منهج البحث لدى طه حسين في دراسة الأدب العربي القديم

محمد أبو النصر صبحي

منهج البحث

لدى طه حسين في دراسة الأدب العربي القديم

وآراء الباحثين حوله

محمد أبو النصر صبحي

حفيد العقاد

دراسات عليا في النقد الأدبي و الإعلامي

[email protected]

إن معرفة منهج البحث لدى طه حسين في دراسة الأدب العربي القديم والأسس الفكرية والمنهجية لنظريته النقدية لأمر صعب ، وهذا هو ما وجدته عندما قمت بالبحث في هذا الموضوع ، فحاولت الوصول إلى معرفة هذا المنهج وطبيعته ، ذلك المنهج الذي جلب لصاحبه الكثير و الكثير من المشاكل و المعارضات من النقاد حتى ألصق به الكفر و الزندقة .

وقد تناول هذا الموضوع كثير من النقاد و الأدباء من عدة زوايا ، وانقسموا لحزبين بين المعارضين و الموافقين ، وعلى الرغم من  محاولات أصحاب الفريق الأول في مساندة طه حسين الفكرية و السير على دربه ، إلا أن أصحاب الفريق الثاني كانوا أشد موقفا وأعظم حجة، فعددوا المأخذ عليه ومنها أنه لم يلتزم بالمنهج الذي يريد أن يصطنعه، وأنه أطلق الأحكام جزافا، ولم يؤسس لنظريته بالتثبت أولا من الحقائق قبل أن يدخل في دور الفرض، فكان يبدأ بالفرض ثم يبني عليه فرضا آخر، ثم ينتهي بالقطع والجزم والثبوت ، ووجدت أنه لكي أبحث في منهج طه حسين الذي أحدث ضجة كبيرة لدى الأدباء و النقاد ، أنه عليّ أولا أن أقوم بمعرفة دراسته الثنائية الفكرية العربية الإسلامية والفرنسية الأوروبية ، ومدى تأثير هذه الثنائية الفكرية في نظريته النقدية في الأدب العربي .

لهذا حاولت في هذا البحث أن تكون دراستي فيه أدبية منهجية نقدية للخطاب الفكري لديه ، وأجتهدت في بحثي لأصل إلى منهج البحث عنده في دراسته للأدب العربي القديم ، ومعرفة الأسس الفكرية والمنهجية لنظريته النقدية والتي يترتب عليها دراسة الثنائية الفكرية العربية الإسلامية والفرنسية الأوروبية له، وتأثير هذه الثنائية الفكرية في نظريته النقدية في أدبنا العربي بصورة عامة ، وشعرنا الجاهلي بصورة خاصة .

هذا البحث يهدف إلى معرفة منهج طه حسين في دراسة الأدب العربي القديم ، وأعتقد أن منهج طه حسين منهج حياة وليس منهج فكرفقط ، فهو صاحب ثورة منهجية لم تقتصر فقط على تغيير مسيرة حياتنا الفكرية والعلمية بل اتسعت لتشمل مناحي الحياة المصرية الحديثة عموما .

وأخيرا في تناولي لمنهج البحث لدى طه حسين في دراسة الأدب العربي القديم ، أنه كان لزاما علىَّ أن أتطرق إلى منهج ديكارت الفلسفي وهو ما يعرف بالشك الديكارتي ، وقد طبقه طه حسين في دراسته للشعر الجاهلي في كتابيه ( في الشعر الجاهلي / في الأدب الجاهلي ) .

ومما لا شك فيه أن طه حسين هو واحد من أهم الشخصيات المؤثرة فى الحياة الفكرية المصرية خلال القرن العشرين والواحد والعشرين  ولهذا كثرت الدراسات التى تناولت تأثيره الفكري على مجتمعنا المصري خاصة والعربي عامة .

