رواية (قبل اكتمال القرن)

تحليل خمسين رواية عربية نسوية:

رواية (قبل اكتمال القرن)

( قرن الخراب العراقي العظيم )

للمبدعة "ذكرى محمد نادر"

د. حسين سرمك حسن

# سيرة موجزة لعائلة الرضواني ومصائر أفرادها :

الرضواني الجد الأكبر : ضابط كبير في الجيش العثماني ، اعتُقل ومات في سجنه بسبب تمرد حفيده عبد الرحمن الرضواني الملقب بـ ( المُلّا ) ضد العثمانيين .

الرضواني الأب : عانى كثيرا من سلوكيات ابنه وتمرداته .. توفي أخيرا بعد زواج ابنه من فتاة بدوية هي (الشمرية) .

الرضواني ( الإبن) : عبد الرحمن الرضواني الملقب بـ (المُلّا) . تمرّد ضد الاحتلال التركي وضد الغزو البريطاني على حدّ سواء . شخصية أسطورية . تزوج الشمّرية والخادمة الزنجية التي جاء بأمّها - جدُّهُ - سبيّة . أنجب من الشمّرية ذكورا هم : خليل ، طه ، مرتضى ، الصفوان ، وإناثا هنّ : الوضّاءة ، وفضائل . ومن الزنجية عدة أولاد عوملوا بمهانة ومنهم : عباس .

عازف الربابة : هو ابن سائس خيل الرضواني الإبن .. فقد بصره تدريجيا . كان يغني القصائد التي تتغنى بقوة ومجد سيّده ، فقد البصر تدريجيا . عاش قرناً كاملا تقريبا كان فيه شاهدا على كل الحوادث التي عصفت بعائلة الرضواني .

خليل : مات شانقاً نفسه في بستان العائلة بسبب عجزه الجنسي وحمل زوجته من البستاني .

الصفوان : مدرس رياضيات . تزوج من القادرية ، معارض سياسي فصل من وظيفته وطورد وسُحل بالحبال وعُلّق بعمود الكهرباء .

مرتضى : مدرّس . تزوج من البلورية التي كانت طالبة صغيرة عنده . رُزِق منها بسبعة أطفال : مراثي ، سُبُل ، عُميرة ، الجهم ، الوليد ، الوضّاح ، وتغلُب . هجر زوجته وتزوج (العوراء) يتخطيط من القادرية . معارض سياسي . سُحل أخوه أمام عينيه وظل يحمّل نفسه مسؤولية موته . وقّع براءةً من الحزب السياسي المعارض الذي ينتمي إليه ، ولم يَسَلم . إغتيل أخيرا في بيته بطلقة هشّمت جمجمته .

مراثي : أحبّت عامر ابن فضائل وتخلّى عنها بسبب ملابسات وضعه السياسي المعارض . أحبّت أستاذها الجامعي " المُهلّب " ،وتزوجته بعد حب عاصف .

المهلب : زوج مراثي ، التحق بالحرب فأُسِر لسبع سنوات عاد بعدها مُضطرباً نفسيا ويتصرف كالأطفال .

سُبُل : أحبّت - وهي طالبة في الإعدادية - طالبا يكبرها في كلية الهندسة حباً عجيبا ، ثمّ هجرها لأن عائلتها مشبوهة سياسياً . اعتُقلت مع أبيها وأخيها الجهم . وفي المعتقل تعرفت على الجلاد ( نوّاف الضامن ) الذي خطّط للإيقاع بها في شباكه . تزوّجها سرا .. وأجهضها بعد حملها منه .

عميرة : الأخت الأصغر أنجبت بدون حب . تحرّش بها عمها "عباس" جنسيا ، واكتشفتهما سبل ، ولكنه أدار التهمة عليها فضُرِبت ، وهربتْ من البيت لتصبح أشهر مومس في العاصمة ، لُقّبت بـ (الباشا).

