جبران خليل جبران رائد الرومانسية

لا يزال فكره حيّاً

أدهم مسعود القاق

جامعة الإسكندرية

إن المذهب الرومانسي قام على أنقاض الكلاسيكية، وخالفها في كثير من أسسها العامة، وقيامه لم يكن بغتة، فقد حملت الكلاسيكية بذور الرومانسية، وبهذا أكّد ستندال أن موليير الذي عاش زمن العصر الكلاسيكي كان رومانسياً في أواخر القرن السابع عشر، ولفظ الرومانسي " كان يطلق حتى أوائل القرن التاسع عشر مراداً به الإشعار بالذمّ أو النقص لكلّ بادرة جديدة تتحدّى السائد من القواعد الأدبية المترسخة"[1] حتّى أعلن ستندال في عام 1818م متحدياً أنصار القديم، أنّه رومانسيّ، وأنّه مع شكسبير ضد راسين، ومع بايرون ضد بوالو.

 رفض الرومانسيون التقليد والعرف، وقدّموا كيفية جديدة في الإحساس والتصوّر والتفكير والتعبير عن الوجود، وعدّوا العقل في ميدان الفن والأدب معيقاً  لملكة الخيال ومجففاً لمصادر الإلهام التي تستدعي العواطف الجيّاشة المرتبطة بالنزوع نحو فردانية المبدع وذاتيته، وبذلك أجحدوا سلطان العقل، وتوجّوا مكانه العاطفة والشعور، معتبرين القلب هو الهادي الذي لا يخطئ، لأنه موطن الوجدان والضمير، ويقول ألفرد دي موسيه: "أول مسألة لي هي ألا ألقي بالاً إلى العقل "[2] ويقول شوليو:" العقل منبع الأخطاء الذي لا يغيض والسمّ الذي يفسد مشاعرنا نحو الطبيعة ويقتل الحقيقة التي منبعها العقل، إنما أنت فتنة قد يعجب بك الناس ولكن قلما يحبونك إذ لا يؤثر فينا إلا ما يوحي به القلب"2

والرومانسية كانت نتيجة تغيرات اقتصادية واجتماعية حدثت في نهاية القرن 18، وبداية القرن19 ومن أهمّهاالثورة الفرنسية عام 1789م التي فرضت على أوروبا تغييراً في مصادرها الثقافية، كما أنّ ملامح الثورة الصناعية بدأت تتوضّح في نفس الفترة التاريخية، فاستدعى ذلك تسارعاً في الكشوفات العلمية، وتوسعاً أفقياً في التجارة، فعمّ التغيير كلّ نواحي أوروبا، وأذن هذا الواقع الجديد بتشكّل طبقة جديدة تسلمت مقاليد السلطات، وأعلن ممثلوها مبادىءالحرية والمساواة والعدل والكرامة، وأخذ الشعب يمارسها فعلاً بالتواكب مع ظهور مفاهيم الأمة والشعب والمواطنة، ولكنّ الحروب المدمّرة ومجازر الثورة وجموح رجالها غير المحدود وغير الواقعي راكم لدى المعجبين بمبادئها من أبناء الطبقات الشعبية شعوراً بالخيبة والقلق والإنطواء على الذات، مما سمح لبروز دورٍ جديدٍ للأدب والفن في معالجة مشكلات سواد الشعب هاجراً الفئات الأرستقراطية ولغة الصالونات الأدبية، فكانت بداية الأدب الرومانسي، فتجددت الأساليب والمفردات، وظهرت أجناس أدبية جديدة، عكست أهمية التفرّد، وقدّست الذات البشرية الحرّة على حساب مفهوم الإنسان الخاضغ لطغيان الجماعة ولقياد القدرية بحسب المفهوم الكلاسيكي.

عدّ الرومانسيون الذات الفردية منبع القيم جميعاً، وجعلوا الفرد جديراً بعناية الأدب،[3] وتغنّوا بجمال النفوس، عظيمة كانت أم وضيعة، وأخذتهم الرحمة بالجنس البشري كلّه، مهاجمين ما استقر في المجتمع من قواعد وقيود تكبّل حرية البشر، ومتمسكين بالحياة الوديعة الجميلة في الطبقات البسيطة التي تحيا بما لا يحظى به ذوو الجاه من الطبقات الأرستقراطية[4].