طه حسين تبنى المنهج الفلسفي لديكارت الفيلسوف الفرنسي ، وأعلن هذا في بداية دراسته للبحث الأدبي في كتابه (في الشعر الجاهلي ) ، ومن خلال السياق وجدت أنه أيضا تعرض لقضية مهمة جدا ألا وهى الحرية بين الأدب و الأدباء ، فالحرية ضرورية للأدب ؛ لجعله غاية بعد أن كان وسيلة ، فطه حسين عندما تعرض للأدب العربي القديم لم يأخذه هكذا على علاته بل قام بالتحقق منه وإعمال العقل ، ونادى بالحرية المنهجية التي قصد بها استقلالية الباحث ، وحريته في البحث العلمي من ناحية ، وحريته في اختيار المنهج الذي يعمل به من ناحية أخرى يقول :

"أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هى أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل ، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما " (1) 

ويرى محمود أمين العالم أن الشك عند طه حسين هو مجرد أداة إجرائية للنقد والتحليل.(2)

  فاستفاد استفادة مباشرة من المنهج الشكي لديكارت ، ونلحظ هذا من خلال طه حسين نفسه حيث يقول " وضع علم المتقدمين كله موضع الشك  ولا نقبل شيئا مما قاله القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبيت إن لم ينتهيأ إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان " (3)

هناك شبه إجماع من دارسي طه حسين أن رؤيته المنهجية القائمة على الشك للوصول إلى اليقين والتي انتهى بها إلى تحكيم العقلانية مقياسا أوحد للحقيقة، هذه المنهجية تشكل أهم الإسهامات والإنجازات التي قدمها إلى الفكر العربي الحديث والتي تمثل أهم الأسلحة في مواجهة المسلمات التقليديّة ، وهي مسألة لا تزال تشكل مصدر العداء الأصوليّ المتواصل لطه حسين وفكره ، ولاشك عندي في هذا .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- طه حسين في الأدب الجاهلي الطبعة الخامسة عشرة دار المعارف ص 67-68

2- مواقف نقدية للتراث ص 243

3- في الأدب الجاهلي ص 62

هذا إذن هو المذهب أو النظرية الخطرة التي قادت طه حسين إلى أن يصطنع في البحث عن الأدب وتاريخ فنونه، وينتهي به إلى أن يضع علمالمتقدمين كله موضع الشك الذي ينتهي في كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود وهو يريد أن يقلب العلم القديم رأسا على عقب، ويسعى إلى محوه وإتلافه فيتعمد الهدم تعمدا ويقصد إليه في غير رفق ولا لين، ويرى أن هذا الشك الأدبي لا ضرر منه، ولا بأس به لا لأن الشك مصدر اليقين . ((في الأدب الجاهلي . (1)

ثم يقول "أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو أكثر هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئا ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والانتحال، وأنه إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص، إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن " (2)

ومن الواضح أن طه حسين اكتفى فقط بالأخذ بمقولة الشك مجردة من مقومات المنهج الديكارتي وبمعزل عن نظريته في المعرفة ، ويؤكد هذا الكلام الدكتور حسين مروة الذي يرى طه حسين إنما أخذ الجانب الشكلي من مذهب الشك عند ديكارت مجردا من مضمونه الفلسفي أو مفرغا من مضمونه ذلك أن مذهب الشك مبني عند "ديكارتأولا على مفهومه الخاص لموضوع الفلسفة وثانيا على اتجاهه العقلاني في نظرية المعرفةفمن الوجهة الأولى كان (ديكارت) يرى أن موضوع الفلسفة هو الطبيعة والإنسان ولم تكن فكرة (الله) حاضرة حين صاغ مذهبه في الشك ومن ثمة قوله بالشك في المعارف التي تكرست في وعي الإنسان خلال تاريخه الطويل" (2)

توسعت في هذه النقطة المتعلقة بالمنهج الفلسفي عند ديكارت لأدرك مدى علاقة هذا المنهج الفلسفي بالطريقة التي اصطنعها طه حسين في دراسته للشعر الجاهلي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-   ينظر في الأدب الجاهلي ص 183

2-   المصدر السابق ص 183

3-   حسين مروه / النزعات المادية في الفلسفة العربة الإسلامية ج 1 ص 319

طه حسين أضاف موضوعاً جديداً بعنوان ( الحرية والأدب) في كتابه ( في الأدب الجاهلي) ، وكان يدعو فيه إلى الحرية الأدبية أوحرية الأدب ؛ لأن هذا يعد جزءاً أساسياً من نظريته النقدية فالأديب عليه أن يخرج من تحت عباءة قدسية الأشياء ، فعندما تعطى له هذه الحرية ستتوفر له إمكانية النقد بحرية .

