الأدب الإسلامي: إبداع ومضمون ومبدع واصطلاح

الأدب الإسلامي:

إبداع ومضمون ومبدع واصطلاح

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

تفضل الأستاذ الكريم سعيد الكرواني في عدد المسلمون الصادر بتاريخ 27 / 4 / 1413هـ بكتابة مقال عنوان "رد هادئ على الدكتور جابر قميحة" . وهو رد ومناقشة للقاء تم بيني وبين الأستاذ محمد بركة نشرته المسلمون قبل ذلك بعدة أسابيع أبرزتُ فيه رؤية خاصة لمفهوم الأدب الإسلامي.

 والحقيقة أن لقائي بالأستاذ بركة امتد إلى ما يزيد على ساعتين، وما نشر لا يفي بكل ما طرحته في الموضوع؛ لأن ذلك يستغرق صفحتين من صحيفة تحمل من هموم المسلمين وقضاياهم الكثير والكثير، فشكرا لمن أدار الحوار ، وشكرًا لصحيفة (المسلمون) الغراء، وشكرًا للأستاذ الكرواني لمتانة لغته وعمق فكره، وحماسته، وإخلاصه لمفاهيم يؤمن بها عن ثقة ويقين.

الاختلاف ضرورة حيوية..

وأؤكد في هذ المقام أن مفهوم المصطلح (الأدب الإسلامي) ـ وإن تحددت خطوطه الرئيسية ـ لا يمكن أن يكون "جامعًا مانعًا" في يوم وليلة، بل إن ذلك قد يستغرق أمدًا طويلاً.. ربما سنوات أو عقودًا. وأنا أعتبر أن ذلك في مصلحة الأدب الإسلامي، والذين يصرون على "وحدة التعريف" بصفة عاجلة إنما دافعهم إلى ذلك الحماسة وحرارة الإخلاص لهذا الوليد الذي يريدون أن يروه يافعًا بين يوم وليلة.

 وأراني أشبه "الأدب الإسلامي" بالدلتا التي يكونها النهر على المدى الطويل من ترسيباته الغرينية، التي تتضافر في إضافات وتركيمات يغذى بها النهر من الطمي.. وبعد أمد طويل تتكون "دلتا" ناضجة تنطق بالخير والخصوبة والنماء.

 ولعلي أكون مصيبًا إذا زعمت أن مفهوم الأدب الإسلامي وأبعاده لن يحددها ألف قرار وألف مؤتمر، ولكن يحددها "طروحات النهر البشري الإسلامي".. أعني الأعمال الإبداعية المتتابعة المتلاحقة من شعر وقصص ومسرحيات.. الخ ملتزمة بالخطوط العريضة المتفق عليها من مفهوم الأدب الإسلامي.

 ولا ضير أن يتأخر التعريف الجامع المانع الموحد.. بل إن هذا هو الوضع الطبعي الذي يؤيده التاريخ الإنساني: وجد الإنسان يدب على الأرض ـ وبعدها ـ ربما بملايين أو بمئات الآلاف من السنين عرف الإنسان بأنه "حيوان ناطق"، ثم حيوان ضاحك.. ثم حيوان مخترع ... إلخ، والجماعة تكون أسبق في الوجود من القانون الذي ينظمها.. والشعر العربي سبق علم العروض بقرون مديدة.. والنحو العربي كذلك أتى لاحقًا على نشأة العربية بقرون طويلة.

الإبداع والبصمة الأدبية..

وابتداء علينا أن نؤمن بحقيقة بدهية وهي "البصمة الأدبية" التي تختلف من أديب إلى أديب، والتي تعني بعبارة أخرى "التعددية الإبداعية" التي قد تصل إلى حد التقابل ـ ولا أقول التصادم .. ليكن ..ففي كل أولئك إغناء للأدب الإسلامي، وإشباع له، وإضافات جديدة لطروحات سبقت في "دلتا" الأدب الإسلامي، وكل ذلك مشروط بأن يكون في نطاق التصور الإسلامي، ولكن بمفهوم سمح مرن.

 ويكاد يكون من البدهي كذلك أن الدارسين والباحثين في الأدب الإسلامي في أطروحات جامعية أو غيرها سيكون عمدتهم في استخلاص ملامحه وأبعاده، وطوابعه، ومناحيه، هو إبداع المبدعين من أدباء الأدب الإسلامي وشعرائه أكثر بكثير جدًّا من اعتمادهم على تنظير المنظرين وتوصيف الناقدين الذي قد يعد "مرجعًا" ويبقى الإبداع هو "المصدر الرئيسي الأساسي.