والرومانتيكيون لا ينشدون في أدبهم الحقيقة التي تواضع عليها الناس، وأقرّها المنطق السائد، كما أنّ العلاقة التي تربط بين نتاجهم الأدبي والحياة الواقعية، هي صلة الأحلام المتحررة من حقائق المجتمع ومما يقدّسه أبناؤه من تقاليد، فـ"الصور والأخيلة الأصلية التي تستخدمها لغة الأحلام، ولغة التنبؤ الشعري توجد في الطبيعة التي تحيط بنا"[5] وليس في الحياة المجتمعية التي نحياها.

والأدب الرومانتيكي أدب تقدميّ ينظر إلى المستقبل ليغيّر الحاضر، ويستبدل به خيراً منه[6] ، وبالتالي فالجنوح إلى الثورة والتعلق بالمطلق واللامحدود من أخصّ خصائص المذهب الرومانسي، لذلك دفع باتجاه نزوع الفرد للتحرر، وعدّه المرتكز الذي تنبني عليه عملية التغيير، وأضحى إبراز شخصية الأديب وفردانيته هو ما تدفع إليه الرؤى الرومانسية في الأدب والفن، لأن غرضها الرئيس هو حقيقة الذات الدافعة للثورة، وهذه ترتبط بأسرار طبيعة الكاتب الخاصة، ولذلك يعدّون انّ أول واجبات الكاتب أن يكوّن نفسه، وأن يعرفها، وهو ما عبّر عنه فيكتور هيجوبقوله: "على الشاعر أن ينهل عبقريته، من روحه وقلبه".

 لقد دعا الأدباء والشعراء الرومانسيون إلى التحرر من القوالب الجاهزة والقواعد الصارمة التي تكبّل النزعة الفردية، مما حدا بالإبداع الفني في ظلّ الرومانسية إعلان الثورة على الكلاسيكية التي تفرض القوالب والأطر في العمل الأدبي، وتخضع المبدع لقوانينها. إن نزعة التحدي هذه هي التي جعلت الرومانسيين ينظرون إلى الشعر، بشكل أساسي، من منظور مختلف، إذ أنّهم قرنوا بين التحرر في المضمون والرؤية والموقف الإبداعيّ، مع التحرر من الشكل واللغة والموسيقى والخيال في النصّ.

        ولأن الرومانسي يهوى العزلة والانفراد، كي يجنح بخياله الواسع دونما عائق أو عقبة، ولأنه يسمو بالجانب الروحي للوجود، عمد للخروج إلى الطبيعة  ليفتتن بها، وتعزف قصيدته مظاهرها، ويقول غنيمي هلال: " فالرومانسيون ضاقوا ذرعاً بما تضطرب به المجتمعات من حولهم، فولعوا بترك المدن إلى الطبيعة وكانت تروقهم الوحدة بين أحضانها ليخلوا إلى الذات أنفسهم.([7]) ويذكر هلال أيضاً أن "الطبيعة شغلت جميع الشعراء الرومانتيكيين، وهم يرون أمامهم عناصر الطبيعة ماثلة شاخصة، تخبر عن نفسها فنقلوا ذلك في قصائدهم".([8]) ولكن لم تروّ الطبيعة شغفهم بالحياة الروحية التي ترتقي بالبشر إلى عالم المثل، ولأنّ المجتمع لايزالون في غارقون في صراعاتهم الدنيوية فما على المرء إلّا اللجوء للتأمل المنصهر بالألم ولنقرأ جبران يقول: " للكآبة آياد حريرية الملامس، قوية الأعصاب تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة. فالوحدة حليفة الكآبة كما أنها أليفة كل حركة روحية" ثمّ يؤكد من جديد على ضرورة الحلم البعيد عن واقع آثم: " والمرء إن لم تحبل به الكآبة ويتمحض به اليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام، تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان".

إن لطبيعة الشاعر الرومانسي وتوقه الدائم للانعتاق أثراً كبيراً في صبغ قصائده بالدعوة إلى التحرر من قيود المجتمع وسلطته، وهذه الدعوة "وثيقة الصلة بالشخصية الرومانسية فقد خلقت هذه الشخصية لها أملاً جعلتها تضيق ذرعاً بالمجتمع الذي تعيش فيه وبما يسوده من قيود"([9])ويعتريها التشكك من كل الوجود الاجتماعي، وجبران خليل جبران يقول: " الشكّ ألم في غاية الوحدة لا يعرف أنّ اليقين هو توأمه".