الجهم : أكمل كلّية السياسة . من فصيل معارض لحزب السلطة . اعتُقل . انهوس بمقاومة الأمريكان في حرب عام 1991 . أحبّ (هانيا) ابنة فضائل ، لكنّ امها أفشلت علاقتهما .

تغلُب : انتحر بعد أن عرف أن اخته (عميرة) أصبحت مومسا بإطلاق النار على نفسه .

الوليد : شارك في الحرب العراقية الإيرانية وبتُرت ساقه في إحدى المعارك .

الوضّاح : الأخ المحبوب ، شارك في حرب 1991 ولم ينسحب ، وظلت سبل ومراثي تسألان عن مصيره في كراج النهضة .

فضائل : أم عامر . تزوجها عبد الجليل الجراخ ( شيوعي سابق ) لكنه تعلّق بأختها (الوضّاءة) حتى الموت . وبعد سلسلة من النكبات الهائلة - خصوصا اعتقال ابنها عامر من قبل ابن خاله السجّاد دون أن يتعرّف ملامحه إلا متأخرا ، قامت بالانتحار بحرق نفسها .

هانيا : بنت فضائل ، أجهضت امّها تجربة حبّها مع الجهم . ارتبطت بضابط أحبها بإخلاص وعندما لم يحصل على الموافقة الرسمية للزواج منها قامت بفض بكارتها بسبابتها أمام أمّها فضائل ثم فقدت عقلها .

الشمّرية الأم : ماتت بعد أن رحل أولادها بمأساوية : خليل وطه والصفوان ، وزوجها الرضواني .

الزنجية ( الضرة ) : ماتت مريضة بعد أن عاملتها الشمّرية بقهر وإذلال .

عامر : ابن فضائل . أحب مراثي وهجرها بعد أن ضبطهما العم "عباس" متعانقين ، فأشبعها ابوها مرتضى ضربا . وخذلها عامر ولم يتدخل . كان سياسيا معارضا . اعتُقل عندما جاء ليعتذر منها ، واختفى إلى الأبد . 

نوّاف الضامن : الجلّاد الماكر . تزوج سُبُل سرّاً بعد أن أسقطها أخلاقيّاً بمؤامراته ، ثم أجهضها فطردته من البيت . سمّم أجواء العائلة بسلوكه المدمّر .

عباس : إبن الزنجية الأكبر ، كان حاقدا على العائلة وخلق لها الكثير من المشكلات ( فضح مراثي ، التحرش الجنسي بعميرة ، مساندة الجلّأد نوّاف في البيت في كل شيء ) .

السلطانة : قوادة مشهورة . أم (القادرية) زوجة الصفوان . رعت عميرة و ( ربّتها ) ولقبتها بالباشا .

فن الصفحة الأولى : مفاتيح وألغاز :

-------------------------------

تدرك "ذكرى محمد نادر " أن الصفحة الأولى من الرواية - بخلاف القصة التي يحلّ فيها الاستهلال - قد تكون حاسمة في شد القاريء وملاحقته لأحداثها من خلال إثارة التساؤلات التي ستبحث عن الإجابات ومحورها المركزي ، وهو الخيط المتين الذي ينظم حلقات الرواية وهو :

ما الذي حصل وجعل عائلة الرضواني تؤول إلى هذا المصير الأسود ، من جدّ حالم بالفروسية المجيدة، ثري يفتح المدارس للفقراء ويحصل على وسام من الملك ، إلى بؤس مروع تتدفأ فيه البنت الصغرى وأطفالها بنار رقعة شجرة العائلة ، ويلعبون بالوسام الملكي بدلا من الدمى .. إلى حال أخلاقي مدمر حيث تصبح إبنة الجيل الرضواني الثالث مومسا بل "باشا" العاهرات في بغداد كما سنرى؟؟ من سماوات التغني بالشرف الرضواني إلى حضيض تداوله الرخيص .. رحلة بمائة عام تقريبا نقطعها مع ذكرى محمد نادر . ولا أعتقد ان أحدا من النقّاد والقرّاء العراقيين قد منح هذه الرواية الإهتمام والإحتفاء الذي تستحقه ، وهم محقون في ذلك لأن الأخوة  ماريا فارغاس يوسّا أو غابرييل غارسيا ماركيز أو مارتن زوسكند وغيرهم سوف يعتبون عليهم.