عن الجماعات والرابطات الأدبية..

وتميز الأدب الإسلامي وتفرده بطوابعه الرفيعة، وحرصًا على فائقيته والنهوض به يلزمنا أن نفيد من التجارب السابقة المتمثلة في الجماعات الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين كجماعة الديوان، وجماعة أبولو، والرابطة القلمية في أمريكا الشمالية، والعصبة الأندلسية في أمريكا الجنوبية.

 ولنكتف بإلقاء نظرة عجلى على جماعة "أبولو" التي أنشئت في مصر سنة 1932م لقد كتبت فيها دراسات، وأجيزت فيها أطروحات جامعية اعتمادًا على ما نشر في مجلتها بمجلداتها الثلاثة، وعلى الدواوين التي أصدرها شعراؤها من أمثال أحمد زكي أبي شادي، وإبراهيم ناجي، وصالح جودت، وعلي محمود طه.

 وفي داخل هذه الجماعة الواحدة تواجهنا أصوات متعددة إلى حد التعارض الفكري والفني، فاتسعت لشاعر كحمد الهمشري كان همه الأولى تخليد الطبيعة المصرية، وخصوصًا طبيعة الريف المصري ، وشاعر مثل علي محمود طه شاء أن يكون بينه وبين هذه الطبيعة حاجز نفسي، وكان أرقى وأظهر ما نظمه في الطبيعة الأوروبية ، وذلك في حسية مستغرقة، ولهو غامر يتعارض بل يناقض "سوداوية" أبي القاسم الشابي، وأحزانه العبقرية.

 وكان رئيس الجماعة - وهو خليل مطران - يتميز عليهم جميعًا بالحرص على أصالة اللفظ العربي، وعراقة التركيب، والحرص على وحدة الوزن والقافية، وطول النفس، حتى إن ملحمته "نيرون" بلغت 327 بيتًا على وزن واحد وقافية واحدة. بينما جنح أغلب شعراء الجماعة إلى نظام المقطوعات في القصيدة الواحدة مع الوضوح والسلاسة والتدفق الأسلوبي.

تعددية واجتهاد.. لا خطأ.. ولا خطيئة..

فالتحرك داخل المدرسة الواحدة، وفي نطاق التصور العام بخطوطه العريضة، إنما يمثل رؤية أو اجتهادا يحسب في حسنات صاحبه، ويجب ألا نعجل ونخلع عليه وصف الخطأ أو الخطيئة، وعلينا أن نقتدي بمنطق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال لمن اتهم غيره بالسرقة "لا تقل سرق، ولكن قل أخذ" . فالأصل أنه بريء إلى أن يثبت العكس، وهو اجتهاد طرحه صاحبه مصحوبًا بالنية الطيبة.. ومن الحركة والاحتكاك تتولد الحرارة، ومن الحرارة يتولد الإنتاج المثمر الثرار.,

 فالمرونة وسعة الصدر من الأمور الضرورية في تلقي إبداعات الآخرين والتعامل معها وتقييمها، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحب شعرًا روي عن أمية بن أبي الصلت، وشعرًا في الفخر والحماسة، لقيس بن الخطيم، وتقبل من كعب بن زهير، أن يستهل لاميته في مدحه بغزل تقليدي عف في سعاد، ومن إنسانيته، المتدفقة أنه تأثر أبلغ التأثر حينما سمع رثاء قتيلة بنت النضر بن الحارث في رثاء أبيها "وقد كان رأسًا من رءوس الكفر" . وقال "لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته" . وأرى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثه "إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة" قد أشار إلى جانبي العمل الإبداعي الناضج، وهما: الجانب الوجداني التأثيري أو الجانب الجمالي الشكلي الذي أشار إليه بكلمة (السحر) ، والجانب الفكري، أو جانب المضمون الذي أشار إليه بكلمة (الحكمة)، وعلى المبدع أن يراعي دقة التناسب والتوازن بين الجانبين جانب "السحر" الذي يشد وجدان المتلقي وعاطفته، وجانب "الحكمة" الذي يتحدث إلى العقل.

الفوارق والمسئولية..

وإذا كنت قد دعوت في السطور السابقة إلى ضرورة الإفادة من تجارب الجماعات الأدبية السابقة، فإن هذه الدعوة يجب ألا تنسينا أن هناك فوارق جوهرية بين "رابطة الأدب الإسلامي" وهذه الجماعات من أبرزها:

1 ـ الهادفية: فالارتباط فيها ارتباط رباني، هدفه الانتصار للغة العربية، لغة القرآن الكريم، وأدب الإسلام والدعوة إليه.

