهتان واستبداد وتآمر واستيلاء بالقمع وفي القمع. والذي يسوغ هذا الانحراف عن الحق، وهذه السيطرة على الآخر، هو ما في اللغة والخطاب والكتابة من ميل إلى تقديس الذات منغرس في الذات.ولقد زكى هذا التقديس ماهو موجود عند الآخر من الإعجاب بالكاتب إذ يكتب في الإبداع، ويبدع في الكتابة. إن هذا الذي ذكرناه هو الوجه الأول من وجهي اللغة فاعلية كتابية وفعلا خطابيا، الغاية منهما تملـّك الآخر في التمكن وبالتمكين الإبداعيين. أما الوجه الثاني فالذي هو موجود في كل اللغات من نزعة إلى الاعتداد بالهوية والذات في الاستعلاء والتزكية. تعتقد اللغة أي لغة في المجال الكتابي والخطابي، أنها اللغة المتميزة بما يمكنها من العلو والاستعصاء على عوامل الضعف والتراجع والقضية في هذا قضية عصبية وتعصب. والذي عليه الاتفاق أن اللغة اصطلاح ووضع. وهذا ما أكده ابن جني عندما أشار إلى حد اللغة. فكيف تكون اللغةإذن وضعا واصطلاحا مع ما في الاصطلاح والوضع من ضعف بشري، وتكون في الوقت ذاته متمنعة ممتنعة على الانتكاس؟ إن هذه النزعة إلى العلو والاستعلاء في اللغة نزعة تحقق أمرين اثنين، الأول رفض اللغة للتجديد أي تجديد من وجهة نظر محافظة أكاديمية. وهذا أمر يحدث صراعا بين رفض التجديد، ورفض الأكاديمية في الفكر والنظر. والثاني تقوقع اللغة على ذاتها من جهة، باحتقارها للغات الأخرى، ورغبتها في غزو هذه اللغات ومحوها من الجهة الأخرى. ولا يخفى ما في هذا الميل من نزعة إلى الاستبداد يرفضها العقل عند الاحتكام والحكم. إن اللغة إذن استبدادية من وجهين، الأول هو وجه اللغةِ الكتابةِ التي تملك من القدرة في الاقتدار، والاقتدار في القدرة، ما يمكنها من الاستبداد بالآخر بالطريقة التي يصبح فيها هذا الآخر مسلوبا من الإرادة، فهو منبهر مبهور، بما يقرأ ويسمع داخل سياق من الإبداع مسلوك في مسالكه من الإمتاع، موصول بمعاقده من الإقناع. إن الإبداع في هذه الحال أصله من الذات التي تجد هويتها في الحرية، وتجد حريتها فيما يصدر عنها من الفيض، وتجد الفيض فيما يتحقق لديها من الإلهام في لحظة من اللحظات التي تسع الوجود بأجمعه، ولا يسعها هذا الوجود على ما فيه من الامتداد والانفساح. وليس الإلهام إلا ما يكون من الانثيال الكتابي في جو هو جو الكاتب الموصول بتجربته، المتداخل في واقعه.وليس يفهم الإلهام خارج هذا الجو، وإلا انقلب إلى وحي. وهيهات الوحي. إن الكاتب في هذه الحال معجب بذاته، مغرم بآياته، يحس بأنه المفرد العلم الذي يوتى بأحسن الكلم. وفي هذا الإعجاب يتحقق إلغاء الآخر بطريقتين الأولى وعلمها عند الكاتب العاشق لذاته حتى الحد الذي تنتفي فيه الذوات الأخرى فلا يبقى إلا هو. وفي هذه الحال ينبهر الكاتب بما كتب فيستبد بالآخر. والثانية حقيقتها عند القارئ الذي يلغي ذاته بذاته في الانبهار من حيث يؤكدها في فاعلية واحدة هي فاعلية التلقى، فلا يبقى إلا الكاتب بثقله التأثيري. وفي هذه الحال يتوحد القارئ في ما كتبه الكاتب فيقع عليه الاستبداد. أما الوجه الثاني فهو وجه اللغة من حيث هي لغة مميزة بسماتها، متميزة بنعوتها، منغرسة في هويتها، متجذرة في كينونتها، واعية لحقيقتها الوجودية في العلو والاستعلاء. فهي اللغة الحق، وهي اللغة النموذج التي تمشي على الحقب في عشقها لذاتها، وفي دورانها حول هذه الذات في العبادة والتعبد. فليس للغة أخرى أن تجاريها في قرَن واحد، وليس لها أن تطمع في أن تبلغ مبلغها من الشرف والقدرة والقوة. فهي إذن لاغية في عين اللغة النموذج يحق عليها الإلغاء والنفي. إنه إذن في الوجهين يكون الاستبداد الذي لا يعرف طريقه إلى الانفتاح والتفتح. وإذ يغيب هذا الطريق أو يغيَّب يكون ما يكون من وجود الحلقة المفرغة التي تأكل نفسها إن لم تجد ما تاكله. غيرأن النقد بما هو فاعلية تحليلية تفسيرية تأويلية، تهتك الغمض، وتفض الخفاء، وتجلو السر، يملك من القدرة على المغامرة في المكتوب ما يمكنه من خرق الاستبداد الطابو، وتخريق طابو الاستبداد، بالشكل الذي تنتفي معه قدسية الكاتب وقدسية اللغة. إن النقد من هنا إثبات لأنا القارئ في إثبات أنا الكاتب، وأنا اللغة من غير إغراق أو إيغال في قدسية كاذبة خاطئة. وإذ يكون المجال هو مجال إثبات الذوات ذات الكاتب وذات اللغة وذات القارئ يكون الحوار الدينامي المبدع . وليس النقد في جوهره الحي إلا هذا الحوار الذي يجمع بين الأنا والآخر في اللغةِ التواصلِ لا في اللغة النموذج.