منشيء عائلة الرضواني - التي تصوّر حيوات أفرادها ومصائرهم الكاتبة لتعرض من خلالهم تحولات المجتمع العراقي وعواصفه التاريخية وانهياراته بل مصيره - هو "عبد الرحمن الرضواني" أو "عبد الرحمن الملّا" الذي كان يتمتع بشخصية قوية متمردة تحمل أبوه "الرضواني ذو الكرش الودود" كما تلقبه بسببها الكثير من الأذى. كان متحدّيا وذا روح تعرضية جسور خلقت الكثير من المشاكل لأبيه وحتى لجدِّه. لقد نازل المصارع التركي (حكيم دادا) رغم الفوارق بين قوتيهما.. وكان يغطس في مياه دجلة ، في رهان لإثبات القدرة على الغطس، لأطول مدة حتى يشعر الأب المراقب بالفزع من احتمال انقطاع أنفاسه ثم ينبثق فجأة من تحت الماء.. ولكن انفلاته وتمرده كانت له وجوه إيجابية كبيرة: فهو لم يكتف ببيع إحدى مزارعه لفتح مدرسة للأطفال الفقراء حسب ، بل قام باقتسام أرضه الهائلة مع الفلاحين المسحوقين موجّهاً صدمة كبيرة لأبيه. لقد درس في القسطنطينية وعاد وهو يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة والانكليزية بصورة لا بأس بها .. رافضا تعلم كلمة واحدة من التركية . كان يكره الأتراك .. ويمتعض من جدّه الضابط البارز في الجيش التركي .. كان يشتبك مع جُباة الضرائب قساة القلوب ويدفع من كيسه عن الفلاحين التعساء.. ولهذا لم يجد معضلة تواجهه عندما بدأ الغزو البريطاني للعراق في الحرب العالمية الأولى. والكاتبة تثير هذه المعضلة / المحنة التي هي من العلامات الفارقة في تاريخ هذه البلاد التي يوضع شعبها دائما بين اختيارين مُدمّرين، بين الرمضاء والنار .. هذا الموقف العصيب تكرر في حرب الاحتلال الأخيرة .. مع بداية الزحف الإنكليزي في عام 1914 طلب الأتراك العون من رؤوس العشائر ووجهائها وقيل لهم : راية المسلمين وخليفتها على الأرض تطلب دماءكم .. لقد انشق العراقيون - آنذاك - فهُم - وفي أي "اختيار" يتخذونه - سيستبدلون هولا بهول.. وفاجعة بأخرى قد تكون أبشع منها .. هذا الموقف المتضاد أبداً هو الذي جعل شخصية الفرد العراقي متضادة –ambivalent ، وليست ازدواجية كما يقول الراحل "علي الوردي".. شخصية تتصارع فيها دوافع الإقبال والإدبار.. الحب والمقت.. الخير والشر في الآن نفسه ، وهي سمة طاغية في التركيبة الشخصية لأغلب شخوص الرواية كما سنرى. لكن الرضواني قلب صراعه تجاه محنة الاحتلال التركي والغزو البريطاني بأن اتخذ موقف مقاوما ضد الإثنين فصار يغير مع عصبته من الشباب ضد المعسكرين .. على طرق امداداتهما ومستودعات تموينهما :

(في البداية لم يفهم الشباب الأمر: كيف تكون عدوّاً لإثنين ؟ لابد أن تكون في أحد الجهتين : تركيّاً أم كافراً بريطانياً لا سمح الله - ص11) .

لكن الحفيد كان يقول للشيوخ:

(ليس هناك فرق كبير بين أقدام التركي المسمومة ، وأقدام الإنكليزي المطوّقة برباط أبيض طويل وحذاء ثقيل ، واحتقار لنا يرتيديه تحت خوذته الفلينية - ص 13). 

