علي الوردي 13-17

علي الوردي

د. حسين سرمك حسن

علي الوردي : (13) دُفِن دين محمّد مع علي ابن أبي طالب

د. حسين سرمك حسن

# متى دخل الإسلام مرحلة الغرور القومي ؟

في الفصل السابع : ( قريش والشعر ) من كتاب "وعّاظ السلاطين" ، يستعرض علي الوردي بعض ( أمراض ) قريش التي نقلتها معها إلى الإسلام في عصر الخلفاء الراشدين من ناحية ، ثم استفحالها بعد أن استولى معاوية على الخلافة من ناحية أخرى . قإذا كان عمر قد عزل خالد بن الوليد من القيادة وحاكمه على ما كان يهب الشعراء من جوائز وفيرة تنافي طبيعة الإسلام ، فإن معاوية لم يكترث لهذه المنافاة وأخذ يغدق على الشعراء من الجوائز ما ذكّرهم بالأسواق الأدبية التي كانت ترعاها قريش قبل الإسلام . ثم جاء يزيد فأوغل في الأمر بصورة أشد . وبدأت قريش إعادة سؤددها القديم القائم على سلاحي : السيف والشعر اللذان لا ثالث لهما . يقول الوردي :

( صارت دولة بني أمية ( دولة شعرية ) لا تفهم الإسلام إلا على أساس قومي بدوي . وأخذ العرب في أيام بني أمية يعتبرون الإسلام جاء للعرب لكي يرفع من مكانتهم بين أمم الأرض . وأصبح محمدا في نظرهم من طراز جنكيزخان ) (70) .

وقد برزت في العصر الأموي ظاهرة شديدة الخطورة سيكون لها - مستقبلا - الضرر الفادح على الإسلام ، وتتمثل في احتقار ( الأعاجم ) الذين أخذ العرب يُطلقون عليهم أسماء مستهجنة فكانوا يسمونهم ( النبيط ) و ( الحمراء ) و ( الموالي ) ، وانتشر بينهم المثل القائل :

" لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة : حمار وكلب ومولى "

وكان كل من يدعو العربي بقوله : يا نبطي أو يا بن الحجّام أو يا بن الخيّاط ، يستحق العقوبة في نظر الفقهاء ... وبلغ من احتقار العرب للموالي أنهم لا يستسيغون أن يركب الموالي دابة بحضورهم ) .

ويستنتج الوردي من ذلك نتيجة خطيرة يلخّصها بقوله :

( لقد أصبحت الدولة الأموية دولة عربية خالصة . والتفّ العرب حول بني أمية يؤيدونهم بسيوفهم . وبهذا دخل الدين الإسلامي في طور جديد ؛ هو طور الغرور القومي والفتح والاستعمار . جاء الإسلام ليقضي على الكسروية فأقام كسروية أخرى . ولم تختلف الكسرويتان إلا بطلاء خفيف من الطقوس الدينية ؛ تلك تستعبد الناس باسم هرمز ، وهذه تستعبد الناس باسم الله الواحد القهار) (71) .

ويمكن للقاريء أن يقارن بين هذا الرأي  الذي يستنتجه الوردي في معضلة دور الموالي ، وبين آراء " معاصرة " شديدة الإبتذال والعنصرية طُرحت بعده وتعبّر عن عصابية فاضحة . فهذا هو " اسماعيل العرفي " يقول في كتابه : " في الشعوبية " :

( لمّا كان الدين الاسلامي ، في مفهومه الخاص ، هو دين العرب القومي الفذ ، ( ... ) كان تخريبه إذن ... تخريبا لأول وأضخم دعائم كيانهم القومي الأكبر ... وقد كان حقد الشعوبية مفرطا جدا على الدين الاسلامي ... وقد أفرزت الشعوبية من خلال نشاطها الديني الزائف عددا ضخما من رجال الفقه والحديث والسيرة والتصوف والفلسفة ، ممن لعبوا أدوارا إفسادية خطيرة لاتزال آثارها السلبية الهدامة باقية حتى اليوم ..) (73)

# عمر بن عبد العزيز يعيد الإسلام إلى ما كان عليه زمن جدّه:

------

ثم يتناول الوردي جهود الخليفة عمر بن عبد العزيز ، الخليفة الزاهد ، في إرجاع الأمور إلى ما كانت عليه في أيام جدّه عمر بن الخطاب :

( وسار في ذلك سيرة عظيمة ، إلا أن المنية عاجلته ، والله وحده يعلم كيف ولماذا عاجلته المنية قبل أن يتم ماشرع به) (74 ) .

ويستعرض أعمال هذا الخليفة المصلح فيقول إنه :

- منع الشعراء من الوقوف في بابه .. واعتبر جوائز الشعراء سرقات من بيت مال المسلمين .

- أدنى أليه الفقهاء والزهّاد وأبعد عنه الجلاوزة – أولئك الذين كانوا يعبدون الله وينهبون عباد الله . وعزل كل رجل أولغ في دماء المسلمين .

- عطّل الفتوح التي كادت تخترق أوربا لأنه كان يشهد أن تلك الفتوح لم تكن في سبيل الدين .

- منع سبّ علي بن أبي طالب في خطب المنابر وفي الصلاة .

- خلع صفائح الذهب من الكعبة ومسجد المدينة ومسجد دمشق .. إسعاد الناس أولى من تذهيب المساجد ..

- منع أخذ الجزية من أهل الذمّة الذين يدخلون الإسلام وقال : إن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه جابيا .

- ساوى بين العرب والموالي في العطاء ..

ويصف الوردي نهاية عمر بن عبد العزيز بمرارة فيقول :

( قيل أنه مات مسموما ، فمن سمّه يا ترى ؟ من الممكن القول : أن السبأيين هم الذين سمّموه .. والله أعلم) (75 ) .

ويختم الفصل بالعودة إلى تشخيص الداء الذي بدأه في هذا الفصل وهو أمراض قريش حيث يقول :

( لقد جاء محمد بدين المساواة والعدل والرحمة بالناس جميعا . ومن المؤسف أن نرى هذا الدين الإشتراكي يتحول على يد قريش إلى دين السيطرة والتعالي والاستعباد . إن دين المساواة الذي جاء به محمد بن عبد الله ، دفن مع علي بن أبي طالب في قبره ) (76 ) .

