رواية "شيخ الرماية" للمبدع محمد أنقار

خالد البقالي القاسمي

رواية "شيخ الرماية" للمبدع محمد أنقار

المعنى والوجود

خالد البقالي القاسمي

كاتب وناقد

مازال الكاتب المبدع محمد أنقار ينحت عالمه الروائي بكل احترافية، وضبط، وإتقان، بل وبإدراك واع لقواعد اللعب، اللعب الجدي.

رواية " شيخ الرماية " ليست فقط حكاية داخل الحكاية بل هي كذلك تشكيل لقواعد بناء وصناعة الحكاية، وحكاية الشيخ فن وعمل إبداعي يتطلب القراءة والتحليل بسبب غموضه الذي لا ينضب معينه، وبسبب الرمز الثاوي خلفه، وكل رمز يعتبر مفهوما أساسيا لكل استيطيقا، والمبدع محمد أنقار شيد استيطيقاه عبر تحويل المكان / تطوان إلى موضوع للرواية، ورغم أن هناك توترا دائما بين عمل المبدع وعمل الناقد أي بين الصور المتخيلة وبين التصور فإننا سوف نحاول أن نضيق الهوة بين هاتين الصيغتين لكي نصل بواسطة تصالحهما وانسجامهما إلى فهم بعض النوايا التي رامها المبدع في روايته.

 يجب التركيز بدقة كبيرة أثناء قراءة رواية " شيخ الرماية " حتى لا يقع الخلط بين الواقع ووهم الواقع أثناء تتبع أحداثها، إذ يجب أن نكون على يقين تام بعدم القدرة أو عدم إمكانية تحويل شخصيات الرواية إلى أشخاص، فمحمد أنقار هو حفيد جده شيخ الرماية، إنه التاجر الذي يسكن حي النيارين بمدينة تطوان ولا علاقة له بالتفكير والبحث والإبداع، لقد آثر أن يأخذ من العلم النزر اليسير ويقبع في دكانه لبيع الملابس، بعكس صديقه المثقف مفتش الفلسفة عبد الرزاق الوردي الذي أخذ حظا وافرا من التعلم، وقبل عن طيب خاطر مشاركة صديقه محمد أنقار في عملية البحث عن الأخبار التليدة لجده شيخ الرماية، لماذا انخرط عبد الرزاق الوردي في عملية البحث مع صديقه عن الأصول الأولى لأخبار الجد؟ ما الذي دفعه إلى ذلك؟

 تدل الرواية على هوس النسخة بالبحث عن أصلها، لقد عمل محمد أنقار وعبد الرزاق الوردي على البحث عن الأصل والهوية بين ثنايا المعنى والوجود، دفع الأب ابنه محمد أنقار إلى البحث في الصمت المحيط بذكرى شيخ الرماية، مع أن رؤية الأب هي غير رؤية الإبن، إنه الفرق بين الصورة والإيماءة، لقد اصطدم الإبن بمفهوم الكهف الذي تم توظيف لفظه في الرواية عدة مرات، لقد تمت عملية تكرار لفظ الكهف في الرواية مرات متعددة، في صفحة 43 تكرر لفظ الكهف مرتين، ولذلك يبدو أن الكهف في أعلى الجبل هو مدار الحكاية ومصدرها لأن: " السر هناك في الأعالي دوما " ص.86، إن الكهوف غالبا ما تحتوي الأسرار والحقائق، والوصول إلى مقر الشيخ صعب كأنه الوصول إلى الحقيقة، يستحضر السياق حتما قصة كهف أفلاطون التي تتعرض لمصير الحكماء والأنبياء والمثقفين، فالسارد سجين الكهف يرى انعكاس الظلال، ويسمع الأصوات، ويحاول أن يفسرها، ويعتبر الظلال هي الحقيقة، والذين أدركوا وجودهم داخل الكهف ظلوا قابعين في أوهام دون أن يدركوا شيئا من الواقع، لأن الذي يخرج من الكهف ويدرك الحقيقة لا يستطيع إقناع الآخرين في الكهف بعكس ما يرونه ويعتقدونه، لقد رفض محمد أنقار دخول كهف " أكرامو "، رفض العودة إلى الأصل خوفا من صدمة الماضي، فضاعت عليه الحقيقة أو تمت عملية تأجيل انبثاقها، فكانت النتيجة حياة عادية، باهتة، وباردة.