وبسبب تمرد الحفيد ، تم سجن الجد رغم خدماته الجليلة للأتراك فمات كَمَداً في زنزانته في اسطنبول بسبب انقلاب أسياده عليه.

لا تسير الروائية على مسار سردي "مستقيم" في عرضها للحوادث ، فقد صار الخط السردي المستقيم من سمات الرواية القديمة ، إنها تسير على طريقة "الرقعة الشطرنجية" السردية إذا جاز التعبير، وهذا التكنيك يتصاعد مع تنامي أحداث الرواية واحتدام صراعاتها وتشابك علاقاتها.. ولا أعتقد أن هناك تقنية مناسبة غير هذه بسبب تعدد شخوص الرواية وكثرة الأحداث التي ترتبط بكل فرد والانتقالات الزمنية الكثيرة والعريضة التي تشهدها. فهي – أي الكاتبة - عندما تتتابع المواجهة البريطانية ممثلة بالقائد (طاونزند) ، والتُركية مُمثلة بـ (نور الدين باشا) ثم (خليل باشا) ، فإنها لا تمضي مع التقدم الزمني للوقائع بين الطرفين ، بل تتنقل أماما وخلفا وجانبا لأن هاتين الجهتين ترتبط بهما أفعال شخوص أخرى هي : عبد الرحمن وأبيه وجدّه..

لقد كانت لروح عبد الرحمن الاقتحامية أثرها في أنّه ، وعصبته ، قد انغرسوا في وجدان الناس كثوار مخلصين لا يهابون شيئا.. لقد التقى عبد الرحمن بطاونزند في ليلة مدلهمة .. شتم الثاني الأول ، فرد عليه الرضواني بشتيمة أقسى سيتذكرها مدى حياته. وسيقف الرضواني على فرسه الصهباء لينظر إلى الجنرال الأسير الذي تعرّف عليه : فتى الليلة المدلهمة، وسيتذكر فورا :

(التماع عينيه الجسورتين تكويانه وتؤججان أحقاده التي سيتذكرها كأنما هي وليدة اللحظة ذاتها) – وهنا ستتضح ميزة أخرى هي ميزة الحاسة النقدية التاريخية والنفسية التي تربط الحوادث بأواصرها التحليلية السردية لا التحليلية الموضوعية فالواقع السردي – وهذا ما تدركه الروائية بالتأكيد وما يجب أن يدركه القارىء بقوة لاستيعاب اسرار فعل الكاتبة – يختلف عن الواقع الموضوعي ، والكاتب يمكنه أن يتحدث حاضرا عن مستقبل "قائم" لكنه خارج الدائرة الزمنية السردية . وفي هذا التقدم "المراوح" ترسم الكاتبة "صورة" لا تتوفر عليها إلا الكلمة .. عصية على الفنان التشكيلي .. فالفن التشكيلي فن "مكاني" في حين أن الفن السردي هو فن "زماني". الرسّام يجب أن يوقف الزمن كي ينجز عمله التصويري لكن السارد يستطيع التلاعب بابعاد الزمان وعناصره بخلاقية عالية. هذا ما سيتجلى في الرواية كسمة راسخة. وفي حديثها عن اللحظة " الراهنة" التي شاهد فيها الجنرال الأسير التماعة عيني الرضواني الجسورتين ، "تعيد" الكاتبة المستقبل ، تعيده بأحداث تترتب على الماضي "الراهن":