ونبل الهدف وديمومته تحمل العاملين في هذا الحقل عبئًا ثقيلاً. جد ثقيل يتمثل في اعتبار الإبداع الأدبي رسالة إنسانية وأخلاقية.

2 ـ النشأة: إذ نشأت الرابطة في وقت مزامن للصحوة الإسلامية فجاءت لتمثل الضلع الثالث في مثلث هذه الصحوة بأضلاعه الثلاثة: الضلع الفكري والعقدي، والضلع الجهادي العملي (في فلسطين والفلبين، والبوسنة وغيرها...) والضلع الأدبي الجمالي وهذه الثلاثية الطيبة: الجهاد، والفكر، والأدب يجب أن تتلاحم في توازن عضوي، دون أن يتخلف أحدها عن الآخر، وإلا كان الخلل والوهن ما بين انكماش وتضخم.

3 ـ الالتزام الخلقي السلوكي: الذي يجب أن يحرص عليه العضو بوصفه صوتًا من أصوات الإسلام.

وهذه الملامح الفارقة تقتضي الأدباء الإسلاميين ضرورة استشعار ضخامة المسئولية، وتقل الالتزامات. ولكن هذا "الاستشعار" يولد من ناحية أخرى ـ أردنا أو لم نرد ـ نوعًا من الحساسية في معالجة جوانب معينة من الأدب ، مما سنعرض له فيما بعد.

إشكاليات المصطلح..

إن تعريفات "الأدب الإسلامي" التي طرحت في لائحة إنشاء الرابطة، وكتب النقدة الإسلاميين مثل الأساتذة: محمد قطب، ونجيب الكيلاني، وعماد الدين خليل، وحسن الأمراني وغيرهم، تكاد تلتقي كلها على جوهر واحد، وتبقى المشكلة الحقيقية متمثلة في الجانب الاعتباري العملي أي في الجانب التطبيقي: جانب "الماصدق" ـ كما يقول المناطقة ـ في محاولة تصنيف "الرصيد الأدبي الجاهز" والتعامل معه، وتحديد انتمائه ونسبته. وهذا يحتاج إلى شيء من التفصيل :

1 ـ في الشعر الجاهلي طروحات شعرية تنطلق من الفطرة الإنسانية السليمة، وتقترب جدًّا من القيم والمعاني الإسلامية، كما نرى في كثير من شعر زهير بن أبي سلمى، وفي معلقة عبيد بن الأبرص التي يقول فيها:

وكل ذي غيبة يئوب =     وغائب الموت لا يئوب

والله ليس له شريك  =     علامُ ما أخفت القلوب

وهو شعر صدر من جاهلي وثني، وقل إن نجد مثله عند شاعر مسلم من أمثال الحسن بن هانئ، وسحيم عبد بني الحسماس.

2 ـ وفي العصر الحديث ـ تأسيسًا على النظر إلى طبيعة الإبداع وعقيدة المبدع، نواجه النوعيات الآتية:

أ ـ الأديب المسلم الملتزم بالروح الإسلامي والقيم الإسلامية في إبداعاته.

ب ـ الأديب المسلم الذي يتجه بأدبه وجهة علمانية بعيدة ـ على نحو من الأنحاء ـ عن روح الإسلام.

جـ ـ الأديب المسلم الذي يتراوح إبداعه بين هذا وذاك.

د ـ الأديب غير المسلم الذي له بعض الإبداعات الإسلامية، كما نرى في بعض قصائد الشاعر القروي، وإيليا أبي ماضي، وإلياس قنصل ... من شعر في مناسبات إسلامية كالهجرة والمولد النبوي.

***

 هذه نوعيات من الأدب وحدت وتوجد على أرضية واقعنا الأدبي قديمًا وحديثًا، بعضها يمكن إطلاق مصطلح "الأدب الإسلامي" عليه، وإسلامية المبدع. وتبقى إشكالية الإطلاق المصطلحي بالنسبة للغالبية العظمى من الألوان التي عرضتها سابقًا.

 والأستاذ الكرواني يرى أن نطلق على النوع الأول (الشعر الجاهلي الذي يحمل قيمًا خلقية، وبعض المعاني الإسلامية كالذي أشرن إليه) (الأدب الكادي) أي الأدب الذي "كاد يكون إسلاميًا" لولا وثنية أصحابه. وقياسًا على ذلك يصدق هذا الإطلاق على اللون الأخير الذي أشرنا إليه بـ (د).