علي الوردي :

(15) الجملة الأخيرة لعليّ بن ابي طالب قبل استشهاده تعكس ما كان يدور في عقله الباطن

يبقى الوردي ضمن إطار الموضوعة المركزية لهذا الفصل : ( علي بن أبي طالب ) حيث يرى أن كل هذه التحولات العنيفة جاءت بعد أن تأسست مفارقة شديدة الغرابة وهي أن عليا "عليه السلام" ( أراد الخير للعرب في حياته ، لكن اسمه صار بعد وفاته شعارا للنكاية بهم والانتقام منهم ) (94) . والمشكلة الأكثر إثارة للألم هو تحوّل الصراع في العهد العباسي إلى صراع حول أيهما أولى بوراثة النبي في خلافته : أولاد بنته أم أولاد عمّه ؟ .

( ويُستدل من هذا أن المسألة أصبحت نزاع بين ( أهل البيت ) على إرث أبيهم . كل فريق يدّعي أنه أقرب إلى الأب من غيره ، وهو إذن أولى بوراثته . ومن ينظر في هذا الأمر نظرة سطحية يخيل إليه بأن محمدا كان يجاهد في سبيل إقامة ملك لأولاده وأهل بيته ، وبذا تنازع أهل البيت على هذا الملك الذي تركه لهم أبوهم) (95)  .

ويتنقل الوردي سريعا ، بعد أن أوصل مضمون رسالته الأساسي ، إلى تقييم انفجاري لما كان عليه حال الفاطميين الذين جاءوا إلى الحكم يحملون راية أن معاوية هو " خال الأمويين " باعتبار أن أخته كانت من أزواج رسول الله . وبدأ المعزّ الفاطمي بعمل الحرير الأزرق المنسوج بالذهب وقد رُسمت عليه صورة مكة والمدينة ، فيعلّق على ذلك بالقول :

( فهذا الظالم العاتي – يقصد المعزّ الفاطمي – ينهب أموال الناس فيصنع منها صورة لمكة والمدينة شوقا إلى الله ورسوله . وبهذا صار محمد بن عبد الله رمزا للترف والطغيان . أصبح دين محمد ألعوبة بيد السلاطين ونسي الناس أن محمدا كان من أعداء السلاطين ) (96) .

ولعل ما قلناه عن تسرّع المرجعيات الدينية في تكفير الوردي وهدر دمه ، يجد تبريره الحقيقي في الفصل العاشر : ( طبيعة الشهيد ) – ويقصد بالشهيد الإمام علي بن أبي طالب – والذي يراجع فيه شخصية الإمام علي بصورة موضوعية ، فيشير أولا إلى الحقيقة التي ألّبت عليه – أي على الوردي - العقول التقليدية ( الأرسطوطاليسية كما يسمّيها ويقصد بها العقول المتأثرة بالمنطق الأرسطي – الصوري ) ، فيؤكّد أنّ من يحاولون المقارنة بين علي ومعاوية على أساس الظفر في الصراع يغفلون حقيقة أن التفاضل بين الأشخاص لا يقوم على أساس تفضيلي واحد ؛ غلبة معاوية على عليّ :

( فكل رجل فاضل حسب قياس معين ، وهو مفضول حسب مقياس آخر . وقد يصح أن نقول : بأن جدل الباحثين هو جدل في المقاييس والقيم أكثر مما هو جدل في الحقائق والفضائل ) (97) .

ويشير أولا إلى حقيقة صادمة كبيرة يواصل بها إدانة الكيفية التي تتم بها المقارنة بين علي ومعاوية ، فإذا اعتبرنا علي غير محترفٍ في مجال السياسة - كما يقول - ، فهو أمر منطقي في نظر أولئك الذين يحترفون السياسة ولا يرون في التاريخ سواها . فالوردي يرى أن هذه المقاييس في المفاضلة بين الشخصيات التاريخية – مهما كانت طبيعتها – يجب أن لا تُقام على أساس أرسطي استنتاجي مفرد ، فلا توجد حقيقة ثابتة ولا يوجد قياس مطلق ، وإذا اتبعنا هذا السبيل فلن نصل إلى نتيجة حاسمة في المفاضلة ، لأن كل أطروحة ستقابلها أطروحة أخرى مكافئة ومناقضة ، والاختلاف لا يوصل أبدا إلى تركيب (هيجلي) نهائي ، لأن التعصب الفكري القائم على أساس المنازعة الطائفية المقيتة سيوصل ، وقد أوصل حتما ، إلى مناقضة فشل علي أمام فوز معاوية ، فإن من أفظع الاستنتاجات القول أن معاوية قد تغلب على عليّ . فقريش لم تبايع عليّاً وبايعه الثوار الذين قاتلوا معه . وقد سقط بعض المؤرّخين في وهم واستنتاج خاطىء مفاده :

( إن مختلف الأعمال التي قام بها [= علي بن ابي طالب] أثناء خلافته تشير إلى أنه كان رجلا لا يفهم السياسة ولا تفهمه ، لشدّة ما يرون فيها من قصر نظر، ولو أنصفوا لقاسوا تلك الأعمال بمقياس الثورة ، وبذلك يتجلّي في أعينهم كنه عليّ وحقيقة مقاصده) (98) .

لقد عزل علي جميع العمال والولاة من عهد عثمان :

( ومن ينظر في هذا الفعل الذي قام به علي لا يستطيع إلا أن يصف عليا بقصر الباع في أمور السياسة . فكيف يجوز لحاكم جديد أن يهدم دفعة واحدة ما بناه سلفه . إن التدرج في مثل هذه الحالة ضروري . هذا ولكن عليا لا يعرف هذه الضرورة . فالمساومة الأولى تجر وراءها مساومات . والترضية الواحدة تؤدي إلى سلسلة متتابعة من الترضيات والمراوغات ) (99) .

لم يوافق علي على أن يقسم المال بين الناس حسب منازلهم الاجتماعية وأنسابهم ليتألف قلوبهم . وحين أزاح معاوية عن الفرات لم يمنع الماء عنه مثلما منعه معاوية عنه . ولم يكن يبالي بالأشراف ولا الشعراء ولا يستميلهم إلى جانبه . لقد كان علي حازما صارما في دينه ولم يستمع إلى نصائح من نصحه من الصحابة باستمالة الزعماء والأشراف والشعراء الذين صاروا من حصة معاوية . لقد هجر عليا حتى أخوه عقيل الذي التحق بمعاوية (100) .