( تذكر فورا التماعة عينيه الجسورتين تؤججان أحقاده ، التي سيتذكرها كأنما هي وليدة اللحظة ذاتها ، بعد سنوات أخرى - وهو يتابع بحماس في صالة منزله تفاصيل حصار آخر للقوات الإنكليزية في عشرينات هذا القرن ، حين بدأت تتساقط تباعا شموس ماسات التاج البريطاني، يطوي بخطواته العسكرية العريضة الغرفة المفروشة بسجادة إيرانية منهوبة من دائرة كمارك علي بابا ، لتحملها عفاريت علاء الدين إلى بيت الماركيز الطاونزندي السابع... متذكرا رؤوس البغال المسلوقة تفوح زناختها متفوقة على آلام الجوع ، وتنازل ضبّاطه بكبرياء حزين عن جيادهم ، ليتناولوا لحمها الضامر بحسرة الفراق ، فيزداد عقد الحقد الانجليزي حبة أخرى ، لوطن أبينا آدم الذي لم يعد ممجّدا لهم كما يجب ، إذ غادرو أرضه صاغرين- ص 17).

**********************

تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

( قرن الخراب العراقي العظيم ) رواية (قبل اكتمال القرن) للمبدعة "ذكرى محمد نادر"

 ( ليس هناك من قوة عظمى في الغرب ، إلا وتريد أن يكون لها ورثة في بلاد الرافدين)

( فيليب فلاندران )

(بلاد زينها الله بالحسن الغريب وأعطاها كل شيء)

              ( ابن بطوطة يصف العراق )

(يوم وزعت الأنصبة على البشر ..  كانت الحصة المقررة لي الحرمان والألم )

           ( شاعر سومري مجهول)            

( العراق هو إناء العسل الذي يجذب الكثير من الذباب )

( جون مكين )

( نحن شعب بلا ذاكرة ، من يتذكر ماذا ؟ إنهم ينسون ، نحن برحمتنا ننسى خطايا المواطنين ونسامح أحيانا قدر الإمكان عصيانهم ، لتسهل الأمور أكثر حين تكون بلا ذاكرة ، إنها بداية جديدة دائما )

( السياسة كالدعارة لكليهما شبهة )

( أظننا قوم لا نقوى على أن نحيا اللحظة بعمق تفاصيلها . نحن أجبن من هذا ، إلا أننا نسعد كثيرا باستعادتها في غبش أحلامنا وأقاصيصنا )

( أفضل ما في المصائب أنها تعلمنا كيف نحمي قلوبنا لئلا تتكسر كهذه الصحون )

( عندما لا يكون ثمة أمل في أحد ما .. في أمر ما ، لن يكون هناك ألم . لن يكون هناك خيبة . إن الألم كله يكمن في الخيبات التي يسببها من نرجو أن يمنحونا ما نحلم به )

                   ( ذكرى محمد نادر )

                   من رواية

                   ( قبل اكتمال القرن )

تمهيـــــد :

----------

هذه الرواية : (قبل اكتمال القرن) لذكرى محمد نادر – القاهرة ، المجلس الأعلى للثقافة، 2001- هي روايتها الأولى ، هي من روايات القرن في السردية العراقية ؛ هي الرواية الأولى التي تلاحق بصبر عجيب وقائع المائة سنة الأخيرة الأكثر دموية في تاريخ العراق. والمعروف عن المبدع العراقي هو أنه كالإنسان العراقي غير صبور ، وهذا من الأسباب - حتى وإن كان ثانويا - التي لم تُتح للفن الروائي أن يأخذ مدياته كاملة في الأدب العراقي. وكنت - ومازلت - أكرر دائما أن القصة القصيرة فن ، أما الرواية فهي "علم" ، وعلى الروائي أن يتحلى بصبر ومثابرة عالم وجلاده في مختبره . أتذكر ما قرأته عن نفاد صبر مساعد "أديسون" وقوله للأخير: " سأترك العمل فقد يئست.. لقد جربنا ألفي طريقة ولم نحصل على الكهرباء" . فأجابه الأخ أديسون بهدوء: " بالعكس .. لقد تأكدنا الآن أن هناك ألفي طريقة لا تعطي الكهرباء!!" .

