الاتجاه الحضاري في النقد الأدب "العصر العباسي نموذجاً"

الاتجاه الحضاري في النقد الأدب

"العصر العباسي نموذجاً"

أدهم مسعود القاق

إن مصطلح الاتجاه يتعلق بمجمل التغيرات التي تطرأ على مجتمع، فهو موضوعي، وتستغرق المفاهيم المتعلقة به الماضي والحاضر والمستقبل، ويتضمن كلّ اتجاه جديد تيارات متعددة تحاول التصدي لعملية التغيير فمنها العلماني ومنها السلفي أو الوسطي، أو التيار القومي وهكذا...، ولابد لكلّ تيار أن يستعين بمناهج علمية، بصفتها دلالات لغوية تحيل للخطة والطريقة والهدف والسير الواضح، وينطلق المنهج عادة من مجموعة من المعطيات والمسلمات والفرضيات والأهداف والغايات بالاستعانة بنظريات علمية ونقدية تحمل ضوابط وقوانين مثبتة علمياً، وأيضاً نجد لكل تيار منتميه الذين لهم ميولهم  ومدارسهم التي تعكس تصورات رواد كل تيار والفاعلين به، إلى أن يتشكل المذهب المنضبط بقواعد، والمتسم بسمات عامة تعبّر عن روح الاتجاه الموضوعي، وقد تكوّن المذهب الكلاسيكي نتيجة الاتجاه لعام لعصر النهضة الأوروبية الذي استدعى التراث اليوناني والروماني وحاكى نتاجهما الثقافي، واستلهم روح التوق للمعرفة من أسلافهم وروح المغامرة التي قادتهم للكشوف الجغرافية و لفهم علمي للكون، ثمّ عندما ساد في  أوروبا اتجاه الثورات الشعبية تماشياً مع انتصار الثورة الصناعية تكوّن المذهب الرومانسي، ثم ظهر المذهب الواقعي بتفرعاته المعبّرة عن وعي البشرية لحقيقة الظلم والقهر اللذين تستند إليهما الطبقات المهيمنة، ودعوة الطبقات المقهورة للثورة وإخضاع الواقع للوعي، وفي تاريخ الحضارة العربية الإسلامية مثالاً آخراً وهو المذاهب الفقهية الأربعة التي اختلفت فيما بينها، ومع المذهب الجعفري، إلا أنّ لكلّ من هذه المذاهب أصولاً واضحة مستمدة من التيارات التي كانت سائدة في عصرهم، والمعبّرة جميعها عن اتجاه موضوعي تأسّس على الثراء والغنى في الثقافة العربية نتيجة الإتصال والمثاقفة مع حضارات الغير، والترجمة عن لغاتهم.

        ورثت الحضارة العربية الإسلامية الحضارة البيزنطية ذات الأصول اليونانية الشرقية المنتشرة وقتئذ في أنطاكية والإسكندرية وحرّان والرها ونصيبين، والحضارة الساسانية التي كانت سائدة في بلاد فارس والعراق والمحتفظة بجذورها المستمدة من الحضارتين الهندية والصينية ومن التراث الآسيوي بشكل عام،  وحضارات شمال وجنوب ووسط شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى تراث المصريين القدماء وممالك الشرق القديم. وقد سادت المثاقفة بين هذه الشعوب عندما بدأ المسلمون ينقلون ويترجمون هذا التراث المتنوع إلى اللغة العربية حتى انصهر تراث الحضارات الثلاث، وبدأ إنتاجهم وإبداعهم ينحو بدروب جديدة عمادها الراسخ هي اللغة العربية المكتوبة، وتجاوزوا حال المشافهة والرواية التي كانت سائدة لديهم، ومن الواضح أنّ "الانتقال من الشفوي إلى المكتوب يشكّل تحوّلاً مهمّاً يتطلب الاستعداد للفكر المجرد، الصوري أو المنطقي وللعقلانية في  التفكير"[1]، وبامتلاك العرب للفكر التصوّري ولوعي مهامهم وسط متغيرات طرأت على حياتهم، وبالاستحواذ على تجارب ومعلومات ومعرفة الثقافات المتنوعة، قدموا للعالم ما عرف بالحضارة العربية الإسلامية، التي تعدّ ثاني حضارة كونية غيّرت وجه التاريخ بعد الحضارة اليونانية وقبل الحضارة الأوروبية الحديثة اللتين غيرت كلّ منهما وجه التاريخ في  زمنيهما أيضاً.

