الدور الفعال للأسطورة في تشكيل الشخصية اليهودية

الدور الفعال للأسطورة

في تشكيل الشخصية اليهودية

د. محمد المهدي

تلعب الأسطورة دوراً فعالاً في حياة اليهود إلى درجة أنها قد تصبح - بل أصبحت فعلاً- هي النواة النشطة التي يتشكل حولها النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي والديني للمجتمع اليهودي، وهم لا يقنعون بأن تكون الأسطورة محور حياتهم هم فقط بل إنهم يسعون لإقناع الآخرين بها ليجعلونهم يتصرفون وفق معطياتهم، (كما حدد مع كثير من ذوي التأثير العالمي حين راحوا يرددون أساطير اليهود حتى في أحاديثهم الرسمية).

وربما نتعجب ونتساءل: كيف يمكن أن يكون للأسطورة كل هذه القوة؟! وكيف لها أن تعيش وتظل نشطة ومؤثرة في مجريات الأحداث بهذا الشكل؟! وكيف يصدقها الناس ويعملون بوحي منها في عصر العلم والتكنولوجيا؟!

والجواب ربما يحتاج لدراسات أكثر عمقاً وتحليلاً، ولكن يمكن القول بأن الأسطورة يمكن أن تتصل بالسمات الشخصية لشعب من الشعوب فإنها تظل نشطة طالما بقي هذا الشعب على قيد الحياة لأنها، أي الأسطورة تلبي حاجة مهمة لهذا الشعب وتلعب دوراً كبيراً في توازن شخصية الأفراد والمجتمع الذي نشأت فيه.

وإذا عدنا إلى بداية البداية نجد أن البناء اليهودي بأكمله قد قام على أسطورة بالغة الدلالة على الشخصية اليهودية وسماتها.

وقد ورد في التوراة قصة موجزها أن سيدنا يعقوب لقي رجلاً في الليل عند جدول ماء فظل يصارعه حتى الفجر حتى تعب الرجل فقال له: ما اسمك؟ قال: يعقوب فقال: لن يدعى اسمك يعقوب من بعد بل "إسرائيل" لأنك صارعت الله والناس، وغلبت (التكوين 22:24وما بعدها).

وكلمة إسرائيل تعني "قوة الله" وهي مشتقة من لفظتين ساميتين هما " أسر" بمعنى القوة، ولفظة "أل" أي "الله"، وإذا قفزنا من البداية إلي النهاية نجد أن "شمشون الجبار" هو أحد أباطلهم الأسطوريين في العصر الحديث، وقد نسجوا حوله القصص والملاحم وتغنى بها الناس إعجاباً وجهلاً، وبين الأسطورة الأولي والأسطورة المعاصرة هناك سجل حافل بالأساطير تشكل البناء إلا اعتقادي والسلوك اليومي لليهود.

ولنحاول الاقتراب أكثر لنرى كيف تمنح الأسطورة اليهود تعويضاً لمواطن الضعف الغائرة في شخصياتهم، فمثلاً ترى أن اليهود يشعرون بقلتهم وضعفهم فتأتي الأسطورة لتمنحهم قوة فوق كل البشر بل وفوق الإله كما تزعم الأسطورة سالفة الذكر، ونجد أن اليهود في شخصيتهم الشعور بالاضطهاد، لذلك فالأسطورة تمنحهم فكرة التفوق والاستعلاء ولديهم شعور بالنبذ، لذلك فالأسطورة تمنحهم فكرة اختراق النظم ومواقع التأثير ولديهم شعور بالتهميش والتشتيت، لذلك فالأسطورة تدفعهم للتجمع في فلسطين حيث ملتقى القارات والحضارات، وحيث عمق التاريخ ودفء الوجود الإنساني وعمق تاريخ النبوءات ولديهم شعور بالخوف لا يفارقهم، لذلك فالأسطورة تلح عليهم في تحقيق الأمن ولو على حساب الآخرين، ومن هنا تنشأ صفات مثل "شعب الله المختار" أو الشعب الأبدي لتحل محل اليهودي التائه.

وقد لازمت هذه الأساطير اليهود لأنها تحقق لهم توازناً نفسياً ربما لا يستطيعون الحياة بدونه، وإن كان هذا التوازن على المستوى المرضي ولذلك حاولوا جاهدين أن يبثوا مفردات أساطيرهم في العهد القديم وفي العهد الجديد وفي الكتب السماوية الأخرى أو تفسيراتها لكي يضمنوا بقاء هذه الأساطير واقتناع الناس بها على أنها كلام الله.

وعندما عجزوا عن بث هذه الأساطير في صلب القرآن وضعوها في بعض التفاسير، وقد انتبه إليها المحققون وأطلقوا عليها اسم "الإسرائيليات".

وقاموا ببث هذه الأساطير في كتب التاريخ والاجتماع والسياسة، بل وقاموا بكتابتها على أرض الواقع في فلسطين، ولا يخجل علمائهم وساستهم أن يضمنوا خطاباتهم وكتاباتهم تلك الأساطير على الرغم من أن الجو العام في الحضارة المعاصرة قد تجاوز مرحلة تصديق الأساطير، بل وتصديق الأديان في مجملها أحيانا ولكن مع هذا فاليهود لا يملون من المحاولة.

وعلى الرغم من أن الأسطورة تتيح بعض التماسك للمجتمع اليهودي وتتيح فرصة تخويف الآخرين من قوة اليهود ومن سطوة اليهود وتحكم اليهود وخطط اليهود، وأسلحة اليهود، إلى أن البناء القائم على الأسطورة يظل هشاً وقابلاً للانهيار في أي لحظة.

والقارئ المتمعن للأحداث يرى أن المجتمع اليهودي قد واجه حظر الانهيار التام في مواقف كثيرة على الرغم من ادعاءات القوة والهيمنة والسطوة، ففي حرب العاشر من رمضان تضعضع النظام اليهودي وصرخت رئيسة الوزراء جولدا مائير في هلع، ولولا الثور الأمريكي الذي دخل المعركة برأسه لانهارت تلك الدولة الطفيلية الهشة، وفي الآونة الأخير حين قتل ستين يهودياً في عمليات التفجير في القدس وغيرها، كادت أن تعصف بالدولة الإسرائيلية لولا الطمأنة والدعم العلمي لهذا الكيان الهش المدلل كي يبقى على قيد الحياة.