قانون السياسة ودُستور الرياسة

قانون السياسة ودُستور الرياسة

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

تراثنا العربي غني بكل ألوان المعرفة في العلوم الشرعية, والعلوم الإنسانية كالتاريخ والاقتصاد والسياسة والقانون, والعلوم التجريبية كالكيمياء والطبيعة والطب وعلوم البحار. وكثير من علماء العرب كانوا روادا في كثير من هذه العلوم, وفي مناهج البحث فيها. وهي حقيقة اعترف بها الغربيون العدول .

 من كتب السياسة والقيادة ...

 وقد ترك لنا علماء المسلمين مئات من الكتب في سياسة الشعوب, وتدبير الحكْم, وما يجب أن يكون عليه الحاكم من صفات عقلية ونفسية وخلقية, وكذلك ما يجب أن تكون عليه الرعية في التعامل مع حكامها. ومن أشهر هذه الكتب: كتاب التاج في أخلاق الملوك للجاحظ, وكتاب الوزراء والكتاب للجهشياري «ت 331», وكتاب السياسة لقدامة بن جعفر «ت 337», وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي, وكتاب الإشارة إلي أدب الإمارة لمحمد بن الحسن الحضرمي القيرواني «ت 489», وكتاب التبر المسبوك في نصيحة الملوك لأبي حامد الغزالي «ت 505», وكتاب سراج الملوك للطرشوشي «ت 520» , وكتاب تهذيب الرياسة وترتيب السياسة لمحمد بن علي القلعي «ت 630» . ويطول بنا المقام لو عرضنا أسماء كل الكتب التي دارت حول السياسة وشئون الحكم, ولكننا نلاحظ علي هذه الكتب أو أغلبها ما يأتي:

1- الاهتمام الكبير بمعطيات القرآن والسنة في شئون الحكم والسياسة وقيم العدل والرحمة والشعور العملي بالمسئولية.

2- الانتفاع بعلوم السياسة والأخلاق في الحضارات الأخري التي تفاعلت معها الحضارة الإسلامية.

3- التأثر الميداني بالواقع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه المؤلف, ويظهر ذلك في التنبيه إلي المآخذ الخلقية والسلوكية في الراعي والرعية.

4- الإكثار من التوجيهات والنصائح للحكام, ويكون ذلك غالبا في حرص وأدب جم لا يتعارض مع الصراحة والوضوح.

 كتاب ومؤلف مجهول...

 ومن هذه الكتب القيمة كتاب عنوانه «قانون السياسة ودستور الرياسة» , وهو مجهول المؤلف. ولكن المقطوع به أن الكتاب ألف ما بين سنة 759 هـ وسنة 786هـ , وبتعبير أدق ما بعد السنة الأولي, وقبل السنة الأخير , وهي سنوات حكم «السلطان شاه شجاع» الذي أهدي إليه المؤلف كتابه, وهو من الدولة المظفرية التي حكمت بلاد فارس وكرمان واذربيجان وأصفهان وشيراز من سنة 718 إلي سنة795 هـ . وقد بذل محققه محمد جاسم الحديثي جهدا طيبا في تحقيقه حتي خرج بصورة مثالية مطبوعا في العراق من قرابة ربع قرن .

 وأهم سمة في الكتاب أنه جاء علي صورة جداول مسطرة رأسيا وأفقيا علي شكل مربعات ومستطيلات في داخلها المضمون الذي جاء مقسما مرقما مكثفا. فقام المحقق بتنظيمه علي شكل السطور العادية بلا جدولة مسطرة, فكان كمواد قانونية بالمفهوم الحديث: فالقانون الأول في تهذيب الأخلاق, والقانون الثاني في تدبير الأموال, والقانون الثالث في تقويم الرعايا. ويندرج تحت كل قانون قواعد, وتحت كل قاعدة مباحث. والكتاب في مجموعه متن لو فُصّل لكان سًفٍرا ضخما.

 نصائح وتوجيهات...

 وللمؤلف في كتابه نصائح وجهها إلي السلطان شاه شجاع .ألا ما أشد احتياج حكامنا إلي أخذ أنفسهم بها, ونحن نعيش عصر الاختلالات والهزائم والانكسارات والانهيارات . ومن هذه التوجيهات:

أيها الملك.. اعلم أنك مباشر لتدبير مُلك له أُسُس هو الدين المشروع, ونظام هو الحق المتبوع, فاجعل الدين قائدك, والحق رائدك, يتذللْ لك كل صعب, ويتسهل عليك كل خَطْـب....