ولم تنفرد الرومانسية بخطاب كتابّها الإبداعي الموجّه للمرأة والأنوثة، إذ لاتخلو كلمات شاعر عبر العصور من ذكر امرأة فهي الحبيبة والعشيقة والزوجة والصديقة، وهي مصدر شقاء الشعراء كما أنها مصدر هناء وخصب ونماء. وقد "لعب الحبّ دوراً كبيرا في الآداب المختلفة على مرّ العصور فكان حديث الشعراء موضوع كثير من القصص ".([10]) ولكنّ الشعراء الرومانسيين بالغوا في خيالهم ولم يتحرجوا من ذكر أوصاف حبيباتهم، وتباهيهم بالعلاقات المحرّمة معهن رغماً عن المجتمع الذي يرفض ذلك، " فالرومانسي إن ضاق نفساً بالناس، وأعوزته السعادة في كل ما حلم به من مسرات لا ينشد سعادته إلا في ظلال الحب ".([11]) ومنابع الحبّ هو الأنوثة، ولذلك فالذكورية التي ابتلت بها البشرية والتي تضعف من فيوض الأنوثة على الوجود يحاربها الرومانسي، وإذا أردت معرفة كيف فهم الرومانسيون حقيقة الأنوثة التي يعتبرها محتمعه عورة وعيب على الرجال اقرأ ما كتبه جبران خليل جبران في الأجنحة المتكسرة:  "في تلك السنة شاهدت ملائكة السماء تنظر إليّ من وراء أجفان امرأة جميلة، وفيها رأيت أبالسة الجحيم يضجون ويتراكضون في صدر رجل مجرم، ومن لا يشاهد الملائكة والشياطين في محاسن الحياة ومكروهاتها يظل قلبه بعيداً عن المعرفة ونفسه فارغة من العواطف."

والأدب الرومانسي هو وجه من وجوه الحداثة الكونية التي انطلقت أسسها منذ عصر النهضة في أوروبا، وعمّت الإنسانية جمعاء، ونحن العرب جزء فاعل من تاريخ التطور الحضاري للإنسانية، فأصابتنا مفاهيم النهضة الأوروبية منذ الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م، ثمّ نوّرت لنا طرق الحداثة الطامحة لبناء نظم ديمقراطية لتحقيق المساواة والحرية والعدالة والمشاركة السياسية، ودعتنا لدروب التحرر والأخذ بأساليب العلم، وبذلك نجد في بداية النهضة العربية إعجاب النخبة المتمكنة من الاطلاع على حضارة الغرب وعلى سيرورة التقدم الحاصل في أوروبا، فقلّدت مجريات عصر النهضة لدى الغرب، ثمّ انعكس هذا الإعجاب تقليداً ومحاكاة للشعر العربي بداية، حيث عاد الشعراء العرب الحديثون إلى  شعر العصر العباسي، وحاكوا قصائد أبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي علاء وغيرهم، كما حصل إبان بعث الآداب اليونانية واللاتينية في القرن السادس عشر في أوروبا، إلى أن شرعوا باستنبات فن المسرح في صحرائنا العربية توافقاً واندماجاً مع حركة تاريخ المسرح الإنساني، ثمّ نجد كيف شكّلت كتابات روّاد المذهب الرومانسي في أوروبا التي عبّرت عن مخاضات اجتماعية وفكرية وسياسية أرضية مناسبة لظهور كتابات إبداعية لشعراء وروائيين ومسرحيين عرب مثّلوا جيل الكتّاب الرومانسيين على الساحة العربية.