فيقول : " يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به وأن ننسى أيضا ما يضاد هذا الدين يجب أن لا نتقيد بشيء ولانذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح " (1)

ثم يقول : " ولو أن القدماء استطاعوا أن يفرقوا بين عقولهم وقلوبهم وأن يتناولوا العلم على نحو ما يتناوله المحدثون لا يتأثرون في ذلك بقومية و عصبية و لا دين  ولا ما يتصل بهذا كله من الأهواء لتركو لنا أدبا غير الأدب الذي نجده بين أيدينا "(2)

منذ قليل طرحت فكرة الثنائية الفكرية عند طه حسين التي تتمثل في الفكر العربي الإسلامي و الفكر الفرنسي الأوروبي ، ومدى تأثير كل منهما عليه ، فالفكر العربي الإسلامي يتمثل في قداسة اللغة العربية التي هى لغة القرآن ووسيلة لفهم القرآن .

ويرى طه حسين هنا أنه لكي يستقيم الأدب و الشعر علينا أن نحرر هذه اللغة من تلك القدسية ، ولأبد وأن تخضع للدراسة و البحث و النقد ، وعن هذه القضية طالعنا الكثير من النقاد بعدة آراء كان أكثرها يقع في وصف طه حسين بما يشبه الغباء والعته ، فكلامه مناقض مع بعض وعلى سبيل المثال رصدت كلام د / خالد يونس ،وقد وجه سؤالا لعميد الأدب العربي بقوله :

" طه حسين لم يبين علميا أن تحرر اللغة العربية من التقديس يؤدي حقاً الى تحرر الأدب والأديب ليستقيم الأدب. يقع طه حسين في التناقضات بهذا الصدد في طرح أفكاره عن اللغة العربية، فهو من جهة يؤكد أن اللغة العربية لغة القرآن وهي وسيلة لفهم القرآن، مما يعني ضرورة الحفاظ على هذه  اللغة بكل الوسائل باعتبارها وعاء الثقافة والعقيدة لئلا تتحول إلى لهجات تؤدي إلى صعوبة فهم القرآن وتفسيره. ومن جهة أخرى يقول أن القرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي لذلك فإنه يدرس الشعر الجاهلي في نص لا سبيل إلى الشك في صحته‘‘. (3)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-    في الأدب الجاهلي ص 64

2-    نفس المصدر ص 65

3-    فلسفة الشك ومنهج تحقيق النص في فكر الشيخ محمد عبده وطه حسين ص 38

ويقول أيضا :

" ويقول الباحث ‘‘عندما يريد أن يحرر اللغة العربية من التقديس ويخضعها لعمل الباحثين كما تخضع المادة لتجارب العلماء. يعني أن يحرر القرآن الكريم من التقديس أيضاً. لأن أي تشويه وتغيير في قواعد اللغة العربية وثوابتها يعني تشويهاً للقران الكريم. وطه حسين نفسه يقول: إن الدين لم يعتد وحده على العلم، بل اعتدى العلم على الدين أيضاَ حينَ آلَ إليه السلطان‘‘.(3)

وحول هذه الثنائية الفكرية التي تتمثل كما قلت بين الآداب العربية الإسلامية والآداب الفرنسية الأوربية ، نجد أنه هناك شخصيات أثرت في فكر وتوجيهات طه حسين ، ومن الشخصيات التي أثرت في فكره وتوجهاته في الآداب العربية والإسلامية: الغزالي، الجاحظ، أبو العلاء المعري، إبن خلدون، عبد القاهرالجرجاني، أحمد لطفي السيد، والشيخ محمد عبده ، وهناك شخصيات أخرى أوروبية تأثر بهم ، ومنهم على سبيل المثالمارجوليوث، رينيه ديكارت ، فولتير ، ولانسون .