...ولا تُعْرضْ عن الناس فتعرًّض نعمة ملكك للزوال, فإن الصادق صلي الله عليه وسلم أخبر عن ذلك حيث قال: «ما عظمتْ نعمةُ الله علي عبد, إلا عظمت مؤونةُ الناس عليه, فمن لم يحتمل مؤونة الناس عرّض تلك النعمة للزوال»....

... قدِّم ما قدرتَ عليه من المعروف, فقلما يعقب الرْيثُ «البطُء» إلا فواتا. روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «أحسنوا جوارَ نعم الله تعالي, فقلما زالت عن قوم, ثم عادت إليهم»....

قلًّد بأطواق البر أعناقَ البرايا, وشنِّف آذان الإنسان بالإحسان والمزايا....

وأحذر دعوة المظلوم, وتوقَّها, فإنها أنفذ من السهم, وأضر من السم, ليس بينها وبين الله حجاب....

وزًّع أوقاتك علي أشغالك. واصرف شطر أفكارك في مستقبل أفعالك, فإن تقديم الفكر علي العمل, احتراز عن الزلل. ثم تأملْ فيما قدمته من أعمالك, فما وافق الصواب فتقويه, وتجعله مثالا تحتذيه, وما نالك فيه الزلل فاستدركه, واحترز عن مثله في المستقبل, وامدد رأيك بمشاورة من جرب الأمور وخَبَـرَها, وتقلب فيها وباشرها, فإن إصابة الأفكار تظهر بمشاورة الدهاة الأخيار. وقال النبي صلي الله عليه وسلم : «لا مظاهرة (تقوية وتدعيم ) أوثق من المشاورة»....

ولا تُـؤاخذْ من استشرتَ إن زلّ «أخطأ», فما عليه إلا الاجتهاد والنظر, وإن حَجَـزْته الأقدارُ عن الظَّـفَر, فإن للأقدار أوقاتا تَـعْمَي فيها الأبصار, وتحار منها الأفكار....

اقتصر من الأعوان بحسب حاجتك إليهم, ولا تستكثر منهم.

... ولتكن بأمورهم خبيرا, وعلي أحوالهم مطلعا بصيرا, ولتعلم ما فيهم من علم وجهل, وخير وشر.. ولا تقصر بذي فضل, ولا تعتمد علي ذي جهل, واحترز عن غرور المتشَبِّه, وتدلُّـس المتصنع, ولا تعبأ بمن لم يحافظ علي المروءة.. فقلَّ ما تجدُ فيه خيرا....

 واحذر الكذوب ؛ فلن ينصحك من غش نفسه, ولم ينفعك من ضرها. هذِّب نفسك من الدنس يتهذبْ جميع أتباعك, وصوًّن نفسك من الطمع يتنزهْ جميع خلفائك, ولا تجعل لغضبك سلطانا علي نفسك يُخرجْـك عن الاعتدال إلي الاختلال, فلن يَـسْلم في الغضب رأيٌ عن زَلَـل , وكلامٌ عن خَطَل:

 ولم أرَ في الأعداءِ حين اختبرتُهمْ        عدوًّا لعقل المرء أعْدَى من الغضب

 قابلْ هواك بعقلك, واستر خلل خلقك بحلمك, تملكْ من القلوب مودتها, ومن النفوس مساعدتها, واجعل عملك ذخرا لك عند ربك, وسيرتك أثرا مشكورا بعدك, ليقتديَ بك الأخيار, ويتبع أثرَك الأبرار, فيبقي في الدنيا جميلُ ذكرك, ويدخر في الآخرة جزيلُ أجرك, فتسعد في عاجلتك وآجلتك , وتحصل لك سعادةُ الداريْن, وسيادةُ المنزلتين, والله يمدك بالمعونة والتوفيق, ويهديك إلي سواء الطريق .

 وكأنها رسالة إليكم يا حكامنا...

 لقد تعمدت أن أقدم للقارئ هذه القطوفَ الغالية من خاتمة كتاب «المؤلف المجهول» .. وقد آثرتُ أن أترك النصوص تبوح بما حَمَـلَتْ دون تدخل مني بشرح وتبيين, لأنها ناطقة بذاتها, وآمل أن يعيد القارئ قراءة هذه القطوف بتأن وتأمل, ليؤمن بمصداقية ما قلته من قبل «ألا ما أشد احتياج حكامنا إلي أخذ أنفسهم بها, ونحن نعيش فترة من حياتنا نحتاج فيها للعدل والحرية والأمانة والنظام والاستقرار .