قراءة في الأعمال الشعرية "الجزء الثاني"

مملـكة توّجها الصمـت

قراءة في الأعمال الشعرية "الجزء الثاني"

للشاعر محمد الأسعد

توفيق الشيخ حسين

[email protected]

كان عصـرا ً مظـلما ً

ولكـن الغنـاء َ

كان يرتفع في الأقبية العميقة

لم يعلمونا شيئا ً

لقد ولدنا في الضباب ْ

يرحل ُ في  دفتر ِ الصمـت ِ , يقـلــّب ُ الدفاتر َ والصـور َ المرسومـة .. يعبـر ُ وحيـدا ً بحزن ٍ ولم يجـد ْ وتـرا ً لقلبـه .. يحلـم ُ بالشـموس الرائعـة حين يفلـت الزمـان من قيـده .. وأمطار المنافـي تعبـر ُ إلى سـماء العالـم المطـمور .. يسافـر ُ بعيـدا ً مع صـمت الليـل الساكـن في طرقـات النفـي ليبحـث عن أسماء ٍ وبلاد ٍ وشواطـئ مثقـلة بالعشـب والأطفال  .. تثقـله الغربـة والحـب ّ ويعبـر نحـوي مرآة الموت .. حامـلا ً نبضـات الوطـن وحلـم الأطـفال الموتـى في لحظـة ٍ يسـود ُ العالـم صمـت ٌ مميـت ْ ...

        تختـلج ُ الأشـياء َ الباقـية

              في الرمـاد ْ

             يصبح المقد ّس ُ

             مدعاة للسـخرية

              وتبقى للكلـمة

                  حريـة  ٌ

      بحجـم ِ صفحـة ٍ بيضـاء ْ

     هل هو وقــت ٌ للمرثـية  ؟

     هل هو وقــت ٌ للغـناء ْ  ؟

  في رمـاد الكواكب الأخيـرة

        ترحـل ُ الأنهـار ُ

            والأشجـار ُ

            والطفولـة  ْ

            الأرض ُ

        تغيـّـر ُ أشياءهـا  !

الأعمال الشعريـة " الجزء الثاني " للشاعر محمد الأسعد تضم تسع مجموعات ( مثل سؤال المياه , مملكة الأمثال , كتاب الأغاني , لساحلك ِ الآن تأتي الطيور , حاولت ُ رسمك ِ في جسد البحر , الغناء في أقبية عميقة , الفصـول , صـور , أوراق أولى ) ...

يعبـّر الأسعد في قصائـده عن الغصـن الذي يحـن ّ الى أصلـه .. مثقـلا بالحلـم والمـوت تحت جسـور العالـم المنهـار .. يبحـث في الشـوارع القديمـة وفي وجوه الأصدقـاء وعبـر رحلـته في دفتـر الصمـت عن وطـن بلا حدود  .. عن وطن ٍ لا يزال ْ عميقـا ً كجـرح ٍ يغـنـّى بلـون الحريـق وطعـم الدمـاء ..

العابرون خلــّفوا عند الحـدود عتمـة الشـفق ْ

     والأرض يعـروها مخـاض ْ

           مسكونة الرؤى

   بأبجــدية الأشـباح والأرق ْ

حزن ٌ نقـي ّ ٌ شـف ّ واستحال ثوبـه

   لكـومة من الزجــاج ْ

 وأقبلت تفتـح صـدري

ثم تحشـوه بأزهار الزجـاج ْ

      قالت هو الموت ُ

      سرير ٌ من دم  ٍ

     يولد ُ من حلـم  ٍ

وسـد ّت خلفـها سـور الحدود ْ

من أبن يبدأ الشاعر محمد الأسعد ؟ عالمه أثقلته الريح عبر دروب أيامه الأولى .. خلف ضباب الليل يلتمس صوته .. وعيونه في انتظار بلاد ٍ حزينة .. يلفــّعه الغيم حين تسـد ّ ُ الليالي نوافذها .. وينام على نداء ٍ هاجس ٍ ويد ٍ تداعب ُ حلمه ُ .. ممزقة  ٌ مناديل ُ الطفولة .. يمضي دون زاد ٍ ودون كلمة ْ , والريح تبعث في دمه ِ صوت الطريق .. تهز ّه سدرة ُ المنفى وراء الليل ...