 ويعلق الوردي على هذه المواقف بالقول :

( إن هذه الأعمال لا يقوم بها من يريد أن يحكم الناس ويستفيد منهم . إنها بالأحرى أعمال من يريد أن يموت ، لتبقى بعده نماذج تقتدي بها الأجيال التالية . إن الذي يريد أن ينجح في هذه الحياة يجب عليه أن يداري الرؤساء وأولي الجاه وأرباب القلم وذلاقة اللسان . ولهذا وجدنا الداهية من رجال السياسة يغدق الأموال على الشعراء من ناحية ، وعلى الرؤساء من الناحية الأخرى . فيلهج هؤلاء وأولئك بأماديحه وينشرون فضائله بين الناس . ولو درسنا الأدب العربي لوجدناه مملوءا بأماديح السفلة والسفاكين والطغاة . ذلك لأن هؤلاء قد وزعوا جزءا كبيرا مما ينهبون من أموال الناس على الذين ينفعون ويضرون . أما المساكين الذين لا يستطيعون أن ينفعوا أحدا أو يضروه فقد خسروا دنياهم وآخرتهم معا ) (101) .

وفي التفاتة مهمة يبين الوردي أن ما يؤكد طلب عليّ ابن أبي طالب طعليه السلام" للشهادة ، هو الجملة الأخيرة التي قالها عندما أحس بضربة سيف ابن ملجم على رأسه ، حيث قال :

( فزتُ وربّ الكعبة )

وكأنه كان ينتظر ضربة الخلاص الغادرة هذه . فالوردي يرى أن الكلمة الأخيرة التي ينطق بها الإنسان في ساعة موته تدل على ما يكمن في عقله الباطن من همٍّ وانشغال بال .  

ثم يخصص الوردي ما تبقى من هذا الفصل لتناول معاني ثورة الحسين بن علي الذي تسلم راية الثورة من أبيه ( وسار سيرة من يريد أن يموت كما سار أبوه من قبل ) (102) .

فالحسين أيضا لم يستمع إلى نصائح ابن عباس وابن جعفر وابن الحنفية وابن عمر وغيرهم ولا لوصف الفرزدق البليغ : ( أهل الكوفة قلوبهم معك وسيوفهم عليك ) .. وأصرّ على الذهاب إلى الموت :

( والظاهر أن الحسين كان يريد أن يستشهد . فهو يعرف بأن بني أمية أقوى من أن يستطيع القضاء عليهم بهذا الخروج ، وهو لابد هالك في السبيل الذي سار فيه . ولعله أراد أن يُقتل لكي يكون مقتله صرخة مدوية تقض مضاجع بني أمية .. كان مقتل الحسين من أقوى العوامل التي قوّضت دعائم الدولة الأموية في المشرق ) (103) .

ثم يناقش الوردي آراء القاضي الأندلسي أبو بكر بن العربي وابن خلدون اللذين يشجبان ثورة الحسين ، والشيخ محمد الخضري الذي يشجبها في القرن العشرين . ويختم الفصل بقوله :

( لو أن الناس جميعا اتبعوا نظرية الخضري وابن خلدون لوقف التاريخ ، ولما رأينا شيئا اسمه ديمقراطية . فالديمقراطية قامت على أكتاف الشهداء الذين ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة على توالي الأجيال . ينهض الثائر ثم يموت ... فيثير بموته ثوارا آخرين . وبهذا تتلاحق قافلة الثائرين جيلا بعد جيل . وهم في كل مرة يضيفون إلى شعلة النور لهيبا جديدا . ليس غريبا أن يشجب الثورات رجل عاش في القرون الوسطى – يقصد ابن خلدون - ، إنما الغريب كل الغرابة أن يشجبها رجل يعيش في القرن العشرين ( يقصد الشيخ الخضري في كتابه تاريخ الأمم الإسلامية ) .

أما في الفصل الحادي عشر : ( قضية السنة والشيعة ) فإن الوردي يفتتحه بهجمة عاتية منذ السطر الأول :

( إن قضية السنة والشيعة قضية شائكة إلى أقصى حدّ ، سيما في العراق ؛ هذا البلد الذي يصح أن يُسمى ( بلاد الجلاوزة ) (104) .

وهو يحيلنا إلى مسألة مهمة ترتبط بتناوله هذه القضية الحساسة المدمرة التي يحاول كل منا تفادي النظر إليها حسب سلوك ( النعامة ) المتفشي في المجتمعات العربية . فهو يعلن أنه لم يكتب هذا الفصل الذي يترتب على معطيات الفصول السابقة ؛ خلافة الرسول ومقتل عثمان والصراع بين علي ومعاوية واستشهاد الإمام الحسين ، لمخاطبة الجيل القديم من أبناء العراق ، فهؤلاء لن يفهموا منه شيئا ولن يقتنعوا بأطروحاته لأن الموقف الطائفي والمذهبي قد ترسخ في عقلهم الباطن فأصبح من الصعب تغييره ، بل كتبه لأبناء الجيل الجديد الذي سئم من هاتيك التقاليد البالية ، وأدرك بأنها مصدر بلائه وأساس ضعفه . ثم يشير إلى أن من الغريب أن رجال الدين من السنة والشيعة ينسون أو يتناسون أن كلتا الطائفتين كانت في الأصل من حزب واحد ، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في القسم الخاص بنظرة الوردي إلى الصراع الطائفي في العراق .