وقبل اكتمال القرن رواية صُنعت بهذه الروح المثابرة الصبور العزوم. يتجلى ذلك ليس من خلال الفترة الزمنية المتطاولة التي تلاحقها من حياة الشعب العراقي (قرن كامل) حسب، ولا من خلال الرؤية البانورامية أيضا، بل من خلال هذه المتابعة الملتهبة لأدق تفصيلات حياة شخوصها.. ومسارات حركة حيواتهم .. وما رسمه لهم لوح أقدارهم المحفوظ في طيات الغدر والطغيان والتعسف.
هناك جهد في انتقاء المفردة .. وهو جهدٌ مضنٍ مقصود لأن استبدال اكثر المفردات بغيرها يهير غائية الجملة وجماليتها وقدرتها التعبيرية عن الاحتدام النفسي العاصف للشخوص .
هناك وعي حاد بأهمية المكان .. أن يكون مكانا عراقيا صميما.. تفوح منه رائحة هذه البلاد بتاريخها العصي المتناقض الفاجع .. وأناسها الفريدين بشخصياتهم وتمزقاتهم وأحزانهم والذين لا مفر من أن نستنتج من تاريخ عذاباتهم أن الله خلقهم وهو يبكي.. ويقولون إن الرواية هي ملحمة الشعوب.. فلم يعد ممكنا أن تكتب ملحمة أبطال أفراد مثل ملحمة جلجامش على سبيل المثال - وأنا أعترض على هذه الأطروحة الغربية النابعة من اختفاء دور البطل هناك وسأطرح مداخلتي لاحقا - الممكن هو أن تكتب رواية تجسد فيها ملحمة شعب . بورغم أن تاريخ وحياة الشعب العراقي هي عبارة عن سلسلة من الملاحم المتصلة المتعاضدة إلا أننا لا نستطيع القول إن الأدب العراقي قد قدم للعراق ملحمته الحديثة/ روايته ، الناجزة الباهرة ، إلى أن جاءت رواية ذكرى محمد نادر بعد ملحمة التكرلي :  "الأوجاع والمسرات" .

وملحمة ذكرى/ روايتها نص لاهث .. متلاحق الإحداث بل مكتظها.. مرصوص رصّا بلا استطالات ولا ترهلات .. ثوب المبنى فصّلته الأنامل الأنثوية الحاذقة ليلتصق بإغواء على جسد المعنى الرشيق مبرزا تفاصيله أحيانا من الخارج ودون حاجة للغوص تحته .. طبعا هذه ميزة وليس ضعفا فثوب المبنى على يدي ذكرى ملتحم بجسد المعنى . ومن تساؤلات أدبيات التحليل هو : أين نرى الإبتسامة ؟ هل نراها "أمام" الوجه أم "خلفه" ؟ .. والجواب الماكر هو أننا نرى الإبتسامة "في" الوجه ؟. وفي رواية "قبل اكتمال القرن" نرى المبنى في المعنى .. والمعنى في المبنى .. مُلتحِمَين حد التوحد والإنصهار.

وكنت أقول أنك حين تدخل سوقا صاخبة وتخرج لتحكي لنا عن الكيفية التي اشتريت بها قطعة قماش جديدة من البزّاز ، فهذه قصة قصيرة .. أما عندما تخرج وتحكي لنا ما رأيته في السوق من بشرٍ ، وطبيعة صراعاتهم ، وحركتهم ، وما شاهدته من محال وتحملته من مفارقات .. وأرض السوق وسماؤها ونورها وظلالها وعتمتها ومؤامراتها الصغيرة .. إلخ .. فهذه رواية .. لكنها ليست الرواية كفن.. هي حكاية طويلة ، ولكي تكون رواية ينبغي أن تكون هناك لعبة مصائر لشخص أو أكثر أو لشيء . وغالبا ما تكون هذه المصائر سوداوية فالفضل في تألق الحياة يعود للموت وليس للحياة الصدئة الرتيبة المكرورة حد البلادة بطبيعتها.