أمـّاه ُ .. تأتيني ظنون الدجى

       ويكبرُ التين ُ

       ولا يكبـر ُ

فتستريح منك ِ ترنيمـة  ٌ

      على فؤادي

      خيطها أخضر ُ

فأسمع ُ الأبعاد َ في صمتها

وراء قضبان  ِ الأسـى

         تهـدر ُ

         أمـّاه ُ

      تنسانا الدنى

تنتهي أغنية ُ العمـر ِ

      ولا نكـفر ُ 

نلاحظ في شعر الأسعد استخدامه الى رموز ( الخليفة , العبد , الجارية , السلطان ) وكما عبر عنها الدكتور علي جعفر العلاق *..

" ثمة جانب في مجموعة الأسعد يجعل منه وريثا ً للعديد من الخصائص الشعرية في الخمسينات يندر أن تجد شاعرا ً يولي رموز الخمسينات عناية ملفتة للانتباه , لكن هذه الرموز تجد طريقها حرة في قصائد الأسعد " ..

      حلمت ُ أننا التقـينا

          ذات َ صـبح ْ

             جاريـة  ً

تهرب ُ من قصـر الخليفـه ْ 

            وعبـد ْ

وخلفنـا بغداد في النوم  ِ شـهيـّـه ْ

         والعبـد ُ نام  َ

فوق أسـوار القرون الحجـريه  ْ

يتحدث الأسعد عن وجه آخر للأرض .. لا يبصر سوى شفق ينطفئ في عتمة فجـر ٍ محمولا  ً في كل الأمكنـة المجهـولة .. يموج كطفل  ٍ أ ُ دخل الليل الى قلبـه .. ينظـر للغيـم والعابريـن .. ينبش في القلب رماد كواكبه ويمـد  ّ أصابعه ليفتح باب العمر .. ليتدفـق المطـر في خلجان الروح ..

سأذكر ُ هذا التشرّد تحت السماء الخفيضة

          تحت السقوف الظليلة

               بين المقاهي

وفي غرف ٍ تتكدس فيها سنين ٌ من الوحل  ِ والدم  ِ

         نبحث ُ عن وطن  ٍ مات  َ

           أو وطن لا يموت

        نحن فاتحة  ُ الأرض ِ

         نملك هذا الحنـين

               وأذكــر ُ ..

         للمــوت إيقاعه ُ

         وأنت َ المحاصـر ُ

     أنت َ الســؤال ُ :

-         بماذا يـُملح ّ لو فســد َ الملح ُ ؟

شعر الشاعر محمد الأسعد كقطرات المطر تمـر ّ ُ كظل ٍ على شاطئ البحر .. لم تعد ْ تعرف ُ أيـّامها كسماء ٍ تغطـّيها طيور ٌ خضراء وأطفال ٌ لم يعودوا قادرين على الكلام ..

واقف ٌ بين أنقاض الرؤى  يتوحــّد بين يديه الحزن .. يحلـم ُ بمجـد ٍ لن يجيء .. يدعو للمطر أن يستقر ّ في الأعمـاق .. مع قطـرة ندى في أقبية المنسـيين .. يفتـش عن كونـه بين بقايا البيوت التي تتوسد في الصخر أحلامه .. ليعود في عتمة  ِ الفجر  ِ وحيدا  ً يطـوقه الحنيـن ..