إن البحث بمكونات التراث الإسلامي هو دعوة لقراءته مجدداً ونقده، وهذا يقتضي الكشف عن مكوناته التي تعيق حركة التقدم والتحرر في الحاضر ،و"إظهار حقائقه من خلال كشف مايراه الحاضر خطأ بأنّه موروث، وهذا يتطلب التأمل بنزاهة التأويلات الماضية تأملاً بنزاهة التأويلات الحاضرة"[2]، وقبل الدخول في موضوعنا المتعلق بالماضي لابّد ان نؤكد من جديد ان الحاضر مشروط بأحوال الماضي، بالقدر الذي يمثّل تراثاً يتضمنه، واللجوء إلى التاريخ ليس ترفاً، بل محاولة لفهم الحاضر المعيش والخصام مع التراث لإعادة التفكير فيه، وصياغته من جديد ضرورة لتجاوز مآسي وبؤس الراهن.  

          بدأت الحضارة العربية الإسلامية بالتبلور في العراق بعد أن أسس الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور"(136- 158 هـ) مدينة بغداد (145- 149 هـ) وجعلها عاصمة لدولته، ومقراً للخلافة العباسية، وعاصمة العالم الإسلامي كله. ولهذا صارت مدينة دولية، واكتسبت صفة عالمية، وسكنها عناصر من مختلف الأجناس والملل والنحل، إسلامية وغير إسلامية، مثل الفرس والهنود والسريان والروم والصينيون وغيرهم، وقد تعايشت هذه العناصر بثقافاتها وتجارتها وعلمها وفنّها، فعربت ألفاظ يونانية وفارسية وهندية كثيرة، فازدادت اللغة العربية غنى،  كما ترجمت كتب كثيرة عن اليونانية فنقلت حكم سقراط وأفلاطون وأرسطو، مما أدّى لظهور كتب باللغة العربي المستجدة تبعاّ للاتجاه الموضوعي المستجد، مثل كتاب الشعر لقدامة بن جعفر  وعيون الأخبار لابن قتيبة، والبيان والتبيين للجاحظ. كما ترجمت بعض أعمال العالم السكندري القديم بطليموس في علم الفلك والرياضيات ومنها "المجسطي" ، وعن الهندية ترجمت أعمال كثيرة ، منها كتاب بوذا الذي دعوه بـ"سد هارتا" والمذهّـب تحت عنوان "السند هند" كما دخل علم الحساب الهندي بأرقامه المعروفة بالعربية، وعن الفارسية، ترجم كتاب "كليلة ودمنة" الذي كان هندياً في الأصل، وفيما بعد الشاهنامة، كما انتقلت، أيضا لعبة الشطرنج الهندية الأصل عن طريق الفرس إلى العرب.

في خلافة هارون الرشيد (170 هـ/ 786م،ـ 193هـ / 808 م) أسس في بغداد في "بيت الحكمة" لأعمال النقل والترجمة، الذي ازدهر في عهد ولده المأمون، فترجمت فيه أمهات الكتب اليونانية القديمة، وأقيمت فيه المراصد، ورسمت فيه الرسوم (الخرائط) الجغرافية، وفي مجال الطب والعناية بالمرضى أنشأ العباسيون عدداً كبيراً من البيمارستانات أي المستشفيات.