وكنت أقول أنه لا يوجد عمل أدبي – وليس روائي حسب- عظيم في تاريخ الأدب لم يكن فيه الفضل الأول والقدح المعلى للمثكل حسب الوصف الدقيق لجدّنا جلجامش . من ألف ليلة وليلة حيث تختم شهرزاد لياليها بشهادة ( ثم جاء هادم اللذات ومفرق الجماعات ..) .. من ملحمة جلجامش .. أوديب ملكا .. هملت.. الجريمة والعقاب.. مدام بوفاري .. الأحمر والأسود .. الرجع البعيد .. سفر السرمدية .. الأرض اليباب.. المومس العمياء .. وغيرها .. كل الإبداع هو دفاع الإنسان المُحاصر ضد مخالب المثكل التي تنهش وجوده . ورواية ذكرى كانت أمينة تماما على هذه الحقيقة في الإمساك بها بإحكام واستثمارها وكشف أبعادها الفلسفية والوجودية بسرد شفيف آس حزين وبسيط ، وهي تعلن - بين وقت وآخر - عن اجتثاث واحدٍ من شخوصها "أبطالها؟؟" بمنجل الخراب الباشط.. هذا المنجل الأعمى البارق الذي لا يستثني أحدا أبدا إلّا وفق حسابات ملغزة وعصية على الفهم .. أو بتدخل المبدع . وهذا ما يوفّره الإبداع لنا من مقاومات تتمظهر من خلال الإحساس بالامتداد الخلودي الذي يتيحه مسرح الرواية. فمع الموت وفي لعبة الحياة الفعلية – وكما يقول معلم فيينا – لا وجود لتعادل ولا لوقت مضاف .. تنتهي اللعبة وتسدل الستارة السوداء إلى الأبد ، إلّا في الأدب .. فهناك موت وحياة أخرى وتعادل وأوقات إضافية . وهذا ما لعبت على أوتاره بمهارة الكاتبة المقتدرة .

ولكي تكون الرواية رواية ، لا بُدّ أن يكون هناك صراع وعقد وتقابل إرادات ؛ لا بُدّ أن يكون ثمة شيء "مخفي" .. ينتظر القاريء من الكاتب كشفه بعد أن يقطّع أنفاسه أحيانا. وهذا سرّ عظمة سيدة الحكايات ألف ليلة وليلة ؛ الغرفة المغلقة التي يحذر الرجل زوجته من أن تفتحها حيث سيحل الخراب . ولكن لا حلّ إلّا بفتحها وإلّا باستكمال دورة الخراب . والروائي مثل هذا الرجل المسموم يعطي المفتاح ويحذّر من الفتح . وذكرى كانت في روايتها مع القارىء – وهذا امتياز- تتنقل معه بحماسة وعزم من غرفة إلى أخرى .. تفتح أبواب الخراب والموت والدمار .. إنها لا تحذّر . شغلها هو أن تستدرجنا وتقنعنا بضرورة فتح أبواب غرف العذاب ؛ عذابنا السرمدي الذي بلا بداية ولا نهاية. ولعل السبب الذي جعل تاريخ البشرية لا يشهد امرأة " فيلسوفة " يكمن في أن المرأة " تعرف " أسّ الفلسفة وجوهر فذلكتها الفارغة . بل أن روح الفلسفة ( لعبة الحياة والموت والمصائر وسرّ الخلق ) ، هو ما تشتغل عليه الأنثى بتواضع وصمت جريح .. فهي أول وآخر خالق . وحاول البعض مدّ هذا التفسير إلى تبرير قلة الروائيات عالميا قياسا إلى الروائيين الذكور بأن لدى كل امرأة (روايتها) التي ينطوي عليه وجودها وفعلها . لكن ذكرى محمد نادر لم تقدّم روايتها الشخصية ( وغالبا ما يتسيّد الصوت الأنوي والواقع والمصير الشخصي على الرواية النسوية – والأدق هو تعبير الرواية الأنثوية التي يمكن أن يكتبها الرجل وليس الرواية النسوية ) .. لم تجلسنا لتعرض خساراتها وصراعاتها - واحيانا جسدها كما تفعل الكثير من الكاتبات على مسرح بصائرنا . بل فتحت أبواب الرحم العراقي الجحيمي لتطلق منه غيلان الحكايات والملاحم والمصائر ، متظافرة في التحام فذّ لروح المكان بحركة الزمان لقرن الفجيعة . كل ذلك من خلال المتابعة التفصيلية غير المُمِلّة – والتفاصيل التي بلا وظيفة والغير جمالية تثير الملل لأن الرواية هي فن التفاصيل والجزئيات لا الكلّيات - لأقدار أفراد عائلة "الرضواني" التي تقدم عصارة مسيرتهم السوداء على الصفحة الأولى من روايتها.