علي الوردي : (16) فشلت نبوءته في زوال الطائفية من العراق

من وعّاظ السلاطين إلى الوعّاظ المتفرنجين

ضعف روح المواطنة بين العراقيين

وتمثل الصفحة الأخيرة من الفصل الحادي عشر : "قضيّة السنّة والشيعة" من كتاب "وعّاظ السلاطين" للدكتور علي الوردي الذي يصف فيه الواقع الديني في العراق آنذاك، والموقف الطائفي المترتّب عليه، ونظرته إلى مستقبل هذا الموقف ، ثم نمو ما يمكن تسميته بـ ( التديّن ) السياسي بين العراقيين جراء ضعف التديّن الروحي ، ثم ضرورة وجود ( دين ) ما للنفس البشرية ، موضوعات حسّاسة سنبحثها في المواضع المخصصة لها . لكن من الضروري أن ننقل ما سطّره الوردي في ختام هذا الفصل :

( ضعفت نزعة التديّن في أهل العراق وبقيت فيهم الطائفية ؛ حيث صاروا لا دينيين وطائفيين في آن واحد . وهنا موضع العجب . ومن الممكن القول على أية حال أن الطائفية في العراق في طريق الزوال . فهي لا تستطيع أن تبقى في المجتمع مدة طويلة بعد ذهاب أبيها الدين . إنها الآن في مرحلة الإنتقال إلى رحمة الله تعالى . وهي ستلحق بأبيها المرحوم عاجلا أم آجلا . إن الذي أبقى الطائفية في العراق هو حب الوظيفة الحكومية . وهذه الوظيفة سوف لا تبقى مطمح الأنظار طويلا . فلقد غصّت أبواب الوظائف بطلابها ، وأخذ الناس الرزق من أبواب أخرى . قرُب اليوم الذي يفهم الناس فيه الحقائق على نمط آخر . فقافلة المجتمع لابد أن تصل إلى نهاية مطافها في يوم من الأيام. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد، أن ضعف التديّن في العراق أدى إلى تضخيم نزعة الثورة فيه بدلا من تقليصها. أراد الحكام في العراق أن ينشروا النزعة العلمانية ليكافحوا بها الثورة فانعكست في أيديهم الآية ، وانقلب عليهم ظهر المجن . فالجيل الجديد حين ترك التعصب الديني التزم مكانه تعصبا آخر أشد منه وطأة . وأخذ يتحمّس للمباديء المستحدثة تحمّسا غريبا لا يضاهيه فيه أي قطر من الأقطار العربية الأخرى . فبعدما كانت في العراق طائفة واحدة تنزع إلى الثورة ، صارت جميع الطوائف في ثورة واختلط الحابل بالنابل .

إن النفس البشرية تهوى الإيمان بدين ، فإذا فقدتْ دينا جاءها من السماء التمست لها دينا يأتيها من الأرض ) (108) .

في الفصل الأخير : ( عبرة التاريخ ) ، يقدم الوردي خلاصة وافية لمشروعه ، فيبيّن أن الغاية من كتابه هذا هو استقراء حوادث التاريخ الإسلامي في ضوء المنطق الإجتماعي الحديث ( المخالف للمنطق الأرسطي ) ، وأن هذا الاستقراء قد كشف وجود فريقين في هذا التاريخ يتنازعان البقاء : فريق السلاطين من جانب ، وفريق الثوّار من الجانب الآخر . وقد أسّس معاوية المُلك الوراثي في الإسلام ، وأسّس علي إزاءه الثورة الجامحة . وأخذت هاتان النزعتان المتضادتان تتفاعلان جيلا بعد جيل . وهذا التصنيف مقرر في القرآن الكريم كما جاء في الآية الكريمة :

( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ) . فالقرآن يصنف قادة الناس في الأزمنة القديمة إلى صنفين متضادين : مُنذِرين ومُترَفين . ولم يكن الأنبياء سوى ثوار يتبعهم الفقراء والمساكين . وأن البلاء ، كل البلاء ، يعم حين يحف بالحاكم مرتزقة من رجال الدين ( الذين سمّاهم الوردي وعّاظ السلاطين ) :

( فهؤلاء – حسب الوردي – يجعلون الحاكم ظل الله في أرضه . ويأتون بالملائكة والأنبياء ليؤيدوه في حكمه الخبيث . وبهذا يمسي الحاكم ذئبا في صورة حمل وديع . وهم في وعظهم يتناسون حقيقة علمية اجتماعية مهمة تتمثل في أن العدالة الاجتماعية لا يمكن تحقيقها بمجرد أن تعظ الحاكم أو تخوّفه من عذاب الله . فالحاكم قد يخاف الله أكثر منك وهو قد يعظك كما تعظه . العدالة الاجتماعية لا تتأتى في مجتمع إلا بعد تنازع الحاكم والمحكوم فيه ).

والوردي يجعل الصراع الاجتماعي فالثورة فالتغيير حتما جذريا في حركة أي مجتمع . وأن محاولة الحكام تعطيل هذا الفعل الحتمي هو الذي يجعلهم يستأجرون لهم أعوانا من وعّاظ السلاطين . يواصل الوردي القول :

( إن الثورة نزعة أصيلة من نزعات المجتمع المتمدن ، لا يستطيع أن يتخلى عنها إلا إذا أراد أن يسير في طريق الفناء . فمنذ ظهر نظام الدولة ظهرت إزاءه نزعة الثورة . وظلت هذه النزعة العارمة تواصل ضرباتها جيلا بعد جيل .. لا تهدأ ولا تفتر ) (109) .

وبفعل موجهات مشروعه الحاكمة التي تقضي بنقل ( عبرة التاريخ ) والنظر إلى التراث كدرسٍ يُراجع لبناء الحاضر والتأسيس للمستقبل ، وليس كصنم يُعبد ، وكتجربة تُستعاد من جديد ، فإنه يؤكد أن الديمقراطية في الأمم الحديثة لم تأت من جراء أفكار صبيانية تحذلق بها وعاظ السلاطين ، إنما هي نتيجة معارك ثورية طاحنة قامت بها الشعوب في وجوه الحكام المستبدين . ويدعو الوردي ، بإلحاح إلى اعتماد نظام التصويت الذي يعده ( ثورة مقنّعة ) ، ويعد الانتخاب ( ثورة هادئة ) .

# من وعّاظ السلاطين إلى الوعّاظ المتفرنجين :

----------------------------------------------

ويوسّع الوردي النظرة إلى من سمّاهم ( وعاظ السلاطين ) فيضيف إلى وعّاظ السلاطين من رجال الدين المساومين صنفا آخر يسمّيه (الوعاظ المتفرنجين) الذين نما نفوذهم بعد أن ضعف نفوذ وعاظ التدين :

( إن الوعّاظ ( المتفرنجين ) لا يختلفون عن الوعاظ ( المعمّمين ) إلا بمظاهرهم الخارجية ومصطلحاتهم التي يتمشدقون بها . هؤلاء يصيحون : ( الدين ... الدين ... يا عباد الله ) وأولئك يصيحون يهتفون : إلى الأمام .. إلى الأمام ، وهؤلاء يهتفون : إلى الوراء .. ولعلهم يفعلون ذلك لكي يخدرّوا الناس ويشغلوا أذهانهم عن النظر في مشاكلهم الراهنة التي هي ليست إلى الأمام ولا إلى الوراء ) (110) .

