قراءة لأفكار سالم يفوت في كتابه "حفريات الاستشراق"

قراءة لأفكار سالم

يفوت في كتابه "حفريات الاستشراق"

د. أميرة سامي محمود حسين

قسم اللغة العربية واللغات الشرقية وآدابها

جمهورية مصر العربية

1- الاستشراق من منطلق معرفة المستشرقين

تناول سالم يفوت بالتحليل النقدي الاستشراق كإشكالية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسلطة، وتعامل مع اللغة كأحد الممارسات الاجتماعية التي تدرس كيف ساهم النص والكلام على خلق السلطة الاجتماعية والسياسية الاستعمارية؟؛ فجاءت لفظة الحفريات والسلطة مرتبطان مع بعضهما البعض ارتباطا كليا في نقد مواقف المستشرقين؛ كقضية أبستمولوجية لعدم موضوعيتهم لما يطلقونه من أحكام تتسم بالميول والنزعات والرغبات الذاتية؛ حيث اعتبر المستشرقون الاستشراق فرعاً من فروع المعرفة أو فنا من فنونها قائم الذات منفرد الموضوع والمنهج؛ مما يجعلهم يدافعون عن شئ مخالف للحقيقة والواقع؛ فظهرت رؤية المستشرقين في بعض المسائل التاريخية، والحضارية، والثقافية التي تركزت على الذات وهيمنة ذات الباحث وهيمنة منظوره الحضاري والعرقي  فاخذ "يلتمسون تفسيراً لوقائع ثقافية وحضارية وفكرية في العرق رغم قناعتهم داخليا بان تفسيرهم ذاك ليس هو الحقيقة(1)

- لذا دعا سالم يفوت المستشرقين إلى تناول الاستشراق من المنظور الأبستمولوجى؛ حيث يري الفرق بين تاريخ الاستشراق، ومواقفه، وإخراج اشكاليته إلى النور، فتحليل صورة الآخر في الدراسات الاستشراقية هي تفكيك الرؤية التي كونها الغرب لنفسه وللآخر حتى لا يجد المستشرق نفسه وجها لوجه أمام معرفة غربية لابد من نقد أساسها.

في هذا السياق استخدم سالم يفوت التحليل  لنقد بعض أسس ومفاهيم الاستشراق التي تم نقلها أو إسقاطها تأكيد لوحدة التاريخ ومراحله وأطواره مع التركيز على علاقة الاستشراق بالمركزية الأوروبية والسلطة الاستعمارية وذلك للكشف عن العناصر المعرفية الأيديولوجية في الاستشراق وكيفية تخفى السلطة والمؤسسة في خطابة ذي الوجه المعرفي.

- وقد تناول سالم يفوت قضية ربط الاستشراق بطبقة معينة أو بفكر معين؛ وذلك باعتباره خطاب إرادة القوة حيث يرى أنه :" لا يوجد مبرر لربط الاستشراق بطبقة أو بفكر معين"(2)

وأعطى على ذلك مثال لمفكري وفلاسفة الأندلس الذين يرون أن سريان الدم الأسباني في عروقهم كان نتيجة تزاوج الفاتحين العرب والاسبانيات؛ وهذا التزاوج أدى إلى اندثار الدم العربي وغلبه الدم الأسباني عليه مع مر السنين.

وهذا المثال أوضح وظائف السلطة أيديولوجياً في أنها تنتج الواقع كما تنتج الحقيقة؛ ولكن بشكل مغلوط.

 وهنا أوضح يفوت المحاولات الرامية التي أرادت السلطة الغربية للاستشراق أن يسير فيها، وهى اللجوء إلى المفهوم التاريخي للوعي المغلوط، واعتبار أراضيها هي منبع المعرفة التاريخية الصحيحة؛ وذلك تمهيداً لإرساء الرؤية المركزية الأوروبية للعرق على أنها نوعا من التطور للمجتمع والكائنات الحية، وقد نقد سالم يفوت هذه النزعة التطورية لأنها " تنظر إلى الاستشراق كمشكل أبستمولوجي يرفض التطورية والحقب في التاريخ" (3)

لذا عارض يفوت القول بحتمية وحدة الحقب فالعصر الوسيط الأوروبي لا ينطبق على أوروبا وحدها بل يشمل كل الحضارات والثقافات الأخرى المعاصرة له؛ بل يؤكد أن النزعة التطورية للحقب التاريخية من أبرز مظاهر التمحور على الذات؛ انتقاء التواريخ والأحداث المهمة، استناداً إلى مركزية غالباً ما تكون هي المركزية الأوروبية، فقد جرت العادة على تسمية التحقيبات التاريخية بأن ثمة عصر قديما وآخر وسيطاً وأزمنة حديثة هذه التحقيبات كان لها دورها في الاختلاف والتفاوت بين التواريخ كوسيلة لطمس حقبة أفضل من إحداها في وقت من الأوقات.