ومن يريد أن يدرس هذه الرواية أسلوبيا - وهذا ما سنقوم بجانب منه في هذه الدراسة - فعليه أن يضع قاعدة أن كتلة نسيج جسم الرواية وخيوط وقائعها المتراكبة تشتبك - معلنة ومستترة - في الصفحة الأولى التي تدخل فيها ذكرى ساحة الحدث بلا مقدمات مغثية كما يفعل البعض ، ورسول حمزاتوف يصف المقدمة بأنها تشبه شخصا ذا قبعة ضخمة يجلس أمامك في المسرح ويحرك رأسه يمينا وشمالاً !! هذا هو الدخول المباشر الآسر والمجزي الذي يجب أن نقدمه كاملا :

( لن يُصدّق أحدٌ ما آلت إليه عائلة الرضواني، فمنذ أن استقرت قبل أكثر من نصف قرن تقريبا في العاصمة المتجهمة تحت غبار الصيف تاركة جذورها في المدينة الوسطى ، يشقى فيها نهرها المتدفق، مخلفة أمجادا مستحيلة الذكر ، حتى تغيرت امور كثيرة باتت مدعاة لاستغراب المعمّرين وحكماء العشائر ممن عاصروا تلك العائلة وشهدوا تكوين صياغات مجيدة لشجرة عائلية عتيقة، انحدرت بأمجادها من خيام الصحراء ليستقر الأمر - أخيرا - بأن تلقي الإبنة الصغرى بالرقعة العائلية المكتوبة في جلد غزال قديم ، في العشرة السادسة لهذا القرن ، في المنقلة الباردة لتوقد نارها الضئيلة، في ليلة جليدية، انطلق فيها شيطان الزمهرير عابثاً في عظام أولادها الستة المتضورين جوعا المتربصين بالنار لاصطياد دفئها الباهت، حتى أنها - قبل ذلك - وبلحظة يأس خبيثة منحت بناتها عوضا عن الدمى ، الوسام الملكي الطاهر الذي شرّف فيه الملك صدر جدهم عبد الرحمن المُلقَب بـ (الملّا) بعد أن باع إحدى مزارعه فاتحا بثمنها مدرسة لتعليم الأطفال الحفاة الذين كانوا يلتهمون الطباشير كأنه قطع حلوى، ويجلسون فاغري الأفواه ينشون الذباب المحلق حولهم ، ويرددون كالببغاوات ببله شديد أناشيد صعبة المعاني ، كان (المُلّا) ينظمها بنفسه ، حالما بالفروسية المجيدة ، تاركا لسائسه وحافظ أسراره وآخر مخلفات جبروته أن يلحنها على صوت ربابته الأثرية المتوارثة لأبيه عن جدّه ، معتبرا أياها عنوان سلالته الصغيرة ، ثم ما لبث بعد ذلك - بسنوات كثيرة - أن اشتهر بها وذاع صيته في البلاد ، مُسدلاً آخر ستارة يمكن أن تُرفع على مسرح تاريخ الرضوانية ، إلا أن ستاراً آخر مختلفا أُسِّس حين افتتحت إحدى بنات الجيل الرضواني الثالث قبل نهاية القرن ، بيتا للّهو الشهواني الرفيع - ص5).