ثمّ ازدهرت العلوم العقلية والتجريبية الإسلامية، في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وتزامن معها ازدهار الأدب، فقد تطور هو الآخر في العصر العباسي تطوراً كبيراً، ونهج الشعراء فيـه مناهج جديدة في المعاني والموضوعات والأساليب والأخيلة، وغير ذلك من فنون الشعر المختلفة التي تناسب مظاهر التحضر، ومن أشهر هؤلاء الشعراء، أبو نواس الذي ذاعت قصائده في الخمر والغزل والصيد.. الخ، و" أبو تمام الطائي " المشهور بنزعته العقلية والفلسفية في الشعر، وتلميذه "أبو عبادة البحتري " صاحب الوصفيات والمدائح الخالدة، و "ابن الرومي " المعروف بطول نفسه وغزارة شعره، و" أبو العتاهية" الذي اشتهر بالحكمة والغزل الرقيق، والمتنبي، شاعر العروبة والنزوع للتفرد والتمرد، وأبو العلاء المعري، شاعر الحكمة والفكر المختلف، وغيرهم كثيرون. هذا إلى جانب الشاعرات والأديبات من النساء اللائى لعبن دوراً هاماً في الحياة الأدبية وفي الأحداث المهمة في المجتمع الإسلامي مثل "رابعة بنت إسماعيل العدوية" التي سلكت طريق الزهد والتصوف والأميرة علية بنت المهدي والأميرة "العباسة بنت المهدي، وفي النقد كالصولي والسجستاني وابن جني والجناني، كما نشأت الحركة الصوفية مع البسطامي والحلّاج وابن عربي.

نظم الحضارة السياسية:

حاكى العباسيون الأساليب والنظم الفارسيّة في الحكم والسياسة، ومنح الخلفاء لأنفسهم قداسة، وسلكوا طريق البذخ والأبهة، حتى كان مجرد ظهور الخليفة بين الناس حدثاً كبيراً، وقد الشعراء مواكب الخلفاء ومنهم البحتري الذي وصف موكب الخليفة المتوكّل في عيد الفطر قائلاَ:

فأنعم بيوم الفطر عيداً إنّـــــه / يوم أغرّ من الزمان مشــــهر

أظهرت عز الملك فيه بجحفل / لجب يحاط الدين فيه وينصر

وتبدو صورة الخليفة عند أبي عتاهية محاطة بهالة أسطورية، وكانّه جنيّ لا إنسيّ، فهو يسابق الريح العاصفة:

يقول للريح كلما عصفت / هل لك ياريح في مباراتي

فن العمارة ووصف القصور

وإذا انتقلنا إلى عالم الفنون والعمـارة، نجد أن العباسيين اهتموا بمجال التعمير، ففي العمارة بنى أبو جعفر المنصور على نهر دجلة بغداد (145- 149 هـ) على شكل دائري، وهو اتجاه جديد في بناء المدن الإسلامية، وإلى جانب العمارة وجدت الزخرفة التي وصفت بأنها لغة الفن الإسلامي، وتقوم على زخرفة المساجد والقصور والقباب بأشكال هندسية أو نباتية جميلة. وقد تبارى الخلفاء العباسيون في بناء القصور الضخمة والمترفة محاكاة لقصور الساسانيين، فكانت تحتوي على بساتين وقنوات وبرك ونافورات وأبنية فيها قباب، وحيطانها مزخرفة بالنقوش والصور والفسيفساء، والرخام، وعلى نوافذها وشرفاتها الستائر الحريرية، وعلى أرضياتها السجاجيد والبسط والمناضد والتحف المرصعة بالجواهر.

وقد ذكر انً المتوكّل بنى عشرين قصراً، وكان سريره من الذهب، عليه تمثالا سبعين عظيمين، كما بنى ابنه المعتز قصر التاج، والمعتمد قصر المعشوق على دجلة. وكانت هذه القصور الفاخرة متاحة لعلية القوم والشعراء ومنهم البحتري الذي انبهر بهذه القصور وحدائقها حيث عاصر ستة خلفاء عباسيين، وكان مقرّباً من أغلبهم، فوصفها مازجاً بين ريشة الرسام وسليقة الشاعر فكان منشىء الداريّات، مازجاً في دارياته بين الوصف والمديح ومنها:

لم أر كالمعشوق قصراً بدا / لأعين الرائين غير المشـــوق

هذاك قد برز في حســــنه  / سبقاً، وهذا مسرع في اللحوق

ثم وصف البحتري قصر الكامل الذي بناه المعتز، فصوّر حيطانه البلّورية الشفّافة المتموّجة كأنّها أمواج تتدافع نحو الساحل، والجدران كالغمام الزاهية، والبستان المحيط بالقصر وقد توشّى بألوان الطبيعة، ومنها:

وكأنّ حيطان الزجاج بجوّه / لجج يمجن على جنوب سواحل

وصف القصور العائمة:

بنى خلفاء بني العباس قصوراً عائمة فوق صفحة النهر، ومنها قصر الزّو الذي بناه المتوكّل، وقد استعمل للهو الخلفاء وشرابهم، وممارسة الصيد، وقد وصفه البحتري ومن قصيدته:

ولا جبلاً كالزّو يوقف تارة / وينقاد إمّا قدته بزمام

كما وصف ابن المعتز قصر الثريا، فأشاد بهندسته المعمارية، وحيطانه المتلألئة، وسقوفه وصحنه ورياضه ومياهه فيقول:

ما للثريا شـــــــــــبيه / فيـــــــــــــما بنى قطبان

حيطانه هنّ نـــــــــور/ والســــــــقف من نيران

والصحن ما شاءت الـ / ـعين من رياض حسان

والماء يغدو إليــــــــها / في جدول ريـــــــــــان

إنّ فخامة القصور، ومظاهر التحضَر والبذخ في عمارة العباسيين هيئت ظروفاً مناسبة لبروز أشعار تصفها بصور أخّاذة وتضعها بمقام المعجزات، إلى أن انتشر الاتجاه الحضاري استجابة لدرجة الرقيّ التي وصل إليها العباسيون.

الأزياء:  

وهي مظهر حضاري عبّر عن الاتجاه الموضوعي وروح العصر، فشاعت الأزياء غير العربية تأثراً بالفرس، واستجد لبس القلانس والقميص والقفطان والسترة وانتعال الأحذية، وكان للجواري دور كبير في شيوع زينة النساء وأزيائهم، والحلى والنقش على الأردية، وهاهو ابن الرومي يشير إلى الأزياء الأجنبية:

وأنت امرؤ ترضى بها وبلبسها / وقلبك مشغوف بحبّ البرانس

الأطعمة:

إنّ المثاقفة التي حصلت بين الشعوب التي انصهرت بالإسلام طالت الأطعمة الجديدة، وعرفت بغداد وقصورها أنواعاً متنوعة من المأكولات، ولعلّ ابن الرومي أكثر الشعراء وصفاً للطعام، نظراً لنهمه الشديد وخبرته بإعدادا الطعام وتذوقه، ومنها:

ومتّع العين به ملياً / وأطبق الخبز وكل هنياً

إنّ التنوّع في الأطعمة، لاسيما الفارسية جعل ابن النديم يصنّف أنواعها وفن الطبخ، وأيضاّ ألّف ابن قتيبة كتاباً في الأطعمة والأشربة، وفي كتاب البخلاء للجاحظ أسماء ، للأطعمة ومنها السباخ، المَضيرة، الشبارقات، الهريسة، ومن الحلوى: الفطائر والرقاق، والفالوذج، الجلّاب، كما كتب الكثير عن آداب الطعام مما شكّل إضافة على انتشار الاتجاه الحضاري في الأدب في  القرنين الثالث والرابع الهجريين.

الاحتفال بالأعياد الأجنبية:

وأشهرها عيد النوروز، عيد رأس السنة الفارسية، مقترنا بقدوم الربيع، يقول ابن الرومي:

فاسعد بنيروزك المسعود طالعه / يا بن الأكارم في خفض ونعماء

قد كان عيداً مجوســــــياً فشرفه / ملهاك فيه وما تلهو بفحشــــــاء

ومن الأعياد الفارسية التي احتفل بها العباسيون عيد المهرجان، ويصفه الثرواني:

أتاك على الدخول المهرجان / تشيّعه المعارف والقيان

ثم يصف في قصيدته طقوسه الاحتفالية، وما يصاحبه من شراب وغناء، ويذكره لتعظيم لكسرى الفارسي.

الملاهي والألعاب ووسائل التسلية:

ومنها مهارشة الحيوانات، حيث يتفرج الخلفاء والخاصة والعامة على نطاح الديكة والكباش، وعراك السباع، وانتشرت بعض الحوانيت المخصصة لتدريب الحيوانات والطيور، وانتشرت أيضاً ضروب من التمثيل الهزلي وكان من يؤدونه يدعون بأصحاب السماجة، لأنهم يقلدون الناس بحركاتهم، وأيضاً انتشر خيال الظلّ.