 ولكن ما القول في قصيدة أبي نواس التي يناجي فيها الله سبحانه وتعالى، ويستغفره ويسبح بحمده (وأبو نواس شاعر مسلم مهما قيل في سلوكه) هل تعتبر من (الأدب الكادي) مع أنها إسلامية المعنى والمضمون.. أم تعتبر من (الأدب الإسلامي) بصرف النظر عما عرف من صاحبها من سوء السيرة؟ هنا يرفض الأخ الأستاذ الكرواني "إسلامية" هذه القصيدة وما شابها؛ لأنه يربط ربطًا حادًا صارمًا يجب أن يكون إسلاميًا "قلبًا وقالبًا حتى لا يكون المرء قوالاً غير فعال، باعتبار أن الوعي المدرك للحقائق يملي على السلوك أحسن انفعال وتلك هي الروح المنشئة للعمل".

 هذا ما يقوله الأستاذ الكرواني بالنص. وهو كلام رائع وجميل، ولكنه حتى الآن ـ بالنظر إلى واقعنا الأدبي قديمًا وحديثًا ـ لا يتعدى حدود الأمنية إلا في القليل الأقل. والأخذ به والإصرار عليه سيقودنا إلى الاصطدام بصعوبات عملية منها على سبيل التمثيل:

1ـ لن نعتبر "نهج البردة" لشوقي، وكذلك منظومته الطويلة في دول العرب وعظماء الإسلام، وكذلك "المطولة العمرية " لحافظ إبراهيم ـ من الأدب الإسلامي لأن الشاعرين ـ كما يروي من خالطوهما ـ كانا يعاقران الخمر (ولا أزيد!!).

2 ـ وهذا سيؤدي إلى نتيجة تبدو مضحكة، ولأفرض أنني ـ كناقد أدبي ـ حكمت على قصيدة "فلان" من الشعراء بأنها من "الأدب الإسلامي" الخالص اعتمادًا على مضمونها الإسلامي ـ وكذلك التزام صاحبها "قلبًا وقالبًا" بالسلوك الإسلامي. وبعد نشر رأيي هذا بأسابيع أو أشهر تبين لي فجأة أن فلانًا هذا يزاول ما ينقض إسلامية السلوك.

ماذا أفعل ـ أنا الناقد ـ؟هل أسحب شهادتي، وأحكم على القصيدة بأنها أصبحت "غير إسلامية" وأقدم الحيثيات التي تؤيدني بالوقائع التي اكتشفتها؟ وهل يتفق ذلك مع منطق الخلق الإسلامي الذي نهانا عن تتبع عورات الناس والتشهير بهم، وقد كان من خلقه ـ عليه السلام ـ أنه لم يكن يجابه المخطئ بخطئه، بل كان يغيب ذلك في "ضمير الجمع" بقوله "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا".

أم أحكم على القصيدة "بالكادية" دون ذكر أسباب ـ حفاظًا على سمعة مبدعها ـ وهنا أقع باختياري في التناقض: فالقصيدة من "الأدب الإسلامي" مرة، ومن الأدب الكادي مرة أخرى.

والقصائد النزارية القبانية!!

3 ـ وقصائد نزر قباني التي رأى فيها الأستاذ الكرواني أنها ذات مضامين إسلامية، ولكنه لا يعتبرها من "الأدب الإسلامي" بل هي من "الأدب الكادي" "لأن سلوك صاحبها لا يشجعنا على إدراجه ضمن الإسلامية" ـ على حد قوله . ويدعو الأستاذ الكرواني "له ولغيره بالهداية والارتباط بحبل الإسلام تحقيقًا لا تعليقًا".

أقول: لو أن الله استجاب لدعوة الأستاذ، وأعلن نزار توبته النصوح على رءوس الأشهاد: هل تسري هذه التوبة "بأثر فوري" أم "بأثر رجعي"؟ لو قلنا بالأول (أي من الآن فصاعدًا) لظلمنا الرجل؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله. ولو قلنا تسري "بأثر رجعي: أي نعود إلى هذه القصائد، ونرفع عنها "كاديتها" ونحكم عليها "بالإسلامية" لوقعنا في التناقض الذي تحدثت عنه في رقم (2) وأوقعت الدراسين معي في حيرة غير علمية.