المفردات الاستشراقية

يرى سالم يفوت أهمية التنبه لاستخدام المستشرقين مفردات ومصطلحات ذات خلفية متمحورة على الذات الأوروبية؛ فمثلا يلعب مفهوم " التقدم" أو "التطور" دور البداهة نفسها تلك البداهة التي يصعب التشكيك فيها أو كشف خلفياتها الأيديولوجية تلك الخلفيات المتمثلة في رؤية العالم من خلال الذات والحقل الثقافي للذات؛ لذا فان هناك الكثير من المفاهيم تعانى من الخلل استخدمها المستشرقين في دراسة التاريخ الحضاري منها على سبيل المثال مفهوم الحضارة هي النور في مقابل الظلمة التي لازال البدائيون يعمهون فيها(4)

لذا يرى يفوت أهمية استخدام مفردات ومصطلحات ذات خلفية في نقد التمركز العرقي أو التمحور على الذات لاسيما في استخدام المصطلح التاريخي والأوصاف الحضارية والانطروبولوجية التي لها حمولات أيديولوجية خفية.

3- التحليل الاستشراقي للأحداث التاريخية:

نقد سالم يفوت القوالب الفكرية الجاهزة التي صب فيها المستشرقين تحليلهم المحوري للذات وهى قوالب جاهزة فرضت على الواقع الاستشراقي فرضاً بحيث لا يخامر صاحبها أدنى شك في وضوحها وبداهتها وهذا ما جعل أحكام المستشرقين عامة (5)

ومن هذه النماذج الاستشراقية التي أوردها يفوت نظرة المستشرقين الأسبان ومفكرو اليسار إلى الوجود العربي الإسلامي بالأندلس على أنه وجود كارثي جاء ليشوش السير الطبيعي للأحداث والتاريخ واستند ببعض أقوال المستشرقين منهم أمثال مونتسيكو إلى يقرن المحمدية بالاستبداد والمفكر الأسباني سانشيت البرنث الذي يصف المرابطين والموحدين بجحافل الجراد الأفريقي(6)

وتتسع نظرة هؤلاء المستشرقين حول الوجود العربي في الأندلس بأنه كان وجوداً شكلياً لم يمارس أي تأثير فكري أو عرقي على المجتمع الأندلسي المحافظ على قيمة وثوابته لذا يؤكد المستشرقين الأسبان على اسبانية مفكري الأندلس وسريان الدم الأسباني في عروقهم(7)

- فعلى مستوى الكتابة التاريخية قسم يفوت طريقة نظر المستشرقين إلى كتابات المستشرقين الذين تناولوا الأندلس ذوى الأصل العربي فوجدها اتسمت بهيمنة الخيال والإكثار من الحكايات والخرافات وخلو الروح النقدية من أعمالهم بينما اتسمت كتابات المستشرقين من ذوى الأصل الغربي بخصائص معاكسه حيث هيمنة المنهج العقلي والروح النقدية ومحاولة البحث عن المسببات والأحداث عن أسبابها الواقعية لذا كان نقلهم للأخبار يعتمد على نقد الروايات وتمحيصها قبل إيرادها وحلل  يفوت وجهه نظر أحد المستشرقين وهو البرنث في الخطاب الفكري في الأندلس فوجده  ينظر لتخلف الشرق من حيث المضمون الفكري والفلسفي العقلاني للثقافة الأندلسية التي وضعت في قالب لا عقلاني موروث من الشرق ويقصد بالقالب هنا المفاهيم الروحية والسياسية المستقاة من الحضارة الإسلامية التي هي حسب زعم ألبرنث استبدادية بطبيعتها وعاجزة عن إنتاج معرفة علمية كافية وان دخول المسلمين إلى الأندلس كان بمثابة كبح تاريخي للأندلس فرض عليها منع ظهور شخصيتها الأندلسية الحقيقية لفترات طويلة.

