الأديب ومسؤوليته نحو أمته (من خلال إصدارات عبد الله الطنطاوي)

الأديب ومسؤوليته نحو أمته

(من خلال إصدارات عبد الله الطنطاوي)

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

محمد حسن بريغش رحمه الله

لا تحتاج إلى طويلِ وَقْتٍ حتى تدركَ أنَّهُ أديب، عندما تستمع حديثه أو تقرأ شيئاً من كتابته. والأدب معه شيء من فطرته، فهو متغلغلٌ في أعماقه، كما هو واضحٌ في إهابه لا يكادُ يفارقه في سَفرٍ أو حضَر، وفي حديث عابر، أو أثر مكتوب، وهو المرْكَبُ المريحُ الذي تستقرُّ به نفسه، وتهدأُ له خواطره التي لا تجدُ سبيلاً لكي تصبح واقعاً جميلاً إلا حينما تتحول إلى صورة من صوره المختلفة في حياته.

إذا قرأت له أي لون من ألوان الكتابة ترى الأسلوب الأدبي الجميل بكل ما تعني كلمة الأدب، وتشعر أنه الأسلوب الذي يصدر عن طبع وأصالة، ويتسم بالعفوية والجمال والسلاسة، ولا يعجز أبداً أن يقرّب إليك المعنى البعيد، أو يغوص وراء الفكرة الشاردة، أو يصل بينك وبين نجمة تحاكيك في المعاناة، وتبعث لك بشعاعها الآسر، فهو يحمل ما يريد وأكثر مما يريد.

لقد جَذَبَتْهُ السياسة حيناً، والدعوة أحياناً، ولكنه لم يستطع سوى الاستجابة إلى دواعي فطرته القوية، فيعود طائعاً راضياً إلى دنيا الأدب ليعيش من خلاله الحياة الفاعلة، وليحمل من خلال دروبه وقنواته، هموم الداعية، وعناء الباحث، وشفافية الناقد بالكلمة الطيبة، والصورة الجميلة، والأسلوب الذي يتحدث للقلوب والعقول معاً.

*   *   *

ولعبدالله الطنطاوي آفاق أدبية واسعة، ومساهمات متعددة ومتنوعة، حيث كَتَبَ القصة والمسرحية والبحث والنقد، والتراجم، والمقالة وغيرها، وكانت مطامحه دوماً، تتجهُ إلى الأجيال المسلمة التي باتت وسط أمواج عاتية من الأفكار والمواقف، والفلسفات، والمغريات والأخطار، تتلقى الزلازل المدمرة من جميع الجهات، وتعاني مرارة الواقع في شتى الصور، وتعيشُ حالة من البُؤسِ والإحباط لا مثيلَ لها، هذه الأجيالُ تنتظر من يعطيها شيئاً من الأمل، أو يمدّها ببعض الصبر والصمود والتفاؤل، أو يضيء لها في هذه الظلمات سبيل النجاة، ويفضح أمامها صورَ المكر والشرِّ والخديعة، حتى تعود إلى عزتها وكرامتها الضائعة.

ولم تكن هذه المطامح رهينة لظرف أو قطر أو فكرة، وإنما تبدت شاملة، تجوبُ القرون، وتجتازُ الحدود الأرضية، وتتحدثُ بلسان القرآن لكلِّ الذين يقرؤون القرآن، وهذا ما رأيناهُ مُتَرجماً في مشروعاته الطموحة التي يتوجه بها إلى الأجيال المسلمة: إلى الفتيان ذكوراً وإناثاً ليُنير لهم الدروب حيث ادْلَهَمَّ الخَطْب، فبدأ بمشروع كبير أسماهُ "مِنْ نُجُومِ الإسلام" ضمن سلسلة يطمح أن تصلَ إلى مئة ترجمة من هذه النجوم التي "تتحدث عن تلاميذ مدرسة الرسول القائد محمد صلى الله عليه وسلم، هذه المدرسة التي تخرَّجَ فيها آلافُ العُظماء منذ تأسيسها يوم انْبَثَقَ فجرُ البعثةِ النبويةِ، حتى يوم الناسِ هذا... والجامعُ المشتركُ لهؤلاء النجوم الذين اخترناهُم من بين آلاف النجوم، هو الجهادُ بمعناه الواسع، لأننا نحيا أو نعيش ظرفاً دقيقاً فيه من ألوان الإحباط ما يُقعدُ بالهمم، ويُوهِنُ العزائمَ إلى درجة التيئيس، والعياذ بالله تعالى.