إنّ العالم العربي لم يكن بمنأى عن التغيرات التي طرأت على الصعيد الكوني، والتي آلت إلى النزوع باتجاه التحرر والحرية ووحدة شعوبه تحت راية الإعتزاز بالقومية إبان استعمار الغرب للأقطار العربية نتيجة أطماعه في التوسع بالأسواق وبالسيطرة على المواد الأولية الضرورية للصناعة وباستقدام الأيدي العاملة الرخيصة إلى بلادهم، مما خلق اضطرابات سياسية أدّت إلى الخيبات المجتمعية والفردية نتيجة الأحداث والنكبات التي لاقتها هذه الشعوب أثناء مواجهة خصم متفوق بإمكانياته عليها، فتوالدت الإحباطات باستمرار، وزادها إحباطاً وسوءاً طبيعة البنية المجتمعية المتخلفة ثقافياً وسياسياً التي أعاقت فعل التحرر، فلجأ الكتاب إلى الأساليب والمواضيع الرومانسية والهروب من الواقع إلى عالم الطبيعة، وهاهو جبران خليل جبران يخاطب شحروراً يصدح بصوته مما ألهمه لمخاطبته من دون الناس:

ليتني مثـلـك حـر             مـن سـجــون وقـيــود

ليتني مثـلـك روح            فـي فضـا الـوادي أطـيـر

أشرب النور مدامـا           فـي كـؤوس مـن أثـيـر

 إلى أن تلا الإحباطات الذاتية، فيما بعد، انكسار مفاهيم أولية لحداثة عربية ناشئة، فانكفأ أصحابها على أنفسهم بمنأى عن مجتمع لفظهم، باحثين عن الخلل الحاصل لآدمية الإنسان وكرامته، توّاقين لمعرفة تموجات الجديد الطارئ في ركود المجتمع وسكونه، فكانت النتيجة ظهور أفكار حداثية من دون أن يرافقها تبدلات في البنية المجتمعية فبقيت معزولة.

 ومنذ بدايات القرن العشرين، جاءت الرؤى الرومانسية الجديدة في حقول الأدب العربي التي كانت قد سادت في المجتمعات الأوروبية قبلاً، وكان منظورها للوجود برمته ملائماً لأحوال قلق أدباء الأمة ومفكريها، فاتجهوا نحو إبداعات روّادها الغربيين ناهلين منهم موضوعاتهم وأساليبهم، حتى أضحت الرومانسية ضالتهم وسط تيه التخلف والقهر والاستعمار وقتذاك، وأصبح الرومانسيون العرب أحد أوجه التطلعات الحداثية العربية التي مثّلت بالنسبة إليهم إغراءات وملاذاً للولوج في الثقافة الإنسانية واللحاق بركب التحضّر الكونيّ.

وقد كان أدباء المهجر من العرب سبّاقين في حمل بذور هذه الرؤى المؤنسنة التجديدية، وتمكنوامن تنميتها باندماجهم في حركات الرومانسية التي نشأت في مواطنها الأصلية، والرابطة القلمية أحد أهمّ الحواضن لنتاجاتهم الثقافية وآدابهم، ولعب جبران خليل جبران دوراً في تأسيسها كما ذكر اسكندر نجار في كتابه(سيرة جبران خليل جبران المفقودة): "في ليلة عشرين ابريل 1920 اجتمع الكتاب اللبنانيون والسوريون في منزل عبد المسيح حداد بنيويورك لكي يتدارسوا كيفية تجديد الأدب العربي وإخراجه من المستنقع الآسن الذي سقط فيه بسبب التكرار والاجترار على مدار عصور الانحطاط. واتفقوا على أن اللغة العربية والآداب العربية بحاجة إلى نفس جديد ودم جديد يضخ في الشرايين والعروق. وقرر المجتمعون تأسيس جمعية متمحورة حول الحداثة وتهدف إلى خدمة الأدب العربي. وقد لقيت هذه الفكرة صدى رائعا لدى جبران فدعا المؤتمرين إلى الاجتماع عنده، في بيته، مرة كل أسبوع"[12]. وبالفعل استطاعوا، بما توفر لهم من حرية هناك، أن يجهروا بأصواتهم وبآرائهم وقناعاتهم في الأدب وفي الحياة بعيداً عن حصار السلطات الثقافية والسلطات الأمنية والسلطات التاريخية والدينية وما إلى ذلك، وكان جبران خليل جبران رئيساً لهذه الرابطة القلمية، ومن أنشط أعضائها الذين استماتوا شعراً ونثراً في الدفاع عن حقّ الإنسان في إنسانيته وفي وجوده حرّاً كريماً، نقيّ السرائر، فكتب جبران عن الحرية والعدالة وعن الحق والحقيقة في لمسات رومانسية طافحة وتأملات فلسفية عميقة، متأثرا بكل الذين قرأ لهم أو اتصل بهم من المفكرين والشعراء والفنانين أمثال "نيتشه Nietzsche" و(أوغست رودان A. Rodin) وغيرهما، وقد ذكر أنّ أشغاله كثيرة وأحلامه عظيمة ومطامعه هائلة مخيفة...، إنّه جبران، عثر علىى حريته في مجهول المنافي، واكتشف كم هو محبّ لوطنه الأم، جبران قارئ الكتاب المقدّس، بروح المتصوّف الإسلامي، وحاملٌ سلام المسيح ومحبته، وهو معتزٌّ بأمجاد الإسلام،جبران الذي تعلّم منهن، كيف يكون عاشق النساء الناضجات، وكيف يتمرأى فيهن فيرى روحه وطهرانيته التي بثّها في صفحات كتبه.