وللثقافة الفرنسية في فكر طه حسين أثر كبير في حياته ونذكر مثلا على سبيل المثال من مصادر هذا التأثر قراءاته المتذوقة لبعض شخصيات الأدب الفرنسى خاصة ( أناتول  فرانس ، وأندريه جيد ) أيضا دراسته للثقافة اليونانية والتى تلقاها فى فرنسا ممثلة فى دراسة اللغة اليونانية ، والأدب اليونانى القديم ، والفلسفة اليونانية ، وكل هذا ظهرفيما بعد فى مؤلفاته وترجماته عن الفكر اليونانى .

ونجد أن تأثير الثقافة الفرنسية فى حياته المنهجية و الفكرية تمثلت في تعرفه على علوم الفلسفة اليونانية والمنطق بما تحويه من اتجاهات عقلانية ومن بذور للمنهج الشكى فى المعرفة استعان به فى فهم المنهج الشكى عند ديكارت و دراسته للأدب الفرنسى والأدب اليونانى وللمنهج الأوربى فى دراسة الأدب والتأريخ له و تعرفه على فلسفة نقد المعرفة وهى الفلسفة العقلانية التى وضعها رينيه ديكارت ومن خلال المنهج الشكى للمعرفة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- فلسفة الشك ومنهج تحقيق النص في فكر الشيخ محمد عبده وطه حسين ص 45

وحول النظريات والمناهج التي أستفاد منها طه حسين في منهجه النقدي فقد تعددت المصادر التى استقى منها منهجه العلمى والذى طبقه كمنهج موحد صالح لمجالاته الأدبية والتاريخية والدينية، ونذكر منها مثلا منهج كلا من (ابن خلدون، ديكارت، فلهاوزن ،مرجوليوث)، فطه حسين كان على صلة علمية قوية بابن خلدون فقد تخصص طه حسين فى الفكر الاجتماعى عند ابن خلدون وكتب رسالته للدكتوراه فى فكر ابن خلدون .

وجدير بالذكر أن نذكر هنا في مقامنا هذا مدى تأثير مقدمة ابن خلدون على التكوين العلمى والمنهجى له وبخاصة الجانب التاريخى منها  " فهو أول من لفت نظر الباحثين العرب إلى أهمية الدور الذى لعبه حين أختاره موضوعه لرسالته للدكتوراه وتناول بالنقد والتحليل سيرته الذاتيه وفلسفته الاجتماعية ". (1)

وعن ديكارت فقد تأثر به طه حسين وخاصة في الأخذ بمبدأ الشك فديكارت يرفض " أن يسلم بوجود كل ما لا يكون فى مأمن تام من إمكان الشك فيه ، فهو يخضع كل ما يظهر لنا فى حياة التجربة والفكر على أنه يقينى للنقد المنهجى ، وذلك من جهة إمكانات الشك التى يمكن أن يظهرها النقد .

كذلك تأثر طه حسين بمنهجه الفلسفى ؛ وذلك بحثا منه عن حقائق الأشياء ، والقاعدة الأساسية لهذا المنهج كما يقول هى " أن يتجرد الباحث من كل شىء كان يعمله من قبل ، وأن يستقبل موضوع بحثه خالى الذهن مما قيل فيه خلوا تاما ". (2)

ونجد طه حسين يسير في دروب المنهج الديكارتي بخطوات مطمئنة إلى سبيلها وأعتبرالأخذ بهذا المنهج أمرا حتميا فنراه يقول "واعتبر الأخذ بهذا المنهج حتميا بالنسبة لمن يدرسون العلم ويكتبون فيه ، ويشير طه حسين إلى تأثر الباحثين فى الأدب والتاريخ بمنهج ديكارت الفلسفى ، ويؤكد على ضرورة استخدامه فى بحثنا العلمى والأدبى وفى نقدنا لآدابنا وتاريخنا فى المستقبل ". (3)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-    فلسفة ابن خلدون الاجتماعية  . تحليل ونقد  ، للدكتور طه حسين ترجمة محمد عبداللـه عنانى . مكتبة الأسرة  2006

2-    طه حسين : فى الأدب الجاهلى . دارالمعارف  ص67،68     

3-    المرجع السابق  ص116 .

