شعرية التلقي في عناقيد آخر الليل

د. حيدر محمود شاكر

قراءة في شعر عبدا لزهرة لازم شباري

عبد الزهرة لازم شباري

[email protected]

د. حيدر محمود شاكر

 تتجذر شعرية الشاعر في تلقيه المرهف لآلام جمهوره ومتلقيه وإحساس ما يلاقونه من معاناة وويلات ، فتتبلور واقفة مؤسسة قاع تلقي الشاعر الذي ينحاز بمشاركته الصارخة ضد بؤس شعبه ، والباعثة طيف لطفها عليهم تأسيا بما يحسونه من مرارة الضنك ، وألم الحرمان في وطن ملؤه الخيرات والبركات ، وطن كالجمل يحمل على سنامه الذهب والفضة ويأكل الصبير والأشواك !!

فذهب الشاعر باحثاً عن متنفس يلتقط فيه أنفاسه التي طالما حبست في موطنها الذي ولدت فيه !

فلم يجد إلا أن يتلقى بشعريته عالماً يعيش فيه ومعه ، ردحاً من الزمن المتخيل الذي يحقق به مآربه التي يطمح الوصول إليها ، لينعم بعالم خال من الظلم والاستبداد ، وعال في رتبة الكمال الإنساني نفساً وروحاً وقلباً .

ولقد تجسدت شعريته واضحة جلية في جل قصائد دواوينه ، وعلى وجه الخصوص في ديوانيه (( أوتار في غمد)) و ((عناقيد آخر الليل )) .

اللذين هندس فيهما الشاعر تلقيه في التعبير عن تلك المعاناة والتحديات التي تواجهه باسم جمهوره عن طريق نهج أبي عبدا لله الحسين (عليه السلام)

ومن قبل ذكره لجده رسول الرحمة والإنسانية محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم)

ولأبيه إمام البلاغة والبيان علي أبن أبي طالب (عليه السلام)

منطلقاً لتأسيس قناعه الخاص به الذي اختفى وراءه هو وشعريته متخذاً إياهم منبراً في مواجهة أعداء الوطن ، ونصرة شعبه ، إذ يقول:

 

 ذكر الإباء وأرض الطف تقطفها

 قطف الزهور ومن تأريخها شـــــمم

 مضى الحسين سفير الشمس ذو حسب

 فوق الثريا تجلى وهو مبتـــــــسم

 الحق عند بيوت الله منتصــــــــــر

 كيما تنقل في أردانه النعـــــــــــم

 أرسى بدرب العلى والمجد رائده

 وذاد بالنفس والأرواح تنصـــــرم

 ديوان أوتار في غمد

 

إذ تلقى درب أهل البيت (ع) المتجسد في الإمام الحسين (ع) وكون شعريته المتمردة على الواقع المعاش ليندمج منصهراً ذائباً في غور آلام جمهوره وتحديات وطنه تجاه مبغضيه وأعدائه الذين يريدون تشتيت أواصر الوحدة بينهم ويسلبون عزتهم وشرفهم وكرامتهم المتمثلة بالوطن العراق الغالي على القلوب وفي النفوس .

كما جاءت الإشارة إلى هذا فيما سبق ، فإن ديوان شاعرنا (( عناقيد آخر الليل)) معد شعرية جياشة رسمت ملامح واضحة لصورة العراق في أكثر قصائد الديوان .، إذ مزج التلقي بالشعرية ، وجمع الشعرية بالتلقي من خلال الرد الفاعل بين بنائية تفاعل الاثنين معاً ، في سكب معاناته وآلامه وشعوره بالغربة المكانية والاغتراب النفسي على الرغم من أنه يعيش بين أبناء جمهوره الذين ألفهم .

يشكو أنين آلامهم وجعجعة رحى السنين عليهم فها هو يقول :

 تحن وليل العطاشى حزين

 كليل الأســــير طواه العقال

 أتيت وقلبي لضى الجائعين

 يهيم وسيف الزمان سجال (2)

ومن ثم يكثر استفهامه حول هذه اللوعات والآهات التي حلت ببني شعبه وموطنه منكراً إياها مندداً أصحابها بفعلهم القبيح ضدهم ويدعوا أبناء وطنه للوقوف ضدها وتحديها فيقول :

 لماذا ألفتم مطايا الحرام؟

 وفضتم على أرضــــــي المحال؟

 لماذا ألفتم مطايا الحروب ؟

 وهضتم على أهلي النبــــال؟

 لماذا النوايا علينا تحاك؟

 وتعقل على قومي الح

إلى أن يصل سؤاله واستفهامه الأخير، الذي جاء به لابساً ثوب شموخ العراق وحبه وعوه وكبريائه عزاً وشرفاً فيقول :

