النقد الاجتماعي في (مهرجان القصيد)

يحيى بشير حاج يحيى

للشاعر عدنان علي رضا النحوي

يحيى بشير حاج يحيى

[email protected]

إذا كان من معاني المهرجان هو الاحتفال الذي يقام ابتهاجا بحادث سعيد ، أو إحياء ذكرى عزيزة ، فإن هذا الديوان الذي حمل عنوان (مهرجان القصيد ) للدكتور الشاعر عدنان علي رضا النحوي ، قد حفل بكل هذه المعاني ! فهو إلى جانب مقدمته الضافية ، قد ضم أبوابا عديدة صنفت القصائد بحسبها ، مثل : في ميادين الحياة – من الملاحم – مع الأصدقاء و لكننا سنقف عند جانب النقد الاجتماعي الذي يبدو واضحا في عدد من القصائد برؤية شمولية متوازنة تبرز موقف الشاعر من الحياة و الأحياء :

فالشاعر في نظرته إلى الجمال – مثلا – لا يتوقف عند الجانب الحسي الذي يأخذ بألباب الكثيرين ، و يتمثل بالفتنة التي تعصف بالقلوب ، و كما يراه المقنع الخراساني :

خلقتَ الجمال لنا فتنة          و قلت لنا : يا عبادي اتقون

فأنتَ جميل تحب الجمال       فكيف عبادُك لا يعشقون

و لكنه عند النحوي جمال مبثوث في كل ناحية ، و هو جمال يراه المؤمن الذي يعلم أن الله خلق الجمال للتفكر في آياته ، لا للسقوط في مهاوي الشهوات :

سيبقى الجمال لنا آية           يرى اللهََ في صدقها العالمون

و مَنْ عَرَف الحُبَّ لله        علمه الحبُ ترْكَ المجون

 و أما الفتاة التي غرها جمالها، ففتنت بنفسها ، و فتنت غيرها فهي في منظار الشاعر المؤمن ليست سوى ( خضراء الدمن ) حسن منظرها ، و قبح جوهرها :

كم شقي ٍتاه فيها جاهلا ً               و شقي كان من خطابها

كم فتى غرّ ٍ جرتْ أنفاسُه            خلفها تلهث في طلا َّبها

غرّها الحُسْنُ فلم تحفلْ بهم           و جرتْ تختال في أترابها

لم يكن حسْنا ًعلى أعطافها           ما بدا ، بل كان مِنْ كِذ ّابها

و أما الحسن الحقيقي فهو ما ارتفع بالإنسان عن حمأة الطين ، و سما به إلى مراقي المثل :

روعة ُالحُسن عفاف ٌ يتقي         زلة ََ العين و لا يشقى بها

و رداءُ الطهر أحلى زينة ً          و سنىً لو ماج في آدابها

و جمال العُري في خضرتهِ        دِمَنٌ تقتل من أصحابها

و خضراء الدمن هذه التي تمثلت في فتاة غرها جمالها ، و خدعها بريق حسنها فخدعت و انخدعت تظهر في صورة أخرى بأشكال متعددة يخشى الشاعر منها على الأمة أن تغتر بها و تسير خلفها ، فيحثها على النجاة منها في قصيدة تحت عنوان ( هي النجاة أدركيها ،أو النجاة من حضارة الغرب) لا في جوانبها التقنية و العلمية ، و لكن في جوانبها الفكرية و العقدية و منهج حياتها ؟! و يرتفع صوته : النجاء .. النجاء فقد كثر الغارقون و الهالكون الذين أضلتهم شعارات الحرية الكاذبة ، و خلط عليهم المخلطون الأمور ، و فتحوا لهم أبواب الفتن ، و ألبوا المذاهب الهدامة ، فهتف الضائعون للحضارة  ، و لم يعرفوا لها إلا وجها واحدا و هو الوجه الذي لا يبني أمة ، و لا يوقر خلقا /

ما قيمة ُ العلم الذي              يلهبُ حُمى السَّبق ِ

يلهب من جنونه ِ               و من هوى أو شَبق ِ

يبني و يعلي ما بنى           شواهقا ً في أفق ِ

ثم تراه ينثني                    في لحظة من نزَق

يهدمها إلى الثرى              كأنها لم تسمَق ِ

فهذه حضارة ٌ                   واهية ٌ من ورق

ماتت مروءاتُ الرجا          ل و انطوتْ عن مَلق

يا أمتي لا تركني               لظالم أو أحمق

هي النجاة ُ أدركيها           أو ذريها فاغرقي

و عن الزخرف الذي سحر الكثيرين ، و غشى أبصارهم ، و قلب كثيرا من الحقائق يتوقف الشاعر عند فقير من فقراء المسلمين في الهند ، و قد شاهد في تلك البلاد من مظاهر البؤس البئيس فيصف بؤسه و حاجته، و هو يمد يده الواهنة ليتناول درهما بعد أن ألجأته الحاجة إلى ذلك ، و ما كان حق الإنسان الذي كرمه الله تعالى على العالمين أن يصل إلى هذه الدرجة من الفاقة و قد كادت تخفي إنسانيته :

فقلتُ له : من أنت َ؟ قال : جهلتني              و إني أنا الإنسانُ أصلا و منزلا

أبي آدم ٌخَرَّتْ ملائكة ُ السما                سجودا ً له ! مَنْ كان أعلى و أفضلا

و كرّمني ربي فيا لفضيلة ٍ                 و صبري على ما قد قضاه و عجلا

و أسعى جهادا ً في الحياة و ربما             طغى ظالمٌ فيها فآذى و عطلا

و أمضي مع الدنيا أؤدي أمانة              و أطلب في الأخرى نجاة ً و موئلا

و هكذا قدم نفسه للشاعر كما خلقه الله ، بوصفه المخلوق المكرم الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض ، و تلك هي الحقيقة !