 كان محمد أنقار الراوي يبحث عن المغيب عبر المناقب والكرامات والخوارق دون أن يقف مميزا بين حدود الخيال والواقع، فكانت النتيجة علاقة دائرية تنطلق من الميتافيزيقا نحو الجينيالوجيا ثم تعود مرة أخرى متجهة نحو الميتافيزيقا من خلال الوقوف على أطلال " أنقارن " الدارسة، إذ عوض أن يمتد محمد أنقار الراوي في الحاضر آثر أن يمتد إلى الماضي عبر الرجوع والنكوص إلى الوراء من خلال التواء سردي يسير موازيا مع الالتواء الجغرافي لمدينة تطوان باعتبارها المكان الروائي المحتضن للأحداث، بيد أن الإطار الزماني للرواية غير مضبوط بدقة، بدليل المفارقة بين التواريخ في علاقة الشيخ، أي شيخ الرماية ببعض المشاهير مثل الشيخ ابن عجيبة.

 لقد أنهك البحث عن الجد أو عن ذكراه الطاقة النفسية والعاطفية لعبد الرزاق الوردي وهو يساند ويدعم صديقه محمد أنقار في مسعاه والذي صاح فيه: " ساعدني على إنقاذ حكايات الجد فأنقذ بذلك نفسي " ص.46، لقد كان محمد أنقار الراوي يتماهى مع حكايات جده المبعثرة والمشتتة حتى بات يعتقد جازما بأنه امتلك حقيقته كاملة غير منقوصة وكأنه أمسك بجميع التفاصيل الحقيقية والدقيقة لمعنى جده الذي كان شيخ الرماية في عصره وزمانه والذي يبسطه النص الروائي في ص.168، تفكيره في قرب الوصول إلى سر جده جعله يحصل على يقين مطلق بأنه أصبح جد هذا الزمان، وهو ما يعني كما أشرنا إلى ذلك أعلاه هوس النسخة بالبحث عن أصلها، لقد كان يردد دائما بأن للعائلة أصلا ومحتدا من الضروري البحث عنهما والكشف عن أسرارهما: " كانت هناك شجرة للعائلة لكنها ضاعت " ص.88، وعلى هذا الأساس بقي مخلصا لنهجه الذي عاهد عليه أباه، لم يعد الأمر في الواقع يهم أباه وحده: " الذي ظل طوال حياته على يقين بأن البركة لا تزال مخبأة في مكان ما " ص.90، ولكن الأمر أصبح الآن مشروعه الخاص، إنه الآن يبحث عن بركة جده: " وينتصر للحلم " ص.59، ولكن الخوف الشديد الذي كان يتملكه ويؤرقه باستمرار هو ذهاب الأصل، تلاشي الهوية، تحلل مفهوم الحدث ذاته.

 لقد وظف النص الروائي مفهوم الرحلة لكي يومىء إلى استحالة الحصول على المعرفة دون السفر وركوب المتاعب والمشاق، الوصول إلى بركة الجد وتحصيل أخباره لن يتأتى لمحمد أنقار الراوي وصديقه المثقف عبد الرزاق الوردي إلا عن طريق الرحلة، فكان السفر والترحال إلى الرباط، وسلا، وتارنكات، وأنقارن، وبوسملال، والنقاطة... وكل هذه المراكز التي شكلت محور رحلات البحث عن أخبار الجد أربكت الراوي وأدخلته في حيرة من أمره حتى لم يعد يدرك في مكتبة بمدينة سلا ما يريده بالضبط، لقد وقع في لحظة عصية على الفهم والإدراك فلم يستطع تمييز رغبته هل هي كامنة في المخطوط؟ أم في الأصل المجهول؟ أم في معرفة مصير حياته بذاتها؟