والوردي بهذا يشخص ، وبصورة مبكرة ، معضلة تعاني منها الأمة الآن وتتمثل في المثقفين ( المتغرّبين ) الذين يتخمون أذهان الناس بالمصطلحات الغربية المعقدة ، ويضعون الأنموذج الغربي كرقية سحرية قادرة ، حين اتباعها ، على حل مشاكل بلداننا المتخلفة كافة :

( الوعاظ المتفرنجون لا يقلّون عن المعمّمين في ولعهم بالنصائح الفارغة . فلا يكاد أحدهم يذهب إلى بلد من بلاد الغرب حتى يرجع وقد انتفخت أوداجه غرورا وتحذلقا . ويأخذ عند ذلك بتمجيد سجايا الغربيين وسمو أخلاقهم . ثم ينظر إلى من حوله من البؤساء فيرمقهم بنظرة ازدراء ويقول : مالكم لا تتخلقون بأخلاقهم ؟

يفتخر المعمّمون بأخلاق السلف الصالح ، ويفتخر المتفرنجون بأخلاق الغربيين ) (111) .

والوردي يرى إن الإثنين – وعّاظ السلاطين المعممين ، ووعّاظ السلاطين المتفرنجين – يصلان في النهاية إلى النتيجة ذاتها ، وهي تثبيت أسس الحكم الدكتاتوري المتسلط ، وتثبيط معنويات المستضعفين وشلّ إرادتهم . وهو يؤشر ظاهرة مرضية كانت قائمة آنذاك ثم استشرت في العقود اللاحقة ، وتتمثل في السعي اللاهث إلى إحياء الأمجاد القديمة ( الذهبية ) ، دون التمييز بين معنى ( الإستعادة ) الإتباعي الذي ينم عن العجز وانعدام الخلاقية ، و ( التمثّل ) الذي يعكس الخلاقية العالية والإرادة الفاعلة في بناء الحاضر :

( إن من المؤسف حقا أن نرى العراق الحديث تسوده أفكار من نوع تلك الأفكار السلطانية . فلقد أصبح كثير من المتعلمين فيه لا يكترثون بما يُصب على رؤوس الفقراء من بلاء . جلّ همهم مُنصبّ على إعادة المجد التليد . وهم لم يقتنعوا بمجد الرشيد – المتلذذ بأمر الله كما يسميه الوردي – وحده ، فجاؤونا علاوة على ذلك بمجد حمورابي وآشور بانيبال . ولو كانوا من أهالي سمرقند لأضافوا إلى ذلك مجد تيمورلنك خان . دأبهم أن يشيدوا المتاحف ويعمروا القصور لكي يستحسن منظرها الأجانب ويرتفع بها اسم الوطن عاليا في سماء الخلود كما يظنون ) (112) .

# ضعفت روح المواطنة بين العراقيين لأن الوطن وطن الجلاوزة :

---------------------------------------------------------------

ويضع الوردي ، عبر هذه المداخلة الطويلة ، إصبعه على جرح متأصل وشديد التأثير ، وهو المرتبط بنضج مفهوم الوطن ، واستواء مفهوم الرابطة الوطنية في نفس المواطن العراقي التي يعتقد أنها لم تتأسس بصورة صحيحة حتى الآن ، فكيف أذود – كما يقول الشاعر – الطير عن شجر ، ابتليت بالمرّ من ثمره ؟ . إن محنة بلورة مفهوم الوطن وتشكلات الرابطة الوطنية في ذات العراقي هي محنة راسخة وتتطلب وقفة متأملة وهادئة قائمة على العلم كما يرى الوردي ، وقد كان للتغافل عن دعوة الوردي الخطيرة هذه أبلغ الضرر على السلوك العام للمواطن العراقي ونظرته إلى ثروات وطنه ومسؤوليته عنها ، وموقفه من الدولة الذي اتسم بالإغتراب والانفصال المدمر :

( ولو أصغينا إلى الأناشيد التي يترنمون بها كل حين لوجدناها تردد ذكر ( الوطن ... الوطن ) . ولست أدري ماذا يقصدون بهذا الوطن الذي يتغنّون باسمه . إنه في الواقع وطن الجلاوزة والمترفين وأبناء الذوات . أما الفقير فقد بقي كما كان في أيام السلاطين ، يفترش الأرض ويلتحف السماء . فلو أنهم باعوا هذه المتاحف التي يفتخرون بها ، إلى المترفين من أبناء الأمم الأخرى ، ثم شيّدوا بأثمانها خزانات يدرأون بها هذا الفيضان الخبيث ، لخدموا بذلك السواد الأعظم من المواطنين . والمصيبة أنهم يريدون أن يفتحوا العالم ولا يريدون أن يفتحوا بلادهم أو ينقذوها من براثن المرض والجهل والفاقة  ) (113) .

إن الفقرة الختامية من كتاب الوردي هذا تلخص موقفه الثوري الذي جسّده في أطروحات كانت شديدة التميز والتأثير وقتها ، ومازال بالإمكان استخلاص الدروس والعبر منها ، حيث لم يحصل انقطاع جذري عن التراث كمرجعية صنمية تقرب من العلاقة التوثينية ، بل بالعكس أصبحنا نسمع دعوات ردة وعودة إلى ما هو أشرس من ذلك . فقد ثبت أن مشروعه التفاؤلي لم يتعطل ويثبت نقيضه بعد نصف قرن من أطروحاته الثورية حسب ، بل أن الأطروحات ( الجديدة ) أوغلت في الردة ليس إلى عصره الذي كان يدينه فقط ، بل إلى العصر الموميائي الذي رفضه الوردي بصورة قاطعة . إن من الضروري أن نستعيد الفقرة الختامية هذه لأنها تُلهمنا ، أو تُلهم - حسب تعبير الوردي - من لديه الاستعداد كي يستلهم مستندا إلى نظرته إلى طبيعة النفس البشرية - وهي نظرة فرويدية – الدرس الأساسي الذي أُجهض بفعل عامل رئيس هو عدم فهم أن طبيعة الإنسان – كما يقول الوردي – بحاجة إلى ضوابط ولا صلة لها بالفرضية ( الفطيرة ) والخطيرة التي ترى أن الإنسان طيّب بالفطرة ، وإنه مخلوق على صورة الله سبحانه – وستكون لنا عودة إلى هذا الموضوع ؛ الموقف من الإنسان الإبليسي ، لاحقا ، في كتاب الوردي المقبل المكمل لهذا الكتاب وهو : ( مهزلة العقل البشري ) - ، ولهذا ينهي الوردي كتابه الخطير هذا بدعوة ثورية ؛ دعوة تقوم على أساس استنفار همم المسحوقين والمستضعفين بشكل خطابي ملتهب لو اقتطع من سياقه القرائي لأحسسنا بأنه جزء من خطابات أحد الثوار المعروفين في تاريخ البشرية الحديث :