4 ـ ثم هل كل السلوك ظاهر؟ أليس من الجائز أن يكون صاحب السلوك السيء الظاهر أقل ضراوة من صاحب سلوك طيب ظاهر، وهو في الخفاء شيطان مريد؟ وهل هناك ضوابط معينة للسلوك الظاهر تدخل صاحبها أو تخرجه من دائرة الأدب الإسلامي؟ (والفرض هنا أن إبداعه في ذاته إسلامي بلا جدال). أم هل سنطالب الأديب ـ قبل أن نحكم بإسلامية أدبه ـ بأداء قسم معين على أنه حسن الخلق فعلاً وقولاً، أم نطالبه بإحضار شهادة موثقة بأنه حسن السير والسلوك؟

5 ـ ثم أليس في هذا التشدد إهدار لجزء هائل من طاقة الناقد المسلم في التجسس، والتحسس حتى يتعرف على سلوك المبدع المسلم، علمًا بأن بحثه هذا قد يقوده إلى حكم غالط على سلوك المبدع.

الإبداع أولاً وأخيرًا..

إنها مشكلة .. بل مشكلات عملية حقيقية لا ينقذنا منها إلا التعامل المباشر مع الإبداع بصرف النظر عن سلوك صاحبه ودينه.

وهذا الحل قد يكون أقرب إلى الصحة، ولكنه ـ للحق ـ سيوقعنا أيضًا في نوع من الحرج أدعو الإخوة من علماء الرابطة والمشتغلين بالأدب الإسلامي أن يشاركونا في محاولة رفعه وخصوصًا بالنظر إل المبدعين غير المسلمين.

وقد سجلت في بحث متواضع ـ آمل أن يرى النور قريبًا ـ رؤية مبدئية ـ قد تسهم في رفع الحرج وخلاصتها ما يأتي..

1ـ النصوص الجاهلية التي انطلقت من صوت الفطرة الإنسانية، وتتفق مع الروح الإسلامي: لنطلق عليها "الأدب الملائم" أو "الأدب الموائم" ، وقد نلجأ إلى النحت فتكون التسمية "الأدب الملا إسلامي" أو "الموا إسلامي" لا شك أن هذه التسمية تبدو غريبة، ولكن تكرار نطقها وكتابتها كفيل بإزالة غرابتها.

2 ـ النصوص ذات الروح والمضامين، والقيم الإسلامية، والإنسانية ابتداء من عصر النبوة، وامتداد إلى عصر الحاضر تعتبر من (الأدب الإسلامي) إذا كان المبدعون مسلمين، وليس من اللازم اللازب أن تذكر كلمة الإسلام في الإبداع صراحة حتى يكون الأدب إسلاميًا. فقد ينظم الشاعر قصيدة ينتصر فيها للعدل، ويحمل فيها على الظلم والظالمين، فهي من "الأدب الإسلامي" حتى لو لم يذكر فيها الشاعر كلمة الإسلام مرة واحدة. فالمسألة ليست مسألة عدد وإحصاء، ولكنها مسألة فحوى ومضمون، ولأمر ما لم تذكر كلمة "الإسلام" في القرآن إلا ست مرات، بينما ذكرت كلمة "الكفر" سبع عشرة مرة.

فالعبرة بالمسمى لا بالأسماء، يقول ابن القيم: ".. فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله، ودينه ورضاه وأمره ..." إعلام الموقعين 4 / 373. هو أدب إسلامي إذن ما كان إسلامي المضمون صادرًا من مسلم بصرف النظر عن طبيعة سلوكه فحسابه على الله .

3 ـ أما الإبداع ذو المضامين الإسلامية الصريحة الذي يطرحه ذوو الأديان الأخرى في وقتنا الحاضر، فلا مانع أن نطلق عليه "الأدب المساير" أي المساير للأدب الإسلامي، أو بأسلوب النحت "الأدب المسايسلامي" وبذلك نرفع ما تسببه مسألة اختلاف الدين من حساسية.

***

وأخيرًا أقول: إن ساحة الأدب الإسلامي تتسع لكل صاحب اجتهاد ما توافرت فيه حسن النية، وهذا الاجتهاد يدور وسيدور ما بين التوسع والمرونة من ناحية، وما بين التضييق والتدقيق من ناحية أخرى. وكل أولئك يمثل ظاهرة صحية حميدة، ولكل رأيه وأسانيده، وعلينا جميعًا أن نحترم الرأي، والرأي الآخر؛ لأنني على يقين أن كل الآراء انطلقت من باعث واحد، هو الحرص على الانتصار للأدب الإسلامي، والعمل على رفعته مهما تعددت الأصوات والطرائق. والله ولي التوفيق.