اليواقيت تنثر بهاء الأقحوان

اليواقيت تنثر بهاء الأقحوان

قراءة في المجموعة الشعرية

للشاعر الدكتور ناصر الأسدي

عبد الزهرة لازم شباري

[email protected]

بلغة غنائية تصويرية أستطاع الشاعر ناصر الأسدي أن يوجه سهمه بالقوس الذي تفرد به وجعله وسيلة صائبة لمرماه الرئيس ، لكي يوجه ما يكتبه إلى الوجهة التي يراها أقرب إلى تكوينه الثقافي وذوقه الجمالي ، عندما يبدأ بحياكة قطعته الموسيقية ، بادئاً برسم النوتات الدالة على ألق السفر الجاد مع تلك الأنغام التي يروم الدخول بها إلى صميم الذات !

هذا السهم الذي أراده الشاعر أن يكون مشبعاً بواقع التراث المترامي الأطراف على طول الساحة الشعرية وعرضها والتي ثبتت في أركان الأرض منذ أن دحاها الله ، وخلق فيها آلات الإبداع ألا وهو الإنسان ، لكي يرسم صوره المبدعة على وجه التربة فيها !

فهذا التراث الذي ترامت له عين الشاعر وسكن له فؤاده وتاه فيه لبه ، جعل منه إنعكاساً لمرآته الصورية على أدائه الشعري ، وعلى طبيعة موقفه من اللغة التي يحرك بواسطتها المشاعر والأحاسيس التي تحدد موقفه المتفرد منها !

فالأسدي هنا يتلمس بعين لا تقبل الجدل ملامح ذاك النموذج الذي خطته الأوائل للشعر ، ورسمت به التأريخ الخالد لها .

فنراه يتململ في عصره القلق ، ضاجاً في مسعاه كي أن يخرج ثانية إلى الهواء الطلق الذي يعيش به أسلافه فيما مضى ، معيداً ذلك الوجه الناصع للأمة وتأريخها الثقافي والشعري !!

 وعليه أختار الشاعر ناصر منذ بدايته أن تكون تراتيله المرسومة بالكلمات على مدى عين الشمس وأعنتها الذهبية صوب التأريخ المتجسد بصوت الحكايات التي توقضه من سبات عميق راح يغط به في العصور الجليدية التي تحاصر مثواه ، ثم تنقلب إلى ذكر ينحدر به صوب الشمس التي هي رمز اشتغاله في حكم النص !

من هنا كان يبشر تأريخه بحكم الكلمات التي هي شاهرة كالسيف في عناق الأسنة وهي تنطوي على الرقاب !

ولهذا أدرك الشاعر علاقته بالعالم المحيط به ، هذه العلاقة التي أمضى زماناً من عمره الشعري والروحي في بنائها ، وتشييد ذلك الصرح العالي والحصن الذي ينزوي إليه عند ركونه صوب الكون الواسع ، حيث يسعى إلى إنشاء برجه العاجي الذي يتطلع منه نحو المستقبل الذي ينشده لبلده وتأريخه !

فيقول في قصيدته (( الرسم بالكلمات )) :

(( وحين نسعى فرادى

    كما جئنا صغاراً وعميانا  ! ))

في هذا الإطار نراه يتشدد في أدواته الشعرية بادئاً خروجه الذاتي من بوتقة الرؤى التي تحاصر ذاته من آلام الماضي والنزوح إليه بواقع من القوة ، متذكراً ذلك المجد ، ومحاولاً إعادة ضوء الشمس إليه من جديد !

فيسعى إلى الاستعارات البلاغية التي يتشبث بها لتقوية أسلوبه الشعري البلاغي في رسم اللوحة الأدبية ذات الصور الخلابة الني تنطوي عليها ملامح ذاك التناص مع الذاكرة التي شغلت لبه من التراث العربي والفكري ، برموز ذاتية بلاغية  ، وأسلوب متفرد ينطلق منه الشاعر نحو فضاءات من تكوين الذات !

فيقول في قصيدته ( الرحيل إلى أين ) مخاطباً من يراها جزء من تكوينه الشعري الذي يتحد مع روحه الضاجة نحو الأسى والعذاب واللهفة:

(( عديني إنك حين ترين الشمس تنفى ،

    وتأفل كل يوم ،

    فإنك عند مغيبها ..

تتذكرين ملامحي !! )) 

فهو يستلهم الذكرى والشوق من خلال معبودته نحو فضاءات لا يستطيع أن يستغني عنها بحبه لوطنه والشوق الدائم إليه ، حتى وإن كان قريباً منه !

إذ ْ يثبته حتى في جل مفرداته الشعرية التي يخلق منها ذلك الشبق الروحي والحب الغامر للتراث والوطن والأهل والحبيبة ، فهو يفتح عينه باتساعها نحو الملامح التي تقربه من ذاك الحب المترامي في عروقه نحو تحرير اللغة من مرماها الذي ينزوي نحو الذبول إلى عالم السحر والعذوبة ، لاوياً عنان القصيدة نحو الحداثة التي يرى  فيها الخروج من المستطاعات التي تأوي به إلى الإحراج نحو ما يربو إليه الأدب والشعر في يومنا هذا !!

 لهذا نراه حذراً في أن يكون إبداعه منسجماً مع منطلقات الذات ، متذكراً هدفه الرئيسي في حبه للوطن والتراث فيقول :

(( عديني إنك حين ترين

    علم العراق ،

    يرفرف فوق أبنية المطارات ،

    فإنك تعودين كمن فقدت ..

    بالبكاء تذكرة الرحيل !! ))

فها هو يبحث ، تضج به نفسه التواقة نحو الأمل الذي يوصله إلى ما يصبو إليه من مستقبل الأدب الذي بقي سلاحه نحو الوصول إلى الهدف الذي يسعى من أجله !

وكل قصائده ( غيبوبة ، ذاب في القرار ، للبحر أوجه متعددة ، انتظار ، الرهان الأخير ، من أوراق الفجيعة ، وغيرها في مجموعته ذات الثلاثين قصيدة ، والتي أسماها ( لا نزيف لليواقيت ) نراه يبحث عن واقعً مقموع ومغيب، حتى إن أمكن لنا أن نقول مستلباً ، فهو أقصى ما يكون فيه أن يقدم نصه الشعري المبدع ، وينفض غبار ما لحق به وما أندثر !

بقي أن أقول أن معاناة الشاعر ناصر جزء من معاناة جيل كبير ينتمي إليه ، سوف يتألق ذات يوم وهو يقف على أطلال ماضيه القريب ، محذراً في قصائده وفي صوره الشعرية من الأنزواء في سراديب الحياة المظلمة !

لهذا لا أريد أن أسلب من القارئ الكريم فرصة التمتع بما كتبه الشاعر ناصر ، ولكني أوجه أنظاره لكي يطلع على هذه المجموعة الصغيرة ، آملا  له النجاح وإبداعات أخرى !!