( لقد آن الأوان لكي نحدث انقلابا في أسلوب تفكيرنا . فقد ذهب زمان السلاطين وحل محله زمن الشعوب . وليس من الجدير بنا ونحن نعيش في القرن العشرين ، أن نفكّر على نمط ما كان يفكّر به أسلافنا من وعاظ السلاطين .

لقد آن لنا أن نفهم الطبيعة البشرية ، كما هي في الواقع ، ونعترف بما فيها من نقائص غريزية لا يمكن التخلص منها ، ثم نضع على أساس ذلك خطة الإصلاح المنشود .

أما أن نعتبر الإنسان ملاكا ونطلب منه أن يسير في حياته سيرة الأنبياء والقديسين ، فمعنى هذا أننا نطلب منه المستحيل ونجعله كالخنفساء الملتاثة في صوف : تسعى من غير طائل .

ويبقى الطغاة حينئذ يعيثون في الأرض فسادا ... وهم آمنون ) (114) .

علي الوردي : (17) العقل البشري مهزلة

استشراف مدّ العولمة الكاسح  

# كتاب "مهزلة العقل البشري" ثورة ضد (التفكير العقلاني) :

ولكن لا يمكن استكمال "الصورة الكلّية" ، لمشروع الوردي في إعادة قراءة التاريخ العربي والفكر العربي الإسلاميين ، إلا إذا تناولنا كتابه المكمل لمشروعه الأصلي وهو كتاب : ( مهزلة العقل البشري ) والذي صدر عام 1955 والذي قد يربك عنوانه المنظومة الإدراكية والتحليلية للقاريء . فالعنوان يوحي بموضوعة فلسفية مجردة تتعلق بتهاوي ( غائية ) العقل البشري ، وخلوه من المنطق ، وأن فعله عبارة عن مهزلة لا ضوابط عقلانية لها . وفي لقائه الموسّع مع الباحث ( حميد المطبعي ) ، راجع الوردي عنوان كتابه هذا مراجعة نقدية أوضحَ من خلالها أن العنوان لم يكن دقيقا . يقول الوردي :

(( أعترف أن هذا العنوان قد اخترته في ساعة حماس وغضب . وذلك على أثر الهجمات الشديدة التي جوبهت بها بعد صدور كتاب ( وعّاظ السلاطين ) . فقد صدرت ضد هذا الكتاب عدة كتب، ومقالات لا تُحصى، بالإضافة إلى خطب المنابر وتهديدات القتل . وقد خصص أحد خطباء التعزية ليالي رمضان كلها في نقد الكتاب وشتم مؤلفه. ولا حاجة بي إلى القول أن كتاب (مهزلة العقل البشري) - بعنوانه وفصوله – إنما هو حصيلة تلك الفترة )) (115) .

ولكن من وجهة نظر تحليلنفسية ، أعتقد أن عنوان كتاب الوردي دقيق جدا ، وهذا ما أثبته معلم التحليل النفسي في ثورته التي سببت شرخا خطيرا في نرجسية النفس البشرية عندما أثبت أن ما يحكم أفعالنا وتصرفاتنا ليس الشعور (عشر جبل الجليد الطافي الظاهر) بل هو اللاشعور (التسعة أعشار الغاطسة من العقل حسب المثال التقليدي في أدبيات التحليل النفسي) وهذا يجعل الإنسان كائنا تبريريا، وليس كائنا منطقيا- rationalized human being and not rational human being  . وهذا ما استدركه الوردي حين سارع إلى القول :

(( إني قد أوافق على رأيك في أن عبارة ( مهزلة العقل البشري ) ليست علمية من بعض الوجوه ، ولكنها قد تكون علمية من وجوه أخرى . يجب أن لا ننسى أن كتاب

( مهزلة العقل البشري ) هو بمثابة صرخة ، أو ثورة ، على التفكير (العقلاني) الذي كان مسيطرا ، ومازال مسيطرا ، على عقول الكثيرين منا . إن العقل ليس هو الذي يسيطر على الطبيعة البشرية ، بل الطبيعة البشرية هي التي تسيطر على العقل وتسيّره . إن الإنسان حين يسلك سلوكا معينا ، أو يعتنق رأيا أو عقيدة ، يتصوّر أنه فعل ذلك باختياره وإرادته الحرة ، ومن جراء تفكيره المجرد . إنه لا يدري أن وراء سلوكه أو رأيه عوامل عديدة ، وأن هذه العوامل تؤثر على تفكيره من حيث لا يشعر بها )) (116) .

إن المراجعة الدقيقة لهذا الكتاب ستكشف لنا أدلة مضاعفة على الدور التنويري الثوري الذي لعبه الوردي في الدعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي من ناحية وإعادة قراءة التراث والتاريخ العربي الإسلامي من ناحية أخرى بصورة سبق فيها الكثير من أطروحات المفكرين العرب في هذا المجال والذين جاءوا بعده بعقود .