لهذا أردنا.. أن نحيي ما توارى فينا من مروءات ونخوات وأريحيات، تشدّ الشباب إلى ماضي أمته ليرفدَ حاضرهُ، من أجل مستقبل مُشرق خال من الأمراض التي انتهت بنا إلى ما نحنُ فيه من بُؤس وتعاسةٍ وضنك، نُريدُ أن نُزَوِّدَ الأجيال بزاد الرجولة، ونعيد بناءها العقلي والنفسي بما حفل به الزادُ من قيمِ العروبة والإسلام...".

* * *

ابتدأ الكاتبُ الأديب سلسلته بالحديث عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم متعمداً في اختياره ألا يتحدث عن المشهورين كالخلفاء الراشدين الأربعة، حتى لا يظنّ الناس أنه ليس هناك غيرهم، ممن يستحق الذكر، فأخذ عدداً آخر، ليدلل أن كل رجل من الصحابة كلهم يستحق أن يكون نجماً، وأن يكون موضع الإعجاب... لذلك ابتدأ بالصحابي "محمد بن مسلمة" ثم "عبد الله بن رواحة" ثم "سعد بن أبي وقاص"، ثم "حمزة بن عبد المطلب"، ثم "مصعب بن عمير"، ثم "جعفر بن أبي طالب".

واستمرت السلسلة تعرض نماذجَ من هؤلاء النجوم، من مختلف العصور، وشتَّى الطبائع، وفي العديد من المواقع والبلدان لتتحقق بذلك الصورة التي يطمح لها الكاتب من رسم الدرب الطويل الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن ينتهي إلا بانتهاء الحياة على الأرض، إذ ستظل هذه الدعوة إن شاء الله تنيرُ للعالمين سُبُلَ الخير، وتدلهم على معالم الحق، وتحفظ لهم قيمَ الإنسانية المكرمة، وبهذه التراجم يرى الشاب الصورة الواقعية لأجداده، في شتى أحوالهم: في الجهاد والقتال، والدعوة والإرشاد، والعلم والابتكار، وفي كل شأن ولون.

ومن هذه الجهود المباركة لتحقيق بعض مطامحه، ما نشره تحت اسم "سلسلة أطفال الحجارة" هذه السلسلة التي عكست صورة الفتى الفلسطيني والفتاة الفلسطينية المؤمنين بالحق، والمساهمين في حماية المقدسات ولا سيما في القدس، أولى القبلتين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولعل الكاتب أراد أن يرسم صورة البطولات التي صنعت الانتفاضة في فلسطين ضد قوة عاتية ظالمة، وضد الطغيان الإسرائيلي المدعوم بالقوة العالمية الباغية، المتمثلة بأمريكا وحلفائها، وكانت صورة الفتى الفلسطيني هي الرمز للبطولة، هذا الفتى الذي يقف أمام الرشاش والمدفع والدبابة بلا خوف، ويقاوم الاحتلال بثباته وشجاعته وصموده، ويقذف بالحجارة التي أصبح لها وقع القنابل المحرقة في قلوب الأعداء من اليهود وغيرهم، ليُزيلَ هذا الاحتلال المجرم.

والكاتب الذي لم يرَ بعينه هذه البطولات، إلا من خلال شاشات الرائي، وروايات الإعلام والناس، أراد أن يكتب حقاً عن هذه المشاهد في الواقع والنتيجة، فعمد إلى الحكايات الواقعية التي نقلها الفلسطينيون فصاغها بأسلوبه البارع، فكان الحدث، وإشراقاته وإيحاءاته، رافداً له وأساساً لموضوعه، ليستطيع إبرازه بالصورة التي برزت من خلال هذه السلسلة.

وضمَّت السلسلة عشرة كتب هي "منصور لم يَمُتْ"، و"محمود عز العرب"، و"القدس لا تؤمن بالدموع"، و"السيّاج"، و"الأصدقاء الثلاثة"، و"ذبيح القدس"، و"رحلة إلى جبل النار"، و"أبطال من جَباليا"، و"البركان الإسلامي".

