قراءة شحرور للقصص القرآني بين التحريف والتخريف (2)

قراءة شحرور للقصص القرآني

بين التحريف والتخريف (2)

 قراءته لقصة نوح عليه السلام (أ)

طارق مصطفى حميدة

مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

ويستمر شحرور في التحريف والتخريف، لكنه وهو يفعل ذلك ربما تكلم بالقليل من الكلام المقبول ليدس السم في الدسم، مرة بليّ أعناق النصوص وتحميلها ما لا تحتمل، ومرة بجعل كلام المؤرخين وعلماء الآثار كأنه حقائق علمية فيُكره الآيات القرآنية على النزول عند أحكامها،  وثالثة باختراع معان لا تدل من قريب ولا من بعيد على مراده.

أولاً: القراءة بالمقلوب

من أوائل ما يفاجؤنا به بل يفجعنا به الشحرور وهو يقرأ قصة نوح عليه السلام قراءة معاصرة، استخلاصه عدداً من العبر والعظات، ومنها بحسب قوله:" وجود عبادة ظواهر الطبيعة بدلالة قول نوح لقومه:﴿ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهم نوراً وجعل الشمس سراجاً﴾[ نوح: 15-16] "[1].

فهل هاتان الآيتان الكريمتان تدلان أو تشيران من قريب أو بعيد لعبادة ظواهر الطبيعة؟ وكل ما في الأمر أن نوحاً عليه السلام يلفت نظر قومه إلى بديع خلق الله وعظيم آلائه ونعمائه، كي يعبدوه ولا يعبدوا أحداً سواه.

ثانياً: لماذا غرق قوم نوح؟

ومن العبر والدروس التي استنتجها الدكتور المهندس الشحرور من قصة نوح، أنه:" لم تكن السباحة في الماء معروفة في عصر نوح، على الأقل تلك التي تختص بمواجهة حالة طوفان كبير، بدلالة قوله تعالى:﴿ مما خطيئاتهم أُغرقوا فأُدخلوا نارا﴾[ نوح: 25]"[2]!!

أهذا كلام شخص يؤمن بالله تعالى وآياته؟ أولو كان قوم نوح يتقنون السباحة أكانوا سينجون من الغرق؟ وهل المشكلة أن القوم كانوا " بدائيين"  ولم يكن قد تطورت لديهم فنون العوم والسباحة، فضلاً عن أنهم لم يكونوا يعرفون صناعة السفن كذلك بدلالة أن الله تعالى قد أوحى إلى نوح صناعة الفلك، ولو كانت لديهم تلك الخبرة لما حصل ما حصل؟

يكرر الشحرور بأكثر من طريقة كلام عدد من المؤرخين والجيولوجيين والأنثروبولوجيين وغيرهم، بأن الموضوع بالنسبة لقوم نوح لا يعدو كونه طوفاناً اعتيادياً[3]، وكارثة طبيعية، ومن أسبابها أن قوم نوح كانوا يعيشون في منطقة غنية بالينابيع تحيط بها جبال غزيرة الأمطار، والمعروف أن العواصف المطرية في الجبال تسبب سيولاً مدمرة تجتاح المناطق المنخفضة والسهول والوديان[4]، ثم يستدل على كلامه بقوله تعالى على لسان ولد نوح:﴿ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء﴾[ هود: 43].

من الواضح أن الشحرور يريد أن يدلس على القراء ويستغفلهم، فمن جهة يكرر استخدام عبارة ( التنزيل الحكيم)، ثم يحتال ليدخل الشك في قلوبهم من خلال تأويلاته المريضة، بأن الأمر لا يعدو كونه كارثة طبيعية اعتيادية اجتاحت قوماً بدائيين، ولم يكن لديهم الخبرات ولا التقنيات لمواجهة هذه الكارثة ففعلت فعلها المدمر فيهم، وليس للأمر علاقة بعقاب رباني ولا غيره.

وهذه القصة القرآنية كما يريد أن يقنعنا الشحرور، تسللت من ثقافات بلاد ما بين النهرين حيث إن " رواية الطوفان السومرية ( الرافدية) والتي تعتبر الرواية الأولى تاريخياً، قد جرى تطويرها في الرواية البابلية، ثم تم نقلها إلى التوراة حيث جرت إضافات عليها بما يلائم الشخصية اليهودية، ومن ثم نجدها قد وردت في القرآن الكريم بشكلها النهائي، متبعة الخطوط العامة للرواية المشرقية، غير أنها منزلة من الله إلى البشر في حين أن رواية الطوفان المشرقية كانت بشرية المصدر"!!!.

وهنا يستمر الشحرور في المخادعة والمراوغة، ولا يهمه أن يقول الشيء ونقيضه في جملة واحدة، فالرواية القرآنية حسب قوله، اتبعت الخطوط العامة للرواية المشرقية، وهذا يعني أن القصة القرآنية ليست أكثر من نسخة معدلة ومطورة وامتداد لما سبقها وأنها بالتالي ليست وحياً إلهياً، ثم يستدرك الشحرور ويقرر أن هذه الرواية التي اتبعت الخطوط العامة للرواية المشرقية تتميز عنها بأنها منزلة من الله إلى البشر!