ومن تحليل يفوت لنماذج المستشرقين حول الأندلس وجد طابع استبدادية الشرق لدى المفكرين الاستشراقين الذين تمسكوا بالمادية التاريخية مع تفسير بعض الأحداث التاريخية بالعرق.

وتساءل يفوت مندهشا عن كيفية استقامة التفسير المادي التاريخي مع اللجوء إلى التفسير بالعرق والجبلة والخصلة؟

الهوية و دورها الاستعماري في الدراسات الاستشراقية الماركسية:

نظر سالم يفوت إلى كتابات ماركس وانغلز حول مجتمعات الشرق فوجدها إحراجا أيديولوجيا يتسم بنظرة استعلائية على مجتمعات الشرق وتقدم تبريرا للاستعمار وتؤكد على أن الأمم الصغيرة والمستضعفة عاجزة عن توفير الإطار التاريخي الكافي للتطور الرأسمالي بنفسها والذي عده يفوت سببا لنمو التخلف (8)

والدليل الذي قدمه لنا يفوت في كتابه هي نظرة ماركس وانغلز إلى الاستعمار انه سببا في تقدم الحضارة، فقد رد انغلز ثورة الأمير عبد القادر الجزائري على المستعمر الفرنسي إلى كونها صراعاً ليائس حالة بربرية المجتمع الجزائري مرحباً بالغزو الفرنسي للجزائر / والذي يعد حقيقة هامة في تقدم الحضارة.

وقد رصد يفوت في تفسير اتغلز هذا على فرضيتين أساسيتين هما:

1- ركود التشكيلات الاجتماعية للعالم الشرقي وان الرأسمالية تستطيع أن تلعب دورا تاريخيا في تحطيم أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية التي تسود هذه التشكيلات.

2- أن الأمم الصغير أو ثورات الأقليات لا تساهم في تطور الرأسمالية كنظام علاقات  اقتصادية عالمية.

على هذا لا يجد تعارض فى فكر ماركس بين التركيز على الذات وبين التبشير بشمولية التاريخ الأوروبي وكونيته، فرسالة الاستعمار هي رسالة تمدينية نشر مدينة العالم الأوروبي في العوالم غير الأوروبية ومن هنا تأييد ماركس وانغلز لغزو أفريقيا  للمكسيك سنة 1849م وتأييدهما كذلك لاستعمار الجزائر.

وقد ساهمت هذه الأطروحات المركزية للاستشراق الماركسي في ظهور التاريخ الغربي متميزا بالمقارنة مع تاريخ الشرق بل ويعد نموذجاً للتطور الاجتماعي لإظهار نقائض التواريخ الأخرى(9)

وقد ظهر بصورة واضحة أن الخطاب الاستشراقي حينما يتحدث عن الغرب ونموذجيته يسقط في ميتافيزيقا الهوية أي في نظرة تعتبر الغرب كيانا واحدا وهوية واحدة مختلفة اختلافا كليا وشكليا مع المجتمعات الشرقية، فرؤية ماركس للمجتمعات الشرقية مشبعة بصورة صنعها المستشرقون أو على الأصح صورة تستعيد الأدبيات الشرقية التي أنشاها الغرب لنفسه وللأخر ابتداء من عصر النهضة أو عصر الأنوار اسقط خلالها مواقفه ومشاغله على الشرق وباقي المجموعات الأخرى متخذا لنفسه  مرجعا وهو التمركز على الذات تمركز عرقي يختزل كل الفوارق والاختلافات في هوية كاذبة تتخذ شكل تعميمات مثل الاستبداد الشرقي ، وغياب الطبقات وغياب التاريخ(10)

هكذا تحول الشرق في الخطاب الاستشراقي الماركسي إلى شرق غافل وفى غفلة عن التاريخ ولابد من جره جرا من قبل غرب يقظ فطن ذو قدرة على المبادرة وقد ظهرت العديد من محاولات المفكران ماركس وانغلز إلى اتخاذ إجراءات صارمة بوضع الشرق إقليما للجمود والتحجر والتصلب والاستبداد في مقابل الغرب بوصفه قيمة حقيقة للتقدم والتحديث والديمقراطية والحرية (11)

وقد استند ماركس بأمثلة متعددة أغلب ما تكون كاريكاتورية أو عبثية طفولية عن الاستبداد الشرقي في وصف "شاه زمان" أو "شهريار" في ألف ليلية وليلة كما يصف زعيم المغول بأنه "رجل صغير البنية " أصفر السخنة، ضامراً هرماً يرتدى بزه مسرحية مرصعة بالذهب أشبه ما يكون براقصي الهند بل على الأصح بدمية مغطاة بالزخارف والنياشين ، ويظهر ليضحك أتباعه ويملأ قلوبهم بالبهجة(12) 