وأما عن مرجليوث فيعتبر هو حلقة الوصل بين فلهاوزن وطه حسين فيما يتعلق بالانتحال ، فالمستشرق مرجليوث كان أول من طور نظرية متكاملة فى انتحال الشعر الجاهلى طبق فيها منهجية مدرسة نقد العهد القديم ، ومنهج النقد الأدبى والتاريخى الذى ورثه المستشرقين عموما عن علم نقد الكتاب المقدس .

ومن ناحية أخرى لوتتبعنا أقوال بعض الأدباء والنقاد في منهج طه حسين فمثلا نجد (د/ خالد يونس) يعدد أهم المناهج التي تأثر بها طه حسين  من وجهة نظره هى :

" المنهج النفسي والبلاغة عند القاهر الجرجاني، النظرية الإجتماعية التاريخية لأبن خلدون، النظرية العقلانية لديكارت، والفلسفة الوضعية لدى أوغست كومت، والمنهج التاريخي لتين، ومنهج تحقيق النص لدى الشيخ محمد عبده، والمنهج السوسيولوجي لأميل دوركيم المعروف بمنهج دوركيم الإجتماعي " (1).

فطه حسين استخدم منهجا توفيقيا كما يشير الكثير من النقاد ؛ لكي يلائم الثنائية الفكرية التي كان يتمتع بها ، فهو لم يستند على نظرية عربية أو فرنسية واحدة ، بل أخذ من التيارات و المناهج أفكارا وآراء ، كل ذلك ليوافق هذا شخصيته المتردده التي لا تقتنع إلا بالحجة المصحوبة بالبحث والتحقيق ، وحاول أن  يوفقَ بين الإتجاهات المختلفة .

لقد حاول طه حسين أن يبحث عن نموذج منهجي متكامل ، ليعيد به قراءة التراث الأدبي ، حيث جرب مجموعة مناهج تمنح أدواتها من المنهج التاريخي للأدب فيقول :

" وفي الحق إن الناقد لا يقنع بما كان يقنع به سانت بوف وتين وجول لومتير ولانسون ، وبالرغم من الفروق المنهجية بين هؤلاء النقاد ، وإنما استطاع أن يوفق لهذا كله ويستخلص منه غرضا شاملا يطلبه ويسمو إليه حين ينقد فيفهم شخصية الشاعر أو الكاتب وعصره وفنه "(2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- فلسفة الشك ومنهج تحقيق النص في فكر الشيخ محمد عبده وطه حسين  ص 87

2- في الأدب الجاهلي 183

فطه حسين هنا كان همه الأول هو تأسيس منهج توفيقي يضم الاختلاف و التعدد الواقع بين هؤلاء النقاد المختلفين في تصوراتهم التي يصدرون عنها ، هذه النزعة التوفيقية التي تسعى إلى إدغام المناهج المتعددة والمختلفة في منهج واحد ، ودراسة طه حسين للشعر و للأدب الجاهلي بهذه الطريقة العبثية وإن رأها البعض كذلك ، لم يقصد بها هدم الشعر الجاهلي و القضاء عليه .

ولا أجد عيباً في أن تتعدد مناهج البحث النقدي عند نقاد الأدب "ولكن العيب،أن تتعدد المناهج وتتداخل في متن أو خطاب نقدي بعينه"  (1)

وهذا الخليط المنهجي ، يبدو شاذاً غير مترابط وأن معظم النقاد على الرغم من أنهم يستخدمون عدداً من المناهج ، فأنهم يفضلون عادة نوعاً بعينه منها ، ومع ذلك فان الناقد الجيدٌ يكيٌف أساليبه ومعايير القيمة لديه تبعاً للعمل الأدبي الذي يدرسه ، ومن ثم فانه يستخدم في الحالات المختلفة أنواعاً مختلفة من المناهج النقديه ، كما أنه يضع في اعتباره الجمهور الذي يكتب له، ومستوى ذوقه.