و لم يقدم نفسه في صورته الراهنة فقيرا كدّه الجوع و التعب ، و لم يفته أن يطلب من السائل أن يعرفه بنفسه ، بحقيقة نفسه :

و لكن ترى مَن أنت َ؟ فيم سألتني          و أنكرتني ، هلا عرِفتكَ أوَّلا؟!

عليك ثياب قد تخفيتَ تحتها              و طيب ٌ، فما أحلى الثياب َ و أجملا!

و يكتشف الشاعر حقيقة ، و هي أن بين هذه الأطمار إنسانا لم تخف تلك الأطمار حقيقته ، و إن كانت قد شوهتها ؟!

فحِرتُ و لم أدر الإجابة عَلني            سمعتُ مقالا ً ما أجلَّ و أعدلا !

و ما كنتُ قبل اليوم فكرتُ مَن أنا           و لا سألتْ نفسي السؤال المؤملا   

ظننتُ به جهلا ً، فلما سمعته               علمتُ بأني كنت أعيا و أجهلا

و أما قصيدته (الإنسان بين الذهب و النحاس ) فيرمز فيها إلى القيمة الحقيقية للأشياء ، و أن شرف الشيء لا يعني انعدام قيمة الأشياء الأخرى ، و أن الأمور في نهاية المطاف بنتائجها فلا يخدعن أحد بمكانته ، ولا يبخس الناس أشياءهم !

يقول الشاعر على لسان الذهب :

أنا الذهبُ الغالي ، فأي ُّ مكانة ٍ             تنافسني فيها ، و أنتَ نحاسُ

مكانيَ تيجانُ الملوك و حِلية ٌ           و يزهو بحسني مِعصَمٌ و لِباس

و أنا مع علية القوم أسعدهم و أبهجهم         بينما أنت مع عامة الناس ؟!

و لكن النحاس على الرغم من عظم الفرق بينه و بين الذهب يرى الأمور من غير هذه الزاوية ، فهو لم يفتن الورى ، و لا هاجت الحروب ، و انتشرت الشرور و طغت بسببه ، و ليس زينة شهوة لذوي الثراء ؟! و إنه و إن لم يكن بغية الموسرين ، و هم قلة ؛  فهو مع مجموع الناس ،فخيره يعم الجميع ، و ينتفع منه العدد الأكبر :

و لكنني خيرٌ على كل حالة            لذي ثروة إن شئت َ أو فقراء ِ

أسُدُّ مع الأخلاطِ حاجة َ أمة ِ           و أدفع عنها من شرور بلاء ِ

و بي زينة ٌ لا يرهق الناس حملها    و ما أنا فتانٌ و لا بمرائي

و يبقى الذهب في غروره ،و يعد النحاس حاسدا ، إلا أنه يعترف بجزء من الحقيقة ، و هي أن الفساد الذي يصيب بعض من يحمله لا بسببه ، و لكنه نابع منهم لأنهم اغتروا به ، و انخدعوا ببريقه و وضعوه في غير مكانه :

و لو عرف الإنسانُ ، كلٌّ مكانه       لهانتْ أمور أو نجا من كبائر ِ

فمنزلة ُ الإنسان أ َوْفى لقدره            إذا ناله في صدقه و المآثر ِ

و لو وافقتْ أهواؤه قدْرَ نفسه       لعَزَّ على خصم و طاب لذاكر

كذلك أشكالُ المعادن كلها              منازلُ فضل ٍ أو منازلُ خاسر ِ

ولا بد للإنسان المستخلف في الأرض أن يعرف قيمة الأشياء و منزلتها الحقيقية ، و أن الدنيا متاع زائل ، و أن ما فيها : قل أو كثر ، عز أو هان ما هو إلا مطية يستعين بها ليصل إلى غاية ،عرفها أهل البصائر ، و غفل عنها من غطت أبصارهم زخارف الفتنة !

و ما هو مجدٍ في الحياة تنافسٌ           إذا كان في دنيا الهوى ، و المخاطرُ

سنطوى جميعا في التراب يضمنا                ظلامُ قبور أو تضم الأزاهرُ

فذلك ميدان التنافس تُجتلى                    على البر و التقوى هناك المآثرُ

 و هكذا نجد النقد لدى الشاعر عدنان النحوي ، ليس مجرد إبراز للعيوب ، أو هزء من المواضَعات الخاطئة ، أو سخرية من سلوك معين ؛ و لكنه نقد يتوخى توضيح الخلل ، و إظهار الصواب ! فذلك أجدى في بناء المجتمع و إصلاح الخطأ و تعديل الخُطا .