وكيف يمكن أن تكون الرواية القرآنية متبعة للروايات البشرية ومنزلة من الله في آن، وما هذا الرب الذي يحتاج أن يقتبس من غيره، وأين علم الله المحيط، وهيمنة القرآن على كل ما سواه إذن، إن الشحرور بمثل هذا القول إما أنه مجنون أو يظن بأن قراءه حمقى ومغفلون.

ثالثاً:  الرسل الملائكة!!

ففي التمهيد للكتاب يتحدث الشحرور عن أن الهدى الرباني الذي ورد في قصة آدم ﴿ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾[ البقرة: 38]، " هذا الهدى جاء بداية على شكل نذر من الملائكة كان الله يبعثهم في قوله تعالى: ﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾[ فاطر: 24]، وقد استمرت النذر مع نوح ﴿ ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين﴾[ المؤمنون:24]، ومع هود ﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه﴾[ الأحقاف: 21]، وإلى إبراهيم وإلى لوط وإلى صالح؟، وكانت النذر تأتي على شكل مشخص يعرفون أنها ليست منهم وإنما هي مرسلة من السماء، ونحن نرى" - والكلام لا يزال للشحرور -:" في الأطروحة القديمة أن الحكام جاؤوا من السماء، وأنهم من دم آخر رواية أسطورية، لمفهوم النذر الواردة في التنزيل الحكيم"[5].

ويعود ليؤكد الأمر بقوله نقلاً عن إحدى الوثائق!، حسب تعبيره، بأن:" الطوفان قضى على الجميع، وبعد الطوفان نزل الحكم الملكي من السماء من جديد، وأصبحت مدينة كيش مقر حكم الملوك، وقبل الطوفان كان الحكم الملكي قد هبط من السماء لأول مرة في مدينة اريدو" ويتابع شحرور بالقول:" ونؤكد هنا أيضاً أنه قبل نوح كانت النذر من الملائكة فقط، وقد تم التعبير عنه بأن الحكم هبط من السماء، ثم صار مشتركاً بشراً وملائكة ( نوح حتى إبراهيم)، ثم بشر فقط وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم"[6].

أما كيف استنتج هذا المفكر الإسلامي!! أن الرسل الأوائل من لدن آدم وحتى صالح كان يرافقهم إلى الناس الملائكة، فإنه استشهد بقول قوم نوح له: ﴿ ولو شاء الله لأنزل ملائكة﴾، وكل ما في الأمر أن القوم تذرعوا بأن نوحاً من البشر، كي يرفضوا الإيمان به، لا أنهم يقررون قاعدة في أن الله تعالى يبعث الملائكة مباشرة إلى الأقوام.

وليس في القرآن الكريم من البدء وحتى الختام ما يشير إلى أن الله تعالى كان يبعث الملائكة إلى الناس، بل النصوص تتضافر في تأكيد أن كل الرسل كانوا من البشر لا من غيرهم، بصيغة الحصر والقصر، في مثل قوله تعالى: ﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ﴾[يوسف: 109]، وقوله سبحانه: ﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾[ الأنبياء: 7]، فكل رسل الله تعالى إلى الناس كانوا بشراً لا ملائكة، وقد لفت الله سبحانه بني آدم إلى أنه تعالى سيبعث لهم رسلاً منهم: ﴿ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾[ الأعراف: 35].

ثم يستند الشحرور لتأييد مزاعمه إلى معتقدات الشعوب القديمة في أن الحكام جاؤوا من السماء، وأن بعض الوثائق تحدثت عن حكم ملكي نازل من السماء، فيجعلها دليلا على أن الرسل الأوائل كانوا من الملائكة أو كان يرافقهم ملائكة، ونسي أن يقول إن الشعوب القديمة كان فيها من يعتقد بأن الحكام من نسل الإله وأن الملائكة بنات الله، فهل نجاريهم ونقول بأن معتقداتهم هذه حقيقية؟!

وهل يجوز أن نجعل الوثائق التي تتحدث عن معتقدات الشعوب القديمة حاكمة على النص القرآني ومهيمنة عليه؟ إن النصوص القرآنية لا تؤيد مزاعمه، بل إن فيها ما يرد هذه الأباطيل جملة وتفصيلاً.

وإلى الملتقى في المقالة التالية متابعة لقصة نوح عليه السلام، حسب قراءت شحرور، بإذنه تعالى.

               

[1] ) شحرور، القصص القرآني، 2/16.

[2] ) شحرور، القصص القرآني، 2/ 17.

[3] ) شحرور، القصص القرآني، 2/47.

[4] ) شحرور، القصص القرآني، 2/ 55.

[5] ) شحرور، القصص القرآني، ج2/ ص 11.

[6] ) شحرور، القصص القرآني، 2/ 51.