قراءةٌ في "وجوه المرايا المُتصدِّعة"

قراءةٌ في "وجوه المرايا المُتصدِّعة"

للشاعر: صالح أحمد

صالح أحمد

[email protected]

ثريا نبوي

بلغةٍ شعريَّةٍ مُدهشةٍ، يأخذنا الشاعرُ في حِواريةٍ سياسيةِ المقصد، شاعريةِ البناء؛ ليُحدثنا عن العنفِ المجتمعي، وكيف انزلقَ إخوةُ الوطنِ إلى هاويتِه، مُستنكرًا، مُتعجّبًا، ناصحًا، عاتبًا، مُفلسِفًا مَنطقَ التغييرِ وحتميته ،

بكل ما أوتِيَ مِن قوةِ الحرفِ وجماله، وإبحارِه المعرِفيّ وسحرِ بيانه، واشتعالِ غضبتِه مِن الغفلةِ ؛ ذلك الاشتعال الذي أحسستُ به يُنضِجُ خلايا الطينِ الساكنةَ الأرواح

ويحرق كل مشاتل التّسويف والتّغيير بقوله:

"لن تزهر أيامي لأني انتظرت طويلا بَرَكَةَ الأمطارِ القادمة مع غيم الشّفاعة..

ذاك كان الدّرس الوحيد الذي أفدتُ من فلسفة اللاجدوى"

تُطالعُنا لغةُ الخطابِ في قصيدة النثرِ هذه - تلك التي تزهو على أوزانِ الشعرِ بإيغالها في الشاعريةِ حَدَّ الإبهار- من فوقِ منصّةٍ تعلو وتُحلِّقُ بحديث السياسةِ في أفقِ الإبداع؛ لِتنزِعَ عنها لِحاءَها شرِسَ الجفافِ، فتتدفَقَ منها عُصاراتُ الحقائقِ شعرًا يرسمُ قسوةَ الواقعِ ودمويَّتَه ، واختفاءَ وجهِ الإنسانِ فيه؛ بالاختلاف ، والاغترابِ، والأنانيةِ، والعنجهيةِ، والأعذارِ الكالحة.

إنه نَصٌّ يغوصُ في خِلجانِ السياسةِ ولا يكونُها، يحفِزُ حروفَ لهفتِه على الأهلِ والعشيرةِ بـحكمةٍ بالغةٍ فهل تُغني النُّذُر ؟!

لهفةٍ تَفلُّ العنفَ وخطابَهُ وأسبابه، ودعايته الممجوجة، وما تفتّقت عنه اختراعات صانعي أدواته؛ من تنمية موهبة بناء الأضرحة؛ موهبة قتل الياسمين للياسمين!

لهفة تسوق الإقناعَ وتسوّقه بلغة الانصهار مع المُخاطَب، فهو تارة المعنيّ بهذا المنطق الجدلي العقلاني المُفحِم:

"مَن مَنَحَني ملحَ المَنفى...

من خَدّرَني بعِطرِ اللّهاث...

مَن قيّدَني لمَراسي الأحلام العتيقة..

مَن صمّ أذُنَيَّ عن زَحفَةِ السّاعة المُتَسارِعَة...

مَن أعماني بغُبارِ غَدرَتِهِ التي حَجَبَت مَواسِمَ الشّمسِ عن فَضاءِ مُخَيَّمي...

لَن يَمنَحَني سوى عاصِفَةَ سلاحِهِ حينَ أحاول النّهوض."

- وتارة يتحدّث بضمير الجماعة باعتباره أحد أفنانها المغرّد فوقها عصفور الموعظة:

"تحتَ هولِ الرّهبَةِ؛ لن نفهمَ موعظة الموتِ الوحيدَة.

وحينَ نألَفُ زحفَ الحُطامِ فينا؛ نكونُ قد أنجَزنا قانونَ تَطَحلُبِنا!

ولا تعودُ نهاراتُنا سوى منافِذَ للهاوِية...

ويُصبِحُ التِصاقُنا بالمجهولِ مفتاحَ فَراغاتِنا اللا مُتناهِيَة..

حيثُ تمنَحُ مواسِمَ الضّبابِ أحلامَنا فضيلَةَ التّشَرنُق..

وأمنحُ نفسي شرفَ الوقوفِ عند موعظةِ الموتِ الوحيدة التي أضفى عليها الشاعر قدسيةً وجلالاً عابرَينِ للزمانِ والمكان؛ لأفسِّرَ مقصدَه فأتساءل: وهل كانت هذه الموعظة سوى أن من يذهبون لا يعودون، ومعهم تذهبُ كل ألوانِ الحياة وأحلامُها، ويبقى الاعتيادُ على الفقد مدخلاً إلى صمتِ الفناء.

 وتتحورُ اللهفةُ فتأخذَ مناحيَ شتى:--

- تقريرًا:

" لم ولن يتغيّرَ اولئك الذين أصابهم هذيان الحروب؛

حتى نكفّ عن التّصديق بأنّ حضارة الشّوارِعِ يمكن أن تَهَبَنا شيئا غير الضّياع..

ونحنُ ذاهلونَ خلفَ سرابهم...

والسّاعاتُ تَفِرُّ منّا ... والبيوتُ تختفي في ليل الجَلّادين...

والوعودُ لم تكن يوما سوى حَطَبٍ يتوقُ إلى شرارة..."

- وسؤالا:

"كم مرّةً سنموت في جريِنا خلفَ الحياة التي لم ننل منها أكثر من وجودنا فيها؟!"

- وحكمة خالصة مدهشة:

"لكم آمنت أنّ الخوفَ من الموتِ أشدّ ترويعًا للرّوحِ من الحقيقة البسيطة للموت."

-  وتتسارَعُ وتيرة اللهفة:

"التاريخُ لا يوثّقُ تفاعلات الضّجر.

ولا يحفظ شيئا عن الأحلامِ المُغَطّاةِ بطحالِبِ عجزِها.

ولا يَعبَأُ بالذينَ يَبحثونَ عنِ الموطِئ الآمِنِ لأفكارِهم الهشّة...

تلك التي أضاعت بجُبنها مفاتيحَ انفاسِها...

وتركت الصّمتَ يقودُها بعيدًا عن الحيّ...

جنّةُ التاريخِ تُسحَقُ فيها الزّهورُ والفَراشاتُ... ولا تحفلُ بموتِ العصافيرِ!"

ليَتوارى القلمُ خجلا أمام هذا التّناول الشّاعريّ النّدي الرّطب... لجفاف حقائق السّياسة، وأحاجيها المطلسمة...