 والحقّ أنّ كلّ فعل أو حركة أو كتابة قام بها  جبران مشبعة بنفحات رومانسية لا تُخفى عن متلقي أدبه إن كان شعراً او نثراً، ولعل مفهوم الذات ضمن الوجود وعلاقتها بالعالم الممكن لدى جبران تقودنا إلى تلك المعالم الرومانسية في كتاباته التي وضعته على رأس قائمة الحداثيين العرب، كيف لايكون على رأس القائمة وهو القائل:" أنا كولمبوس نفسي، وفي كل يوم أكتشف قارة جديدة فيها".

ولد جبران في 6 يناير عام 1883 لأسرة فقيرة، ربّها سكّيراً، مقامراً، سجن عام 1891م، وبعد أن صادرت السلطات العثمانية بيتهم في بلدتهم، سافرت الأسرة بمعية والدتهم الطموحة كاميليا رحمة إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1895م، وهناك عرف الأوساط الأدبية والفنية والتي كان جلّها رومانسية التوجّهات، وتعهدته امرأة تكبره بعشر سنوات وهي ماري هاسكل، وأرسلته إلى فرنسا ليكمل تحصيله في الرسم الذي وضح نبوغه به، ثمّ عاد إلى الولايات المتحدة، على أنّه كانت له عودة ومحطة مستجدة في  لبنان نزولاً عند رغبة أسرته ليتمكن من اللغة العربية، ثمّ رجع وأقام في نيويورك، وتوفي فيها في 10 إبريل عام 1931م، وتكفّلت صديقته ماري هاسكل بنقل جثمانه إلى بلدتهبشري، واشترت بيتاً كان لأسرته، وتمّ دفنه فيه وتحوّل فيما بعد إلى متحف جبران، وقد كُتب على شاهدة القبر، كما أوصى هذه العبارة: "أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك". كيف لايكون حيّاً وهو المنافح عن الحبّ طيلة حياته يقول جبران: "فالحب قد عتق لساني فتكلمت ومزق أجفاني فبكيت وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت" وأين تجد هذه الكثافة بالرؤية سوى عند جبران فالحب جعله شاعراً والحبّ أدخل الرؤية المتسعة بعد أنّ مزّق حاجبها، والحبّ كشف له ويلات مجتمعه فتنهّد ألماً وشكى مظالماً.

 

          ومن الجدير بالذكر أنّ الولايات المتحدة تحتفل بذكرى وفاته، وقد  اشترك في احتفال مرور 80 عاماً على موته موقع (غوغل) على الإنترنت، ووصف جبران بأنه "..أكثر الشعراء بيعاً لأشعاره في كلّ العالم، بعد ويليام شكسبير البريطاني (توفي سنة 1616) والصيني لاو تزو (توفي في القرن السابع قبل ميلاد المسيح). وأضاف الموقع: "اشتهر جبران أكثر وسط الناطقين باللغة الإنجليزية بسبب ديوان شعره (النبي) الذي كان مثالاً مبكراً في الثقافة الإنجليزية الحديثة عن أشعار الإلهام"[13]