 " جاء الشيخ بالكرامة وتعلم الرماية في بلاد سوس " ص.150، تيقن عبد الرزاق الوردي بأن الحفيد ليس وحده من خرج يبحث، لقد سبقه الجد إلى ذلك فخرج قديما هو بدوره إلى الرحلة من أجل تحصيل المجد والشهرة وتعميق عرى الشرف وسمو الأصل بالنسبة لعائلة أنقار، فكانت الرحلة هي سبيله لتحصيل رغبته ومراده، نفس اللحظة تتكرر مع الحفيد، رحلته هي الكفيلة وحدها بإماطة اللثام عن أسرار جده الكثيرة، ولذلك جاءت الرواية مسندة بدقة وصرامة حيث السارد الراوي محمد أنقار يروي عن والده الذي يقود عملية السرد ويتنازل عنها لغيره عندما يرتبك ويحدث التوتر، أما أخبار وأسرار شيخ الرماية الجد فقد تكفلت بها: " ارحيمو الزيناتية عن رحمة عن إحدى قريباتها.. " ص.157، كيف كانت النساء هن من قمن بنقل أخبار وأسرار شيخ الرماية؟ هل كانت النساء أقدر من الرجال على صيانة أسرار الجد؟ هل كانت النساء أكثر إثارة واهتماما بخوارق وكرامات وبركات شيخ الرماية من الرجال؟

 " ارحيمو الزيناتية " نسبة إلى قرية " الزينات " هي التي كانت الراوي الخاص والمتطوع لشيخ الرماية، لم يطلب منها أحد القيام بهذا الدور، لقد أدركت بفطرتها أن عليها القيام بهذا الدور الذي مكنها من الحفاظ على أخبار وأسرار شيخ الرماية ونقلها دفعة واحدة بسخاء وكرم بالغين دون تحفظ أو تنقيح إلى كل من يبحث عنها، وخصوصا حفدة الشيخ أمثال محمد أنقار الراوي، وهنا علينا أن نميز بين السارد الساذج، والسارد الذكي الذي يصرف سرده خطوة خطوة، وهكذا كانت " ارحيمو الزيناتية " واحدة من النساء اللواتي عملن على إماطة اللثام عن أسرار الأصل الذي يبحث عنه الفرع محمد أنقار الراوي بكل رغبة وتصميم وعزم، لقد اعتبر محمد أنقار أن المرأة تستحق كل الفضل والتقدير، ولكن صنيعها المشرف لم يمنع من التمييز والتفريق بينها وبين " خدوج صويط ": " وربما كانت درجة الفرق تلك هي التي أسهمت إلى حد بعيد في خلود نكبة خدوج صويط في أعماقي، ربما.." ص.29 و154 و155، لقد شكلت المرأة " خدوج صويط " بامتياز الجرح النرجسي الذي لم يشفى أبدا في الأحداث والأخبار والكرامات والخوارق والأسرار التي أحاطت بذكرى وحياة الجد شيخ الرماية، هي نكبة لم يستطع الراوي بتاتا النفاذ إلى أصلها وفصلها، فظلت لغزا محيرا، وواحدة من العناصر المركزية في العلاقات المتشابكة التي كان يربطها الجد شيخ الرماية مع من يحيط به ويواليه، لقد ظلت هذه المرأة تقبع في زاوية معزولة داخل المتواليات السردية للرواية، لقد ظلت وحيدة إلا من رعاية الشيخ، لقد عاشت وقضت في خضم السكون والصمت، إنه الصمت الذي يخاطبنا بتمكن تام من خلال فصاحته الفريدة.