الموسيقا ووصف المغنيات:

  ازدهرت الموسيقى وتطورت آلاتها، لاسيما في مدينة بغداد، ومن أشهر المغنين والمغنيات في العصر العباسي الأول: "قمر البغدادية" و" إبراهيم الموصلي "، و"إسحاق" الملقب بزرياب  الذي هاجر إلى المغرب والأندلس وحمل معه إلى هناك الموسيقى الشرقية، وقد اكثروا من وصف المغنيات وأدوات الطرب، وبرز في هذا المجال ابن المعتز العرف بالموسيقا والأنغام والعزف على العود، وقد قال عندما التقى زرياب المغنية:

أشتهي في الغناء بُحّة حلقٍ / ناعم الصوت متعب مكـــدود

لا أحب الأوتار تعلو كمالا / أشتهي الضرب لازماً للعمود

كما وصف صوت مطرب:

خاط أوتاره بنغمات صوت / مثل ما خيط كلّ جسم بظله

ووصفه لعازفة على الناي:

وذات ناي مشرق وجهها / معشوقة الألحاظ والغنج

كما أنّ ابن الرومي أنشد قصيدة وحيد أبدا فيها إعجابه بجمالها وحلاوة صوتها في الغناء، وبدأها بقوله:

يا خليليّ تيمتني وحيد / ففؤادي بها معنى عميد

صورة المجتمع في شعر ابن الرومي:

صور ابن الرومي مظاهر الحياة البغدادية على اختلافها، وعبّر من خلال قصائده عن حياة مجتمعه وحياته الشخصية، جمع ابن الرومي في شعره بين الرسمي والشعبي، والذاتي والموضوعي، كما نقد النقائص والسلبيات في بيئته الاجتماعية، ومنها لهو ولاة الأمور وانصرافهم عن الفئات الشعبية ومنها:

أتراني دون الأولى بلغوا / الأمال من شرطة ومن كتّاب

وتجار مثل البهائم فازوا /  بالمنى في النفوس والأحباب

كما ارتفع صوته بجرأة نادرة منتقداً بني العباس المنغمسين في الترف غير مبالين بأحوال الرعية الفقراء، واهتمّ بوصف الكادحين وهاهو يصف حمّالاً بائساً:

رأيت حمالاً مبين العمى / يعثر بالأكم وبالوهد

محتملاً ثقلاً على رأسه / تضعف عنه قوة الجلد

كما لابن الرومي أشعاراً يصف بها معاناة عامل يقلي الزلابية، ووصف الخبّاز الماهر.

كما أن ابن الرومي رسم صوراً مختلفة للجواري والقيان، وقد ذكر كثيراً من أسماء المغنيّات والجاريات والراقصات ومنهم جلنار ووحيد وبستان وبدعة.  

ولقد واكب هذه النهضة العلمية نشاط صناعة الورق، ونسخ الكتب وتصحيحها وتجليدها مما ساعد على انتشار الفكر الجديد.

 وكان أبعد الأسباب أثرا في تبدل المجتمع الإسلامي الزواج من غير العربيات، فقد  تبدلت الحياة البيتية، في المطعم و الملبس و آداب السلوك، وفي نشوء جيل جديد له عمومة عربية وخؤولة فارسية أو رومية أو تركية، وكان في البيئة العباسية طبقة أثرت في حياة المحدثين تأثيرا عميقا، هي طبقة الجواري المثقفات والمعلمات في شتى أصناف العلوم: كالفقه و الكلام، وأنواع الفنون كالغناء والرقص والشعر، وقد كانت بعضهن شاعرات، ورغب الرجال في الزواج منهن، فأنجبن الأولاد، وكثيرا ما كان أبناء الجواري أشهر و أقدر من أبناء الحرائر، ومنهم المنصور والرشيد والمأمون والمعتصم، وهكذا أصبح المسلمون من العرب والترك والفرس والروم يفخرون بانتمائهم للإسلام ويشعرون شعورا قومياً عربياً، لأن اللغة العربية أصبحت لغتهم، والتاريخ العربي تاريخهم، والحياة العربية حياتهم.