مؤلفاته في العربية: الأرواح المتمردة أصدرها عام 1908م، وفيها تمرد على عادات عربية، منها الزواج القهري، واستبداد الحكام، وطمع الإقطاعيين، والأجنحة المتكسرة عام 1912م أحداثها مستوحاة من قصة حبّه مع حلا الضاهر أو (سلمى كرامة)، ودمعة وابتسامة عام 1914م والمواكب عام 1918م، وهي قصيد شعري يفصح عن توجهين أولهما: اتباعه لميوله الفطرية والتعبير عن توقه للاندماج بالطبيعة والاستمتاع بمتع الحياة وصفاء صيرورتها، والآخر: إفصاح عن رفضه للواقع وعن تمرده عليه وثورته على عقائد الدين، كما أصدر بالعربية أيضاً كتب: العواصف والموسيقى وعرائس المروج، ثمّ كتاب البدائع والطرف في مصر عام 1923م. وبالإنجليزية:المجنون عام 1918م، والسابق 1920م والنبي The prphet عام 1923م الذي ترجم إلى 50 لغة، وهو أشهر كتب جبران خليل جبران، على الإطلاق، كتبه بالإنجليزية للأميركيين، وانتشر وسطهم. ثم ترجم إلى العربية، في وقت لاحق. وفيه خلاصة آراء جبران في الحياة، والحب، والزواج، والموت، والجمال، وغيرها. ثمّ رمل وزبد Sand and foan عام 1926م،ويسوع ابن الإنسان Jeus, The son of man عام 1928م،أبرز المسيح فيه صوفيّاً، وفيه تركيز على تعاليم المسيح عن الفرح، والحب، والتمرد، والصبر، والعمل وإلخ.... ومن كتبه أيضاً آلهة الأرض، وكتابا التائه وحديقة النبي،  و رسائل إلى مي زيادة صدروا بعد وفاته في النصف الأول من ثلاثنيات القرن الماضي، ومن الجدير بالذكر أنّ "لجنة جبران خليل جبران الوطنية" في لبنان أصدرت كتاباً تضمن دفعة من كتابات جبران ونصوصه لم يسبق أن نشرت سابقا، وتعود لسني مراهقته، بدءاً من مقاعد الدراسة، و: "اختارت اللجنة عنواناً للكتاب مستوحى من عبارة درج جبران على استخدامها في نهايات الصفحات التي كان يدوّن عليها أفكاره وانطباعاته وهي :(اقلب الصفحة يا فتى)"[14]. ومما ذكره طارق الشدياق في احتفالية هذا الكتاب: "هذه الوثائق ثبّتت كلّ ما نعرفه عن جبران. فجبران تناول العلاقات الإنسانية، علاقة المرأة والرجل، أو الظلم اللاحق بالمرأة، بالسلام والعطاء والمحبة ومختلف القيم الإنسانية، كلها ظاهرة في المخطوطات، إنما بأسلوب مختلف. وهي تضيف جديداً على ما قاله جبران، لأنّ فيها مقالات كاملة تصلح للنشر، ولم ينشرها في حينه، وتناولت قضايا الناس الموجودين منتقدا عدم خروجهم نحو الحضارة والرقي وعبوديتهم لأصحاب السلطة وخضوعهم للقمع، لكنها تصب في الروح الجبرانية”[15].

وإذا عدنا إلى خصائص الأدب الرومانسي الذي ناهض المذهب الكلاسيكي الذي عوّل روّاده على الحقيقة بصفتها المعبّرة عن الجميل والطبيعي والممتع، كما اعتمد الكلاسيكيون على العقل الموجّه ليميّز الإنسان بين الحقيقي والمزيّف والنسبي والمطلق والخاص والعام، وليمنع الإنسياق لنزوات الخيال، وعدّوا قدماء اليونان والرومان المثال المتوجب الاحتذاء بهم وتقليدهم، وقاد الكلاسيكيون الالتزام بالقواعد وباستدعاء الماضي إلى الابتعاد عن روح التمرد وانتصارهم  للمألوف، والتقوا مع المسيحية بإحياء الآداب القديمة وبفكرة أن الجمال صنوّ الخير، والإلهي يلتقي مع الإنساني في النص الأدبي، إضافة إلى أنّ الأدباء الكلاسيكيين اتبعوا مناهج تعليمية أو درامية بناء على قواعد تغيّب الذات عن الموضوع. جاء الرومانسيون ليناهضوا الكلاسيكية، و: "لكنها لم تسُد فجأة، بل تبعت منحى تطورياً بطيئاً مرّ بمراحل عديدة من الإرهاص والتجربة والتحضير والتعايش مع النظام الكلاسيكي في كثير من الشقاق والتصادم حتّى عمّ الاقتناع به كلّ أوروبا"[16]

ولعلّ جبران خير من مثّل المذهب الرومانسي في تاريخ الأدب العربي، مما يغري الباحث ويدفعه لمعالجة خصائص الأدب الرومانسي على ضوء مؤلفاته التي أسلفنا ذكرها.