ولو تأملنا البنى المكونه لمنهج طه حسين النقدي، وما تتصف به من انتقاء وتوفيق بين مناهج متعددة ، لتبادر إلى ذهننا سؤال جوهري هو: ما مدى تجانس هذه البنية واتساقها الداخلي؟ وهل ينطوي هذا المنهج على بنية واحدة ، أم ينطوي على أبنية متعددة أم ينطوي على فوضي بنائية ؟ نجد الدكتور/ جابر عصفور يقول " أن طه حسين ، ينطوي على نوع من البناء ، له وحدته المتميزة وصيغته الكونية الخاصة" (2)

ويعلل هذه الإجابة تعليلاً لا يخلو من صواب فيقول " إن هذا التناقض وهذه الفوضى البنائية لا تطفو على السطح ، إلا إذا نظرنا إلى نقد طه حسين من منظور التعاقب فحسب ، وإلا إذا ركزنا على ما نسميه بالتباين الكيفي من خلال تتابع كتاباته النقدية ، ولكن لو ضممنا إلى منظور التعاقب الأفقي ، منظور التزامن الرأسي  العمودي وركزنا على عناصر الثبات التي تكمن وراء التغير وعوامل الاتفاق النوعي التي تقابل التباين الكيفي ، أدركنا أن نقد طه حسين ينطوي على نوع من البناء " (3)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-   ينظر جيروم ستولينتز، النقد الفني ( دراسة جمالية وفلسفية ) ترجمة د. فؤاد زكريا ، منشورات الهيئة المصرية للكتاب، الطبعة الثانية ، القاهرة 1981 ، صـ742ــ

2-   جابر عصفور ، المرايا المتجاورة ، ص 13

3-   نفس المصدر ص 13

ولما كان منهج طه حسين النقدي قائم على صيغ توفيقية باعتراف الدكتور/عصفور نفسه ، فلابد أن تتحاوره عناصر متباينة أو متنافرة أو متعارضة مهما حاول صاحبه أن يحسن عملية الانتقاء ويحث نوعاً من التجاوب بين هذه العناصر ولكن الدكتور/ عصفور يرد على من يتبنى مأخذا كهذا "بأن الانتقاء عملية اختيار لا تتم بالمصادفة ، بل تخضع - مهما استرسلت أو أُرسلت – إلى أسس تحتية قارة ، توجه حركة الاختيار ، وتحدد مجاله ومعطياته مثلما تحدد المقبول أو المرفوض ، والتوفيق عملية تصالح بين العناصر المنتقاة لتجاور بينها، على نحو ينفي التناقض الظاهري على الأقل ، وبقدر ما يدخل التوفيق عناصر متباينة – أو متنافرة أو متعارضة - إلى الفكر النقدي، يعمل التوفيق على إحداث لون من التجاوب بين هذه العناصر ، فتتحول عملية التوفيق إلى عملية صياغة للانتقاء ، بنفس القدر الذي ينطوي فيه الانتقاء على عملية توفيق " (1)

إن هذه المواءمة وهذا التوفيق بين المناهج ، يضعنا وجهاً لوجه أمام إحساس طه حسين بضيق هذه المناهج فيما إذا اقتصر الناقد على منهج بعينه دون سائر هذه المناهج ، لذا جرٌب طه حسين الناقد كل منهج ممكن في التعامل مع الأدب العربي القديم أو الحديث ، وحاول الإفادة من كل تصور نظري أو إجراء تطبيقي ، يعينه على تأصيل الدراسة الأدبية ، لذا فليس مصادفة إذا رأينا ينتقل بين المناهج والنظريات وبين التصورات والإجراءات مثلما يتنقل المسافر بين العربات والمحطات في رحلة طويلة شاقة، لا يعنيه من الانتقال والتغيير سوى بلوغ محطة الوصول وهي تحقيق التنوير وتأسيس النهضة الأدبية والنقدية  (2)