كان للحياة الاجتماعية والمناخ العام للعصر بما فيه من تقلبات سياسية وتيارات حضارية متداخلة في الأمة العربية والإسلامية المتحدثة بالعربية، والأخرى ذات الثقافات القديمة المتعددة، آثارها في الحياة الثقافية العامة، وأهمها نشوء الاتجاهات المتعددة تفاعلاً مع الجديد الذي يفيض غنى وتنوعاً في الثقافة العربية الإسلامية، وعلوم الأوائل أو العلوم الدخيلة الوافدة فظهرت علوم القرآن والحديث واللغة والشعر والتاريخ من جهة، والفلسفة والمنطق والفلك والحساب والعلوم الطبيعية والطب والفنون كعلم الموسيقى والتصوير... وما إلى ذلك من جهة أخرى على شكل اتجاهات جديدة أو قديمة.
إن هذا الغنى استولد اتجاهاً حضارياً في  الثقافة والشعر العربي عبر عن هذا الغنى بالمعارف والتجارب والثقافات الوافدة، والذي تجلت مظاهرها في العادات الجديدة التي أصبحت تطغى في الحياة اليومية للعرب كالمأكل و الملبس. فكان لابد لهذا التحضر والازدهار في مظاهر الحياة الاجتماعية والاتساع في المعرفة، أن يكون له انعكاس على الحياة الفكرية والأدبية وخاصة الشعر.

وقد أسلفنا شواهد عديدة بمعرض حديثنا عن مظاهر التطور الحضاري التي لاقت لها صدى في تعبيرات الشعر وصوره إبان  العصر العباسي، في القرن الثاني والثالث والرابع للهجرة مما شكّل غنى في  الاتجاه الحضاري للأدب، حيث اهتم الشعراء بوصف ما تراه أعينهم من بهاء الترف في الحياة والبناء والفكر فوصفوا القصور المترفة ومافيها من فرش وأثاث ومايحيط بها من حدائق غناء تغني فيها الطيور وتجري فيها الظباء والغزلان، ووصفوا الآلات الموسيقية و الألعاب، ومن ذلك وصف المأمون للعبة الشطرنج وتشبيهها بمعركة حربية حامية بين عسكريين. كما وصفوا رحلات الصيد والطرد، ووصفوا الخمرة وأدواتها وسقاتها، ومجالسها، وما يتردد فيها من أصوات المغنين والمغنيات و بذلك تفرَّع عن فن الوصف فنان جديدان هما (الطرديات, و الخمريات. كقول البحتري في قصر أنوشران الفارسي: :
فإذا ما رأيت صورة أنطـــــــــــــا / كية، ارتعت بين روم وفُرســـــــس
والمنايا مواثلٌ، وأَنُوشـــــــــــــــــ / وان يُزجي الصفوف تحت الدرفــس
في اخضرار من اللباس على أصـ / ـفر يختال في صبيعةِ ورســــــــس

من الفنون الشعرية التي حافظت على رواجها وتطورت في العصر العباسي ضمن الاتجاه الحضاري فن الوصف الذي شمل الطبيعة المطبوعة والطبيعية المصنوعة .. ولهذا اهتم الشعراء بالرياض والقصور، والبرك، والأنهار، والجبال، والطيور، والمعارك، ومجالس اللهو، وغير ذلك، مع اهتمامٍ بالموسيقى الصوتيّة ذات الوزن المطرب، وهذا ما يُناسبُ التعبير عن مجالس الأنس وأوقات الصفاء ومنها: 
وصف أبي العتاهية لنهر دجلة وما يحيط بشاطئيه من خضر المروج، وما تحمله من قصور عائمة تميلها ومنها:
إذا جلت الشمس ألوانها /  تسير العمارات أيسارها

وأيضاً قول البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً  / من الحُسن حتى كاد أن يتكلما
وقم نبه النيروز في غسق الدجـى /  أوائلَ ورد كُنَّ بالأمين نُوَّمـــا
يفتقها برد النـدى، فكأنــــــــــــــه / يبُثُ حديثاً كان قبــــــــل مُكتَّمَا