      هـي الأرض  ُ

     تجـهل ُ إنا أتينا

     خـرابا  ً جميـلا  ً

     يغيـّر ُ ألوانـها

ويبعـث فيها الزمـان الجميـل

   هي الأرض ُ تشهـد ُ

       إنا نغادرها

          بذورا  ً

      وراء طفولتـنا

شارديــن وراء الحقــول  ْ

  هي الأرض ُ تشهد ُ إنا

  نقاتل حتى الجـذور

   لتبقى بأعماقها

  دمدمات الوعول

حكاية الأرض تمتد ّ  ُ فينا .. حدائق الأحياء تحتضن الرماد .. ليل ٌ بلا فجر ٍ يغطي كل شيء .. مع أنين عذابات الأمهات والأطفال في عمق الليل .. هل تبكي طفولتها الرمال ؟.. لم يعد ْ الماضي يذوب في مطر الفصول .. الأرض ُ تفقد أبناءها .. والطيور المحلــّقة ما زالت ترقد بين وديان الكلام ..

ها هي الأرض ُ التي تشربنا

          تغدو سرابا  ً

  حين نمضي أو نعاني

  ها هي الأرض  ُ أنين  ٌ

        لم يزل ينمـو

            وينمـو

في فضاء  ٍ أسود  ٍ يمتصـنا

       أحياء  َ أو موتـى

ويمتـص ّ  ُ تأويل المكـان

أنين الأرض ينمو في فضاء ٍ أسود .. تتغير الكلمات مع ذاكرة الليل .. لتوقظ الأماكن المظلمة .. باحثا ً عن أرض ٍ يطلق عليها كل هذا العذاب .. يدور حول سوره الطويل ليرسم للأرض ومضة ً وللموت ِ بابا ً تجري في عروق الصخر مع نكهة الطين .. ويكتب عن ضيق الدروب آخر الليل ..

الأرض ُ أيضا  ً تموت ْ

والطرقـات ُ الصحراوية

   والبيوت المنعزلة

   في ريـف  ٍ موحش  ْ

وأضواء  ُ المدن الغامضة

   في عمق الليل ْ

لم يعد الماضي وسيمـا  ً

    في اليقظة

  تأسره الرؤيا

تقيـّده الأسطورة

تتركنا وراء أسواره

   جائليـن

  بلا هـد ف  ْ

بين ظل ّ النخيل ْ وروائح القد ّاح يسكن الجرح وراء عواصف النسيان .. تهب ُ حاملة ً أصوات الذكريات برقة ِ الأضواء .. يصغي إلى الأمس  القريب بين ومض ٍ وانطفاء .. يرنو إلى أفق شطآن البصرة البعيد عند عودة أسراب الطيور .. يهاجر ُ نحو الفضاء في وقت ٍ يمضي بعيدا ً دون صوت ٍ مع همس الضباب الخفيف ..

  أعد ّ ُ خطاك ِ

فوق حجارة ٍ خضـراء ِ

  من مطر ِ الأماسي

     والرياح ُ تهب ّ ُ

حاملة ً ستار َ الأغنيات ِ

شبيهة  ٌ باللوز ِ أنت ِ

برقــّة ِ الأضواء ِ في شبـّاك ِ داري

بالدموع  ِ شبيهـة  ٌ عيناك ِ

      بالسفر ِ البعيد ِ

      بحزن أمـّــي ..

كيف يتعبنـي انتمائي

    والرحيل ُ كتابة  ٌ

     والحزن ُ أكواب  ٌ

بماء البصـرة ِ الرقراق ِ

تــُملأ  ُثم تسقينـي ؟

تموت الخطى وتهرب ُ الكلمات .. تسكنه مخاوف الزمن المتموج دون صدى .. يظلــّـله ُ شجر ُ البرتقال .. يرسم ُ لوحة  ً بيضاء تشـع ُ حزنا ً .. أنطفأ حنينه للمدن التي عاشت بقلبه ..  وأضواء المدن الغامضة في عمق الليل .. حاملا  ً نبضات الندى كظل ٍ يبلــّـله ُ المطر ..

·         ( كتاب مرايا الشعري ) ..الأعمال الشعرية الجزء الثاني للشاعر محمد الأسعد

·        مملكة الغجر " دراسات نقدية " .. الدكتور علي جعفر العلاق .. دار الرشيد للنشر 1981 .. بغداد