 لماذا لماذا وكل الصـــــروف؟

 ضحايا الحروب تحل الســــــــؤال؟

 زرعنا الحدود بنخل العراق

 وما ظل بيت على أرضي يقــــال

 تمر علينا نعوش صــــــراع

 وما غير الدموع عليها تثـــــــــال

 نجوم سبحن بأرض العراق

 وفاضت عطوراً لأهل الخصـال

 فشعبي الأبي شموع تضاء

 كنجم الثريا وعشق الجمـــــــال

 أحب العراق ومن في العراق

 أحب الجنوب أحب الشـــــمال

 فأهلي ونفسي فداء العراق

 وسيفي وشعري خضيب النبــــــال

هذا هو الشاعر إذ يرسم شعريته من خلال ما يتلقاه ويشعر به من ألم المعاناة وحرارة المأساة التي حلت بأبناء مجتمعه العراقي ، فعبر عما يعانيه هو بفم الجمع ، وباسم العراق ، فجعل نفسه قناة فضائية أرضية ينقل من خلالها مظلومية شعبه وتحديات وطنه العراق ليرفع الصرخات بوجه الظالمين الذين يريدون سلب عزة العراق وكرامته وخيراته ، فمن هذا المنطلق نلحظ شاعرنا يقول في قصيدته (غطرسة الرماح)

 

 ما زلات أرقبهم بعين

 كعين الذئب ،

 مازلت المحهم و ...

وحتى يصل منادياً بصوت عال ومستهزئاً متحدياً كل متحد قائلاً ومخاطباً :

 

 صباحاهم يا صاحبي

 تكبلها الطقوس الكاذبات ،

 ويوم سبتهم يقودون التماسيح

 نحو أباطيلهم ،

 ....................................

 والقامات التي تواجه الريح

 كنخيل العراق ،

 لا يهمها هسهسة الزرازير

 ونواح الفواخت الأليم !

وما أن ينهي سخريته الموجعة نحو الأعداء والظالمين حتى يعرج مستذكراً الأصالة والشموخ في وطنه العراق فيقول :

 

 ففي السيوف شهامة الأجداد

 وسورة الشطآن ،

 وعذوبة ماء الفرات !

 وعلى رؤوس قاماتنا

 غطرسة الرماح ،

 وزهد النبوءات !!

ولا تنتهي صرخاته ولا مطالباته بوجه الزمن المباح الذي عانى ما عاناه شعبه ووطنه العراق ، إذ يقول في قصيدته (( جد لية الزمن المباح))

 وأنين وهج الأرض يبدي لوعة

 كصدى الصراخ بوحدة الأحباب

 رباه ما مرت على أهل التقى

 تلك الرزية سيفها بضــــرابي

 فمعامل الأموات تجني صرخة

 وبطون غيرهم رنت لشــــراب

 يتسابقون على الكريهة مثلما

 تعدو الذئاب السارحات ببابي

 صح لا يصح إني دعوتك صادقاً

 أتصيح شؤما عامــــداً لعذابي

 فالبصرة الفيحاء ترقد والنوى

 جثمت يداه على كلى الأحباب

 واليوم ما شاء العراق منعماً

 بدم البطولة فالعراق مرابــــي

وحتى تصل ذروة معاناته القمة ويبوح بها منادياً وطنه العراق نداء الحزين الذي يرنو تجاه حنين أبوة العراق ودفئه ، حنين الأم الرؤوم على ولدها ، ففي قصيدته ((سيد السلالات )) يقول:

 إتكأت عليك ..

لأني أول الباكين المثقل بالدموع

وبقايا الرؤى وموت الأحلام ،

والمهجرين في أقصى الأرض

وانحسار الصمت ..

وانطفاء الضوء ،

ولأني يا وطني

لا أبغي سوى التجول في مرايا بوحك

وبقايا نداك ،

الذي مازج شفاه العابرين

وانداح نحو الأفق في فضاء من نبوءات

الصالحين ْ ،

يا وطني

على كفيك أبغي التجول

واعتناق الضوء !!)

وينهي شاعرنا شعريته وما تلقاه من ألام شعبه وما كابده من مرارة معاناته وتحديات وطنه ليصل إلى حقيقة هو صاحبها وعارفها ، إذ سجلها في قصيدته (( أخيلة وإيقاعات))

أغلقت بابي..

ولملمت وريقات

تبعثرت من حولي ،

وألجمت براعم قصائدي

واليراعْ ،

واتكأت على أوجاعي

ثم عاودت الخطى

كي أرحلْ !! (11)

وهكذا .. ففي ديوان شاعرنا الشيء الكثير عن تلقيه الوطني لبلده العراق ، ولألام شعبه ومطالبهم المشروعة التي هي حق طبيعي لكل شعب في وطنه !

إذ ألمحت القراءة بعضاً منها ، قامت بطرحها من خلال النصوص التي دونتها في الطروس السابقة من بحثي المطول على شاعريته من خلال مجاميعه الشعرية التي أتيح لي الحصول عليها !

ويبقى لكل شاعر شعريته وشاعريته وزمنه ومكانه التي لها مصادر التلقي ونبعاثاته في نفسيته فتتعدد أساليبه وتتنوع معانيه وتتراسم صوره وتتمازج أوعيته الموسيقية في النغم والإيقاع والوزن ونحوها ليضمَن ما يريده الشاعر ويصوره !!