إن الاتجاه الحضاري في العصر العباسي أفرز الكثير من تيارات متباينة في المنطلقات والأهداف، فمنها ماهو محافظ ومنها ماهو محدّث ضمن حقول معرفية كثيرة، ولكنها سارت كلها جنباً إلى جنب مع التطور الحضاري للأمة الإسلامية، وسعى المنتمين لهذه التيارات لتمثّل القيم الجديدة ضمن الاتجاه الحضاري العام مطاوعة للجديد، أو كانوا يرفضون آثاره محاولين استدعاء تيارات تعيق فعله التاريخي، وإحلال رؤاهم ومثلهم على الواقع، وقد عرف في هذا العصر اتجاه الزهد، ونشأ في البصرة بعض الزهاد والنساك مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ومالك بن دينار. ولم يكن الزهد في هذا العصر مجرد انصراف عن نعيم الحياة وملاذها بل كانت وراءه نزعات فكرية، ومواقف رافضة للظاهر الاتجاه الحضاري.

هذا العرض العام لواقع الثقافة بظل الاتجاه الحضاري السائد في القرون الثلاثة الثاني والثالث والرابع الهجري، هو محاولة لاستلهام توجهّات رجال الثقافة في ذاك العصر، وانفتاحهم للثقافات الأخرى، وانتصارهم لفعل المثاقفة الذي استوجبها الاتجاه العام الصاعد نحو التقدّم، ثمّ لاستلهام روح النقد التي كانت سائدة وقبول آراء الغير، والإقرار بالإختلاف على صعيد البنية الثقافية، وإن كانت سلطة السياسة في ذاك الوقت قامت بجرائم قتل بحق المغايرين بالرأي، فالسبب الرئيس لتلك السياسات كان نتيجة استدعاء الماضي وتأويله وعدّه مقياساً لصحّة الآراء التي ترمي أخيراً إلى تحقيق مصالح الطبقات الأرستقراطية، على حساب الطبقات الفقيرة.  فالحداثة لاتكون بالعودة للسلف الثابت والمستند للكمال بالمعرفة والنقل عنه لمعالجة الحاضر، إلّا بالمقدار الذي تُفهم الآليات التي تفعل فعلها سلباً أو إيجاباً في  الحاضر، ومن الجدير بالذكر انّ السلفيين هم الأكثر جهلاً بالتراث لأنهم لايدركون أن حقائقه متغيرة بحسب المعطيات التاريخية الجديدة في كلّ عصر،وقد ذكر ادونيس: " إنّ مأساة الثقافة العربية جاءت من عدم لقاء هذين التيارين (السلفي والحداثي)، لقاء جدلياً، بل التقيا لقاء تناقض وعنف، بحيث قضى الواحد على الآخر، وقد شاءت الظروف أن يكتب النصر للآخذين بالاتباع والمنتصرين للثبوت"[3]   الحداثة هي قول مل لم يعرفه موروثنا، أي قول المجهول وليس المعلوم، لأنّ آفاق المعرفة غير محدودة كما يتوجب ان تفهم الحداثة, أمّا السلفيون فيهملون نتائج الثورات العلمية، والاجتماعية  على الصعيد الكوني، ويسعون لإخضاع سلطة المعرفة للسلف، وبذلك فهم لن يكونوا جاهلين بالحاضر فحسب، بل جاهلون بماضي الأمة، الذي كما اسلفنا كان مثالاً صارخاً للقبول بالآخر وبالتشجيع على المثاقفة والأخذ بأسباب الحياة المعاصرة.    

               

 [1] - اندريه-جاك ديشين، استيعاب النصوص وتأليفها، ترجمة، هيثم لمع(المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1991م) ص91

[2] - ديفيد كرونزهوي، النظرية الهرمونطيقية والتاريخ، ترجمة خالدة حامد ( مجلة فصول: القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ع59، ريبع 2002م) ص197

[3] - أدونيس، الثابت والمتحول، ج1 ( دار العودة: بيروت، ط1، 1974م) عن مقدمة بولس نويا، ص16