هكذا وقف يفوت على متطلبات النقد العلمي فوجد مفاهيم نمطية تمرر الرؤية الاستشراقية المتمركزة بالعرقية والاختزال لحضارات مختلفة وتعميدها باسم واحد ومفهوم موحد كما تولدت هويات ثابتة مثل شرق وغرب / نحن وهم/تحديث وتأخير/ تقدم وجمود(13)

وهذه المفاهيم هي التي تغذى عليها الخطاب الاستشراقى لإفراز الاستبداد الشرقي والمجتمع الإسلامي فكان النقد العلمي لمعرفة حقيقة الأسس والجذور النظرية التي قام عليها الخطاب الاستشراقى.

الاستشراق والكتابة التاريخية

قام يفوت بدراسة سجلات الاستشراق السابقة خلال فترات تاريخية طويلة أظهرت الكتابة التاريخية في التحليل لظاهرة الاستشراق إلى إظهار التركيز على الذات في الحكم على الأخر من منظور تحكمه فلسفة الهوية والنظرة المغايرة عن الأخر.

وقد رأى يفوت أن استنباط الحقائق التاريخية من النظريات الاجتماعية لها أفكار معبرة في هذا المنحى منها:

انهيار مفهوم "الحقبة التاريخية" الواحدة أو "العصور التاريخية المتماثلة التي قد تعتمد في عملية تخصيب شاملة، ولم تعد الحقبة كمفهوم تستعمل دونما تحديد للمستوى الذي يتم منه الانطلاق في تحديدها وبهذا صارت تماثل البنية(14)

ومن خلال هذا التحليل السببي وجد يفوت أن ليفى ستروس يثور على التميز بين ثنائية الفكر المتحضر والفكر غير المتحضر وهى ثنائية أفرزتها المعرفة الغربية في إطار اعتبار التقدم ارتقاء خطيا في مدارج الزمان وحيد الاتجاه صوب هدف معين (15)

فمفهوم التقدم تنده نظرة تاريخية تعتبر لحظات التاريخ لحظات في تطور عام وهذا ما جعل ليفى ستروس يثور على التميز الشائع بين عقلية بدائية وأخرى متحضرة فالفكر البدائي يتوفر على نفس المؤهلات المنطقية التي تمنعنا من اعتبار سابقا على المرحلة المنطقية الحاضرة.

وقد ارجع يفوت هذا النقد إلى اجتماع المعرفة الذي ارتبط بالنظرية الأيديولوجية رغم انه يتميز عنها ويبدو وجه ارتباطهما في أنهما يسعيان معا إلى كشف وتحليل العلاقة بين المعرفة والوجود وتعصب جذور الأشكال التي اتخذتها العلاقة خلال مسيرة التطور العقلي الذي قطعته البشرية ولهذه الكيفية يستطيعان منح النسبية أساسا موضوعيا .

لذا اضطلعت الأيديولوجيات بمهمة كشف القناع وإماطة اللثام عن المخادعات الواعية المقصودة وعن تستر وتخفى المصالح السياسية خاصة خلف الأفكار وأبرزت الفلسفة الثاوية وراء إشكالية الاستشراق.

هكذا اخضع سالم يفوت تاريخ الاستشراق للدراسة والتحليل النوعي وذلك بتحليل الحقائق التاريخية المتعلقة بمشكلة الاستشراق التي تستند إلى تصور خطى متصل للتاريخ يأخذ التطور بمعناه الميكانيكي و يسقط في منظور غلب على كل الدراسات الاستشراقية التي شكلت الحاضر.

المصادر والمراجع :-

1- سالم يفوت:" حفريات الاستشراق" ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت، 1989،صـ5

2- المرجع السابق: صـ10

3- المرجع السابق: صـ15

4- المرجع السابق: صـ20

5- المرجع السابق: صـ22

6- المرجع السابق: صـ29

7- المرجع السابق: صـ31

8- المرجع السابق: صـ14

9- المرجع السابق: صـ61

10- المرجع السابق: صـ62

11- المرجع السابق: صـ64

12- المرجع السابق: صـ65

13- المرجع السابق: صـ65-66

14- المرجع السابق: صـ70

15- المرجع السابق: صـ71