ومن أهدافه أيضا أن يوصل ذلك الأدب إلى عقول الناس لإحيائه بعد أن كان منسيا، وهو يعترف أنه سيواجه الخصومة لكنه كان يؤثر رضى العلم والضمير على رضى الناس. يبدو أنه لم يرغب أن يحتال على نفسه وعلى الآخرين، فطرح منهجه ونظريته بذلك الشكل متحدياً الصعوبات .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-   جابر عصفور ، المرايا المتجاورة ، ص 14

2-   ينظر حديث الأربعاء ، ج 2 ، ص 53

فيقول : " أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو أكثر هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئا ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والانتحال، وأنه إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص، إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن " (1)

ويشير الدكتور/ محمد خليفه التونسي أن التصور المنهجي عند طه حسين يقوم على أساس فلسفي خاص ، هو نقد المعرفة ، هذا الموقف الفلسفي من المعرفة لم يصل إليه طه حسين عن أصالة في الفكر ولكنه نقله نقلا عن مصادره الأوربية خاصة مصادره الفرنسية . (2)

ومن المناهج أيضا التي أخذها في منهجه التكاملي أو التوفيقي ، فطه حسين اقتنع بالمنهج التاريخي وحاول تطبيقه في الأدب العربي وهذا بفضل أستاذه (لانسون) ، لكنه رغم ذلك لم يكن حريصا كل الحرص في تطبيقه لهذا المنهج في كل مؤلفاته الأدبية ، حتى أنه عندما قام بتطبيق هذا المنهج في كتابه (في الشعر الجاهلي) لم يلتزم التزاما دقيقا بهذا المنهج في الكتاب وذلك كما يرى الدكتور/ عبد المجيد حنون .

"أنه لم يكن يسعى إلى تأليف كتاب علمي دقيق ، بقدر ما كان يسعى إلى إثارة القراء و المثقفين وهز الأوضاع الأدبية " (3)

ويقول أيضا الدكتور شكري فيصل تعليقا على هذه النقطة .

" لقد حقق بكتابه هذا الأهداف المتوخاة منه ، فأثار زوبعة نقدية أتاحت له شهرة واسعة ، رغم أنه لم يلتزم فيه كثيرا بأسس المنهج التاريخي ودقته العلمية " (4)

ويصرح طه حسين بعدم تطبيق المنهج التاريخي كليا على الأدب العربي رغم إيمانه به إلا أن الوقت لم يحن بعد فيقول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- - حديث الأربعاء ص 45

2- ينظر د/ محمد خليفة حسن وحدة المنهج في فكر طه حسين ص 185 الكتاب التذكاري  

     بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل طه حسين

3- اللانسونية وأثرها في رواد النقد العربي الحديث -  د/ عبد المجيد حنون – مكتبة الأسرة

2006              ص 191

4 - ذكرى طه حسين – د/ شكري فيصل  ص 237

" من هنا نستطيع أن نقول إن الوقت لم يأن بعد لوضع تاريخ أدبي صحيح يتناول آدابنا العربية بالبحث العلمي و الفني ، ذلك لأن هذه الجهود المتفرقة لم تبذل بعد ، ولأن هذه العلوم المختلفة لم تعرف وجهها العلمي الصحيح عندنا بعد ، وكيف تريد أن تضع تاريخ الادب العربي وأنت لم تستكشف ولم تحقق ولم تفسر كثرة النصوص العربية القديمة نحوها وصرفها ، ولم يعن الباحثون بوضع المعاجم التاريخية التي تبين لك – معتمدةعلى النصوص الصحيحة – تطور الكلمات في دلالتها على المعاني المختلفة : فتمكنك بذلك من أن تفهم النصوص الأدبية على وجهها وكما أراد أصحابها " (1)