في الإهداء يعد الوردي هذا الكتاب أخا لكتابه السابق ( وعّاظ السلاطين ) ، ويحذّر من سوء تأويله كما حصل مع الكتاب السابق :

( إهداء وتحذير : أهدي هذا الكتاب إلى القراء الذين يفهمون ما يقرأون . أما أولئك الذين يقرأون في الكتاب ما هو مسطور في أدمغتهم فالعياذ بالله منهم . إني أخشى أن يفعلوا بهذا الكتاب ما فعلوا بأخيه ( وعّاظ السلاطين ) ، من قبل ، إذ اقتطفوا منه فقرات معينة وفسّروها حسب أهوائهم ثم ساروا بها في الأسواق صارخين .. لقد آن لهم أن يعلموا أن زمان الصراخ قد ولّى ، وحلّ محله زمان التروّي والبحث الدقيق ) (117) .

وفي المقدّمة يشكر الوردي – وبروح ديمقراطية – مؤلفي كتابين كُتبا ضد كتابه ( وعاظ السلاطين ) لانتقاداتهما القيمة . ثم ينطلق في الرد على خصومه من وعّاظ السلاطين ساحبا إياهم – وقد سحبهم قبل ذلك فعليا في هجمتهم على كتابه السابق – إلى مناقشة موضوعات حساسة جدا في المجتمع العراقي . يبدأ أولا بالردّ على آرائهم في مجال الإنحراف الجنسي ، وخصوصا اللواطة ، مؤكدا على خطل التفسيرات الدينية بشأنها ، وعلى كونها ظاهرة اجتماعية . ويتناول ثانيا مشكلة الحجاب ودعوته إلى السفور ، داعيا إلى تحرّر المرأة وتعليمها وخروجها إلى ساحات العمل لأن شخصيتها المستقلة لن تكون ممكنة إن لم تستقل ماديا وتتخلص من التبعية للرجل ، معتبرا تعليم المرأة وعملها مفتاحا مركزيا في تطور المجتمع العربي والإسلامي . ويؤكد على مفهوم الحركة والتطور الذي يخالف قناعات وعّاظ السلاطين القائمة على ثبات الظواهر الاجتماعية وقدريتها والقوى الماورائية التي تحكمها .

# استشراف مدّ العولمة الكاسح المُقبل :

--------------------------------------

وفي انتباهة فريدة يتناول موقف المسلمين من الحضارة الغربية ، طارحا وجهة نظر متميزة وريادية وكأنها تتنبأ بموجة العولمة الكاسحة التي ستأتي وليس لواعظ ولا لرجل دين مقاومتها . فالمسلمون سوف يكونون مُجبرين على السير مع تيار الحضارة الغربية وسيقتبسون ما تأتي به حسنا أم سيئا :

 (( ومن غرائب ما ارتآه الواعظون في هذا الأمر أن قالوا : خذوا من الغرب محاسنه واتركوا مساوئه . كأن المسألة أصبحت انتقاء طوع الإرادة كمن يشتري البطيخ . إن الحضارة جهاز مترابط لا يمكن تجزئته أو فصل أعضائه بعضها عن بعض . فالحضارة حين ترد تأتي بحسناتها وسيئاتها . وليس في الإمكان وضع رقيب على الحدود يختار لنا منها الحَسَن ويطرد السيّء ، ومعنى هذا أنها تيار جارف لا يمكن الوقوف في وجهه )) (118) .

إن موقف الوردي المبكر آنذاك والذي يتوقع فيه اكتساح الحضارة الغربية لكل الحدود وتحطيمها كل القيود القومية مهما كان نوعها ، هو رؤيا دقيقة عن مدّ العولمة الكاسح الذي أقبل بعد ذلك ، وحين يؤكد على أن الحضارة الغربية ليست حكرا على الغرب بل هي حضارة عالمية ، وأنها ستجرف كل الحدود لا يتبقى إلا أن يستخدم مصطلح " العولمة – globalization " الذي لم يكن في متناوله آنذاك لأسباب معروفة :

(( إن الحضارة الغربية مغرية وهي جبّارة تسحق من يقف في طريقها . ومما يجدر ذكره أنها ليست خاصة بأهل الغرب وحدهم . هي بالأحرى حضارة عالمية ساهم في إنشائها الشرق والغرب . وهي اليوم تتغلغل في مختلف أنحاء الأرض ، وتصل بأثرها إلى أقصى مكان ... لست أريد بكتابي هذا أن أمجّد الحضارة الغربية أو أدعو إليها . إنما قصدي أن أقول : إنه لا بدّ مما ليس منه بُدّ . فالمفاهيم الحديثة التي تأتي بها الحضارة الغربية آتية لا ريب فيها . وقد آن الأوان لكي نفهم هذه الحقيقة قبل فوات الأوان ))(119) .

وهو – بخلاف النظرة الدينية الحذرة والقلقة والتي تشعر بالتهديد من مد الحضارة الغربية الكاسح – يرى أن في هذا المد سلبيات مثلما فيه إيجابيات ينبغي استثمارها ، وليست موجة سلبية خالصة ينبغي رفضها ومقاومتها كما يدعو الوعّاظ :

(( وإذا دخلت الحضارة في بلد صعب على الفرد فيه أن يمتنع عنها . إنها  تعطي المرء رزقا ورفعة بين قومه ، ولهذا لن يجد الناس بدّاً من الانتثال عليها والتنافس فيها . وإذا وجد الناس واعظا يمنعهم عنها عصوه وسخروا به . لاسيما إذا وجدوه أخيرا يقترف ما كان ينهاهم عنه )) (120) .

والوردي يستشرف الصراع الضاري الذي ستثيره " العولمة " المقبلة في مجتمعاتنا على الصعد كافة ، ومقدار التهديد الذي ستشكله على القيم التي ألفناها، وعلى العلاقات الاجتماعية في العائلة ، وفي المجتمع الأوسع على حد سواء. إنه يتوقع ، بل يؤكد وجود بوادر اضطراب في الحركة الاجتماعية، وتخلخل في ثبات وديمومة القيم التقليدية التي حكمت مجتمعاتنا قرونا طويلة. إنه يعد مرحلة الاكتساح الحضاري عاملا كبيرا في خلق حالة ( مخاض ) في أحشاء المجتمعات العربية والإسلامية . وأعتقد - شخصيا - أنه لو قيظ لهذه المجتمعات ، والمرجعيات الفكرية والدينية والسياسية التي تنظر إلى مدّ الحضارة الغربية الجارف كحالة ( مخاض ) يمكن استثمارها وتعزيزها بالعوامل المطلوبة التي توصلها إلى ولادة خلاقة تقدم المولود العربي الحداثي المنتظر، لتجنبنا خسائر باهظة جدا، ولوضعنا أمتنا على طريق ( الإقلاع )- حسب الوصف الدقيق الذي اجترحه (جورج طرابيشي)- الموفق نحو سماوات الحداثة . لكن الذي حصل هو أن الجهات المرجعية الحاكمة - الوعّاظية خصوصا - التي كان يُنتظر منها أن توظّف حالة المخاض هذه لمصلحة النهوض على طريق الحداثة ، وقفت في وجه التيار وأعادت حركة الأمة إلى الإتجاه المعاكس ، من النهضة إلى الردة حسب وصف طرابيشي أيضا :