 لقد كتب المبدع نصه الروائي انطلاقا من الاستناد إلى خلفية سينمائية واضحة، إنها الوحيدة التي تدعي الحقيقة وتعتبر غيرها عبارة عن محاولات ممكنة، والأمر يعود برمته إلى النقص الكبير في أخبار شيخ الرماية، وشح المعلومات حول مكان دفنه، وفي نفس الآن ويا للمفارقة كان الشيخ يتوارى خلف كم وفير من المحكيات الشفوية، فكيف يتأتى لنا تحقيق التكامل بين الكم الوفير من النصوص التي مصدرها المحكي الشفوي وبين هالة الشكوك التي تنسف موضوعية ومصداقية هذه النصوص؟

 يبدو أن المفيد لنا هو النظر إلى هذه النصوص المتوارثة والمقولة من زاوية " مفهوم الندرة "، وهو أحد المفاهيم المتداولة في الحقل الفكري الألماني، ولهذا المفهوم أهمية حاسمة في تحليل وبيان السياقات المصاحبة لكم الروايات والمحكيات الواردة على ألسنة المعاصرين لشيخ الرماية، أو رواة مآثره، وخوارقه، وكراماته.

 يعني " مفهوم الندرة " استنادا إلى النص الروائي المستهدف أن الحكايات التي رويت عن الشيخ مهما بلغت كثرتها فإنها تظل قاصرة عن التعبير عن الحقيقة، ثم إن العبارات التي صيغت بها حكايات الشيخ هاته تظل هي الأخرى عاجزة عن التعبير عن الحقيقة بلغة عادية ومفيدة وذات وصف خطي، دائما هناك تعرجات وانكسارات في جميع الحكايات المروية، بمعنى آخر تظل جميع هذه المرويات والعبارات الناقلة لها ناقصة وعاجزة، ولا تؤدي الدور المطلوب، والوظيفة المقصودة، ويندرج هذا المعنى ضمن سياق دقيق " لمفهوم الندرة " يفيد بأنه لا يمكن أبدا أن يقال كل المطلوب والمقصود من طرف جمع يروي حكايات مختلفة من خلال مرويات متنوعة مستندة إلى أغراض مبعثرة ومشتتة يمكن أن ننظر إليها وفق أربع صيغ:

1- مبدأ أن الكل لا يقال أبدا على اعتبار أن الحكايات قيلت بالتدريج وبالتقسيط، وهو ما يدل عليه النص الروائي، حيث قضى محمد أنقار وصديقه مفتش مادة الفلسفة عبد الرزاق الوردي فترة طويلة من البحث والانتقاء لدفع كثير من الرواة للتعبير عما يحفظونه من روايات وحكايات عن شيخ الرماية، ويبقى مفتش الفلسفة مؤهلا تأهيلا علميا كافيا لتوظيف التحليل العقلاني في التعامل مع المرويات في صورتها الخام.

2- تحمل الحكايات والمرويات في طياتها التبعثرات، والفراغات، والفجوات، حيث إن النصوص الشفهية المروية من طرف رواة غير مؤهلين فكريا ومنبهرين بالمادة الحكائية لا يمكن أن تكون إلا فاقدة لعناصر المصداقية التامة.

3- الحكايات التي قيلت تعمل على كبت ما لم يقل، وتساهم في ادعائها الصدارة لتحتل مكانه، بمعنى أن كل حكاية تدعي تقديم نموذج شيخ الرماية، وهنا بالضبط ضاع النموذج، وضاعت حقيقة شيخ الرماية، الجد المفقود داخل الحكايات.

4- تتضاعف الحكايات بالتوالد الداخلي، حيث كل رواية قيلت في حق الشيخ تصبح بعد فترة حكايات متعددة، وهكذا تتناسل الحكايات إلى ما لا نهاية، فتضيع الحكايات الحقيقية، وينتفي الوجود الاعتباري للشيخ، وبذلك تمت عملية الأسطرة التي أخرجت الشيخ الوقور من طابعه العادي، من بطل إنساني إلى بطل خارق.

النتيجة التي يمكن أن نخلص إليها هي أن الندرة تعالج بتوظيف مفهوم التأويل، إذ هو الوحيد المؤهل لهدايتنا نحو الكلية، والوفرة، والشمولية، والأصل أن قيمة هذه الحكايات الممتعة في تبعثرها وتشتتها لا تكمن في صدقها، أو واقعيتها، أو بحضور مضمون خفي يسكن ثناياها، بل إن قيمتها تظهر في تميز مكانتها، وقدرتها على التداول، والمبادلة، والتحول.