إنّ أولى خصيصة للأدب الرومانسي هي مناهضة سلطان العقل، والتوجّه نحو العواطف والأهواء المثيرة لقلق السؤال، والاندفاع نحو الجمال في أحضان الطبيعة تأكيداً للتمرد على القيود المجتمعية، وجبران خير من استلهم الحبّ الأفلاطوني وخير مثال على ذلك رسائله إلى مي زيادة، واقرأ هذا المقطّع من إحدى رسائله لها لتعرف عن كثب تمرده على سلطة العقل: "يــا ميّ عيدك يوم، وأنتِ عيد الزمان..، ما أغرب ماتفعله كلمة واحدة في بعض الأحيان، إنّها تحوّل الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت.. 

تقولين أنك تخافين الحب !

لماذا تخافينه؟ أتخافين نور الشمس؟  أتخافين مدّ البحر؟  أتخافين طلوع الفجر؟  أتخافين مجيء الربيع ؟ 

لماذا ياترى تخافين الحب..؟ أنا أعلم أن القليل في الحب لايرضيكِ، كما أعلم أنّ القليل في الحب لايرضيني.

أنتِ وأنا لا ولن نرضى بالقليل، نحن نريد الكمال.. الكثير.. كل شيء!

أتخافين الحب يارفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم مافيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم مافيه من الإلتباس والحيرة .."

ومن خصائص الرومانسية أيضاً الإلتفات للمصادر الوطنية والأجواء الشعبيةوهاهو جبران يكتب:" أنا أجلُّ القرآن ولكنني أزدري من يتخذ القرآن وسيلة لإحباط مساعي المسلمين كما أنني أمتهن الذين يتخذون الإنجيل وسيلة للحكم برقاب المسيحيين."[17]، ثم نراه كيف  ينشد الحرية متمرداً على أحوال القهر الاجتماعي راغباً في بناء مجتمع حرّ كريم، على هدى الرومانسية فيقول: " في التمرد: أنا متطرف حتى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء ، وفي قلبي كره لما يقدسه الناس ، وحب لما يأبونه ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة، أما قول بعضهم أن كتاباتي (سم في دسم) فكلام يبين الحقيقة من وراء نقاب كثيف، فالحقيقة العارية هي أنني لاأمزج السم بالدسم، بل أسكبه صرفًا غير أني أسكبه في كئوس نظيفة شفافة"[18]. كما نجده كالرومانسيين الغربيين الذين عزفوا عن الأساطير اليونانية والرومانية واغترفوا من معين مصادرالدين كالكتاب المقدس بعهديهالقديم والجديد، وهاهو ينقل عن العهد الجديد: "الحب لا يعطي إلا ذاته، ولا يأخذ إلا من ذاته، وهو لا يَملِك ولا يُملًك، فحسبه أنّه الحب"، ثمّ كتابه الأهم هو النبي حيث استلهم حياة يسوع وضمنه أفكاره الداعية للمحبة والسلام ولكل ما يحقق إنسانية الإنسان، وأيضاً كتاب يسوع ابن الإنسان عن حياة السيد المسيح، كما أن العودة إلى الطبيعة والكشف عن ما ماتحتويه من جمال وعظمة سمة من سمات المذهب الرومانسي التي التزم بها جبران، ولعلّ المواكب التي غنتها فيروز خير دليل ما مانذكر:

سكن الليل وفي ثوب السكونْ تختبـي الأحلام

وسعى البدر وللبدر عيـون  تـرصد الأيـام

فتعالي يا ابنة الحقل نـزور كرمـة العشـاق

علنا نطفي بذيـاك العصيـر حرقـة الأشـواق..،

إنّ لجوء جبران للطبيعة مكَّنه من مطابقة إيقاعاتها على أوتار شعره الذي يلامس أعماق الذات الإنسانية، ثمّ الترحال نحو الغربة والتغرّب لاكتشاف عوالم جديدة هو من خصائص الأدب الرومانسي، وهاهو جبران عاش حياته متنقلاً بين لبنان وبوسطن وباريس ونيويورك، مما جعله يرسم تجربته على شكل قصص نثرية تكشف أسرار وخفايا حياته التائقة للتحرر من المظالم الاجتماعية، وقصصه: الأرواح المتمردة والأجنحة المتكسرة، خير شاهد، وقد ورد في مقدمة كتاب دمعة وابتسامة: "أنا لا أبدل أحزان قلبي بأفراح الناس، ولا أرضى أن تنقلب الدموع التي تستدرها الكآبة من جوارحي و تصير ضحكاً، أتمنى أن تبقى حياتي دمعة وابتسامة"[19] وفي قوله مايدلّل على اغترابه الذاتي وانزوائه في عالم أسطورة حلمه الذاتي، ومن خصائص الأدب الرومانسيالعزوف عن تصوير خوارق اليونان والرومان، وبدأ روّاده يخلقون أبطالاً من البشر يعيشون في واقع الحياة الاجتماعية، أبطالٌ، غرباء، مهمومون بالتطلع لإرضاء ذواتهم، فشخصية الأدب الرومانسي هو العاشق والبطل المعذّب البائس، والشجاع، تماماً كما قدّم جبران شخوص قصصه، وجلّهم على صورة المسيح المعذب راهناً، ثمّ نجد جبران خير من مثّل الرومانسية بكتاباته عنالمرأة فهي المعبودة والملهمة، وهي القدر الذي لا فكاك منه، وهاهو يكتب في التوطئة لقصة الأجنحة المتكسرة: "...حواء الأولى أخرجت آدم من الفردوس بإرادتها وانقياده، أما سلمى فأدخلتني إلى جنة الحب والطهر بحلاوتها واستعدادي، ولكن ما أصاب الإنسان الأول قد أصابني، والسيف الناري الذي طرده من الفردوس هو كالسيف الذي أخافني بلمعان حده، وأبعدني كرهاً عن جنة المحبة قبل أن أخالف وصية، وقبل أن أذوق طعم ثمار الخير والشر"[20].

إنّ مامرّ معنا عن جبران وسيرة حياته يؤكد أنّه كان توّاقاً لقول كلمة الحقّ بجرأة، ميّالاً للحسّ أكثر من التفكير الموضوعي، ومصوّراً لانطلاق القوى الروحية بغية التقائها مع جميع بني البشر وفي كلّ العصور، وهاهو جبران يطلق العنان لمواهبه المبدعة فيصوّر الواقع وكأنه اختلط مع أحلام اليقظة، لقد عبّر عن أسمى مشاعر الحزن على أمّة تتماوت فشاع في كتاباته الانفصام عن المجتمع والهشاشة في الحياة، فكان هو النبي المرشد لأبناء بلده الذين سألوه عن معنى الحياة والموت والعشق والصدق وعن كلّ المعاني الإنسانية التي تميّز البشر عن الكائنات الأخرى، ولكن كانت كلمته سراباً وتوهماً، فالرؤية المغايرة لما يتعايش معه الناس من بؤس وفقر وجهل وكذب في واقعهم الاجتماعي بدأت تنفصل رويداً رويداً عنهم، وجعلته كمن يضع البراقع على وجهه كما يفعل كلّ الناس، فيضطر أن يسقط هذه البراقع أمام طغيان الأسى والظلم في حياتهم برقعاً برقعاً، حتى تظهر الحقيقة على ماهي عليه من بشاعة وكراهية، عندئذ تتحول الرؤية المغايرة لدى جبران إلى جنون يركض صاحبه أمام الناس وهم يدلّون عليه ويهزأون من مغايرته لهم، وينسون توقه لحريتهم.

وهكذا تخلق الذات الرومانسية عند جبران مسافة شاسعة بينها وبين الوعي الموضوعي، وتعلن القطيعة مع واقع ميؤوس من صلاحه بحثاً عن العالم النقي و(معانقة الأبدية) كما ردد جبران. وليست قطيعة روحية فقط، بل هي قطيعة معرفية واجتماعية وجمالية، لأن الناس قد ألفوا الاستسلام واعتادوا الخضوع، وآمنوا بأنّه ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ ولكن جبران الشاعر طاقةٌ حاول تفجير القوى الكامنة لدى ناسه بهدف الانبعاث والخلق من جديد لتسود معاني الحق والخير والجمال في الإنسانية.