وكما أوضحنا أن طه حسين عدل عن المنهج الطبعي العلمي ليقيم بدلاً منه منهجاً توفيقياً يسعى إلى فهم شخصية الأديب وعصره وفنه حيث يؤكد هذا الكلام بقوله :

"إن تاريخ الأدب لا يستطيع بوجه من الوجوه أن يكون موضوعياً صرفاً، وإنما هو متأثر بالذوق الشخصي. تستطيع أن تقرأ الآثار الأدبية التي تركها سانت بوف، فسيكون موقفك منها موقفك من الآيات الفنية القيمة. لن تجد في هذه الآثار اللذة العلمية –التي لا تخلو من حموضة وجفاء- ذلك لأن بوف لم يستطع أن يمحو شخصيته، فأنت تراه فيما يكتب، وأنت تسمعه، وأنت تتحدث إليه وتستكشف عواطفه وميوله... وهبه استطاع أن يبرأ من ذوقه وشخصيته، ويعالج الآثار الأدبية كما يعالج صاحب الكيمياء عناصره في معمله، فأول نتيجة لهذا أن يصبح تاريخ الأدب –النقد- جافاً بغيضاً، وأن تنقطع الصلة بينه وبين الأدب وإذن فنحن مضطرون إلى أن نعدل عن هذا المذهب العلمي، وأن نتلمس مذهباً آخر غيره. فما دام التاريخ الأدبي لا يستطيع أن يبرأ من شخصية الكاتب وذوقه، فلن يستطع أن يكون علماً. (2)

ولهذا فهو يرى أنه لأبد وأن يتجنب الناقد أو المؤرخ الإغراق في العلم، كما يتجنب الإغراق في الفن، وأن يحافظ على التوازن بين الذاتية والموضوعية ، وهذا ما يوضحه بقوله :‏

" أنارجل موسوس في الأدب ، لااستسلم للانفعال السريع ولاأعتمد التأثر الأول ،إنما أقرأ وأنا أتهم الكاتب أو الشاعر وأحرص على أن أحتفظ بما أستطيع من اليقظة لأراقب ماسيتركه في نفسي ، ولأحلل آثاره وسأردها إلى أصولها وأصدر حكمي عليها عن شعور صادق "

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- طه حسين في الأدب الجاهلي الطبعة الخامسة عشرة دار المعارف ص 25

2-   نفس المصدر  ص 46

3-   طه حسين: فصول في الأدب والنقد- ص82

وهكذا، وعلى الرغم من أنه يرى من العسير أن يتخلص الناقد من عواطفه ومن انفعالاته الذاتية، أو من ذوقه الشخصي، فإنه ينتهي كما لمسنا من قبل إلى الحرص على أن يحقق في منهجه تلك المعادلة التوفيقية .

الخاتمه

في نهاية البحث نفهم من هذا العرض أن المنهج الذي تبناه طه حسين وآثار ضجة كبيرة لدى النقاد و الأدباء ، هو ذلك المنهج التوفيقي أو التكاملي ، الذي جمع فيه طه حسين بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الفرنسية الأوروبية ، فنتج عن هذا دراسة الأدب بعدة مناهج مختلفة كما ذكرت ، منها المنهج الشكي ، والفلسفي ، والتاريخي وغير ذلك .

ولا شك في أن منهجية طه حسين في البحث الأدبي تعرضت للكثير من النقد ، ولكنها تبقى مدرسة خالدة في ميدان النقد العلمي التوثيقي للحقيقة التاريخية التي تعطي الأدب الجاهلي مصداقيته وخلوه من الدخيل ، وليست هذه المقاييس فتحاً جديداً في طريقة التفكير والبحث والاستقراء الأدبي فحسب ، بل هي أيضا لبنة في المنهج العلمي الذي سار عليه الغرب حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الرقي والتقدم .

وهكذا استطاع طه حسين أن يثبت نفسه في مجال النقد المنهجي، وأن يكون هذا النقد على أساس علمي منطقي بعيدا عن المنهج الانطباعي الذاتي .