وكل هذه الصور الواقعية استوحاها مما قصَّهُ عليه أبناءُ فلسطين وغيرهم، ممن سجَّلَ أسماءهم على هذه الكتُب وهم: "محمد جمال عمرو، ومحمود الرجبي، ونزيهة محمود، وباسل الخطيب، وسمير محمود، وسليم عبد القادر، وحسين حمدان العودات، ورانية جعفر عبد الفتاح، ورائدة أبو الرب".

لقد كانت هذه القصص، تصوّر حكايات البطولة لأبناء المدارس الصغّار، أبناء فلسطين، وتصور بطولاتهم وأحلامهم، تصور حياتهم وآمالهم، وتصور الطريق الوحيد للأجيال التي تقاوم العدو وتجعله عاجزاً أمام هؤلاء الأبطال بحجارتهم وتصميمهم، وشجاعتهم وإيمانهم.

كما أنها تضع هذه الصُّوَر أمام شباب الأمة وفتيانها "ذكوراً وإناثاً" ليروا كيف يصنع الإنسان مستقبله، وكيف ينالُ حريته الحقيقية، وكيف يتخلص من أعدائه، والظلم الذي ينزل به، وكيف يحقق كرامته، ويعيد أمجاد أمته، وهي تبيّن لهؤلاء الشباب أيضاً في طول البلاد الإسلامية والعربية وعرضها أنَّ عدوهم المتمثِّل في إسرائيل، لن يرضى بفلسطين وحدها، وإنما يهدف إلى احتلال الكثير من بلدانهم، وتدمير كيانهم، والسطو على ثرواتهم، واستباحة أرضهم وعرضهم، وأن موقف المتفرج، لن يمنعَ عدوهم من تنفيذ مخططاته الواسعة، التي يرونها متمثلة في قتل الأطفال والشيوخ، وهدم البيوت، والقضاء على كل مظاهر الحياة، وأن الخوف من هذا العدو، سيدفعه إلى استمرار الطغيان، وتوسيع العدوان، وابتلاع الحقوق والأرض.

إن أبناء فلسطين سطَّروا لأبناء المسلمين في هذا العصر أروعَ البطولات، ورسموا لهم طريق النصر، وأقاموا جسراً من الفداء والجهاد يربط الحاضر الذي نشهده في فلسطين، بالماضي الذي قرأنا عنه في حطين واليرموك والقادسية وبدر.

ومثل هذه الكتب الموجّهة إلى الشباب والفتيان، إسهامات جيدة في تحريك المشاعر، وحثّ الهمم، وإيقاد الأحاسيس لرفد الجهاد بكل السُّبُل، والعودة إلى طريق الإسلام، لاسترداد الحق، والعزة والنصر، وهي مثلٌ لإحساس الأديب بمسؤوليته وواجبه نحو أمته ودينه ومستقبله، وترجمة لما ينبغي أن يكون عليه الأدب، ليكون تجربة صادقة، وصورة حية، بعيدة عن الأحلام الشيطانية، أو الصُّورِ المعربدة، أو الفلسفات التائهة. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه أدبنا في هذا العصر، وأن يكون عليه أدباؤنا، ليكونوا حقاً أبناءَ هذه الأمة، وروَّادَ المستقبل، وحَمَلَةَ الأقلام المُخلصة، والكلمة المعبِّرة.

ولَكَمْ يتمنى المرءُ أن يكون هناك مؤسسات ثقافية خيرية تعنى بنشر مثل هذه الروايات وترجمتها إلى العديد من لغات البلدان الإسلامية وغيرها، ونشر الأعمال الأدبية والفكرية التي تؤثّر في صياغة أبناء المستقبل، وإيقاظ الأجيال المختلفة، ولا أظنّ أن شاباً أو فتى أو فتاة يقرأُ هذه الروايات إلا ويتمثَّل الصورة الحقيقية، وتتوقّدُ في نفسه مشاعر الفداء والتضحية، والبحث عن سبيل النصر القادم إن شاء الله.

فجزى الله أخانا الأديب عبد الله على هذه الروايات والطموحات وبارك بعطائه الأصيل، الذي يدلُّ على شعور صادق بالمسؤولية، ووفَّقَهُ لكلِّ خير.