(( إننا نمر اليوم بمرحلة انتقال قاسية ، ونعاني منها آلاما تشبه آلام المخاض . فمنذ نصف قرن تقريبا كنا نعيش في القرون الوسطى . ثم جاءتنا الحضارة الجديدة فجأة فأخذت تجرف أمامها معظم ما ألفناه ونشأنا عليه . ولذا نجد في كل بيت عراكا وجدالا بين الجيل القديم والجيل الجديد . ذلك ينظر في الحياة بمنظار القرن العاشر ، وهذا يريد أن ينظر إليها بمنظار القرن العشرين . كنا ننتظر من المفكرين ، رجال الدين وغيرهم، أن يساعدوا قومهم في أزمة المخاض هذه، لكنا وجدناهم على العكس من ذلك يحاولون أن يقفوا في طريق الإصلاح ويضعون على الأبالة ضغثا جديدا )) (121) .

وفي هذه ( المقدمة ) نلاحظ – حين نراجعها بدقة وتأمل متأن – تحولا شديد الأهمية في خطاب الوردي . ففي كتابه السابق ( وعّاظ السلاطين ) استخدم صفة ( الوعّاظ ) لكي يرسم حدا بين مجموعة من رجال الدين جرفهم النزوع الدنيوي وممالأة السلاطين والجلاوزة على حساب العامة المسحوقين حتى لو كلفهم ذلك تحريف القرآن والسنة بـ ( الحيل الشرعية ) ، وبين رجال الدين الأصلاء الذين فهموا روح العقيدة الإسلامية ، كطريق للدفاع عن المعذبين ، والوقوف في وجه الطغاة . وكنا نتوقع أنه بعد الهجمة الشرسة التي شُنت عليه بعد أن أصدر كتابه السابق ( وعاظ السلاطين ) ، والتي تضمنت التكفير ومحاولات القتل والإغتيال ، ستلين إرادة الوردي قليلا ويبدأ بالمهادنة النسبية مع مهاجميه وهم أصحاب نفوذ وسطوة ، وكحد أدنى من باب ( التقية ) إذا جاز التعبير ، خصوصا أن الحلف الذي واجهه شمل سياسيين نفعيين ورجال سلطة و( مفكّرين ) و( أدباء ) و ( مؤرّخين ) ركبوا موجة الإدانة لأسباب نفعية لم يمسك بها الجمهور وقتها . لكن الذي حصل هو العكس تماما . وهذا ما تكشفه لنا المقدمة عمليا وبشكل لا يقبل اللبس حيث لم يذكر الوردي فيها وصف (وعاظ السلاطين) إلا في الإشارة إلى كتابه السابق . لقد ترك وصف الوعّاظ - إلا في مواضع لا دور وظيفي استفزازي لها - وتحوّل بصورة كاملة وناجزة إلى استخدام الوصف الصارخ ، وكأنه ينفض يديه من تراب المهادنة ويكمل اندفاعته في طريقه (الإنتحارية) بلا وجل ومن دون تردد. إنه ( يضحّي ) بالقسم القليل المُهادن والمُداهن ، ويقدم الصورة الكلية لهذه الجهة كأداة تعزّز التخلف وتضع عصا هائلة في عجلة التحديث والحداثة، وهو الأمر الذي يحصل الآن فعليا بعد عقود من (نبوءة) الوردي. إنه قد تحول إلى موضوعة جديدة هي مسألة الحداثة في نهضة الأمة وإن لم يعلنها بمصطلحها الذي نستخدمه الآن . وحين انتقل إلى استخدام التسمية العامّة فذلك لأنه يؤمن أن الوعّاظ جهة ليس من اختصاصها التصدي للتحديث والنهضة والتعامل مع موجة الحضارة الغربية الهادرة :

(( يحاول بعض المتحذلقين من "وعاظ السلاطين" إدعاء التجديد فيما يكتبون ويخطبون ، وتراهم لذلك يحفظون بعض الألفاظ والمصطلحات الحديثة يتلقفونها من المجلات والجرائد المحلية ، ثم يكرّرونها في كلامهم إذ يحسبون أنهم بهذا قد صاروا "مجدّدين". ويحلوا لبعضهم أن يُقال عنه إنه جمع بين القديم والحديث ، ثم يرفع أنفه مغرورا بهذا العلم العجيب الذي وعاه في صدره. ومثله في هذا كمثل ذلك القروي الساذج الذي أراد أن "يتمدن"، في كلامه، فضيع المشيتين مع الأسف)) (122) .

و (( من المؤسف أن نرى إخواننا من "وعاظ السلاطين" لا يفهمون هذه الحقيقة . ولهذا وجدناهم يقاومون كل تيار جديد ، كأن الأمر بيدهم : يقولون فيسمع الناس قولهم )) (123) .

وفي تحدّيه الصارخ الذي يبلغ مستوىً تحرّشيا سافرا ، يموّهه بحماسة التغيير ، نجد الوردي قادرا على تمرير نقمته على وضع متعفن ، شديد التخلف ، يرجو له النهوض بلا رجاء ، ويتمنى له التحول من دون بارقة أمل ، فيعمد إلى التحرّش بالثوابت ، تحرش تغطيه الحماسة بأغطيتها الصارخة فلا تستفز أحدا ، وقد يكون الوردي أول من أسس المنهج التحرشي في الخطاب الثقافي العراقي المعاصر :

(( فإذا احترم الناس التمدن صعب على الأب أن يمنع أولاده من السعي في سبيل هذه المكانة المرموقة ولو جاء يردعه جبريل – عليه السلام ))(124).