الأوراق المسكوت عنها في تاريخ مصر

د. عمرو عبد العزيز منير - مصر

[email protected]

كان جوته هو الذي اكتشف أن حجم الكاتب ووزنه يتحددان بمقدار امتزاج إنتاجه بثقافة أمته ومجتمعه . شعرت بأهمية مغزى هذه العبارة ودلالتها وأنا أقرأ كتاب (أوراق تاريخية)  الصادر مؤخراً عن ( دار عين للدراسات والبحوث القاهرة 2011م).للشيخ والمؤرخ قاسم عبده قاسم  . حيث بدا لي خلال أوراقه ؛ كعالم يبحث عن جوهر وظيفة المؤرخ في أمته يتحيز لها وينحاز لقضاياها ، ويعلن عن انتمائه لهذه الأمة مفتخراً بذلك ، ولكن ليس من هذا النوع من الفخر الذي يقعده متغنياً بمجدها الغابر ، أو بماضيها الذهبي ، أو البكاء على أطلالها ، وإنما يبحث عن الحي في الأمة في عالم أفكارها وحياتها وفاعلياتها ويبحث عن ضرورات الإحياء ، ومساراته فيها ملتزماً بأصول ذاكرتها الحضارية الحافزة الدافعة الرافعة ،رغبة منه لإحياء كل ما يعينها على البقاء والحياة والشهود . وفي إطار ذلك الفهم والوعي تحركت ثوابته الحضارية ورسالة المؤرخ الكفاحية لتتفاعل لتخرج أجندته البحثية أوراق تاريخية تحفز كل مناطق المسكوت عنه في التاريخ المصري .

حين تقلب أوراقه ستجد  أسئلة شائكة  تتعلق بالهوية المصرية وأيامها المجيدة كأحد وسائل بناء قوتها المعنوية وتثبيت هويتها الذاتية حيث رأى في يوم الفتح الإسلامي لمصر يوماً مطموساً مغيباً مخذولاً، يُراد للذاكرة ـ في النظام المخلوع ـ أن تنساه ، والإشارة إلى ضرورة الاحتفاء بذلك يعني لديه تنشيط الذاكرة الحضارية للأمة وموضع الإسلام في هويتها معبراً بذلك عن معنى ومغزى مختلف يؤكد كيف تبنى الذاكرة الحضارية وعياً وسعياً .

الأوراق ترصد ملامح النسيج الواحد للأمة المصرية الممتد والمستمر عبر العصور من منطلق أن المسلمين والمسيحيين ينتمون إلى عنصر واحد بالمعنى العرقي ولم يشكل الوافدون (سواء من المسلمين ذوي الأصول العربية أو المسيحيين ذوي الأصول الرومية ) سوى نسبة ضئيلة من السكان سرعان ما ذابت في النسيج الواحد لمصر ؛ لأن أغلبية المصريين اعتنقوا الإسلام ، وظلت النسبة الباقية على ديانتهم المسيحية بيد أن هذا الرصد لا يعني في أي حال من الأحوال أن الأقباط المسيحيين عاشوا كجماعة معزولة داخل المجتمع، أو أن همومهم لا تتقاطع مع هموم بقية المصريين. ولكن الإدعاء كذلك بأنهم لا يختلفون عن الأغلبية، وبالتالي فلا مشكلات خاصة بهم، لا يخلو من الصحة كذلك، الأمر الذي يستدعي استنهاض همة الدولة للوفاء بتطلعات المصريين جميعا ومن بينهم الأقباط. وقد تخلصت الدولة للتو من نظام كان من بين آفاته إنكار وجود المشكلات والاستخفاف وقصر النظر والتخلي عن مسؤولياته تجاه الوطن والمواطنين والفرصة الآن مواتية، لتأسيس ديمقراطية حقيقية عمادها توحيد العناصر الثقافية المتنوعة وصهرها، ومواجهة موجات التطرف والمغالاة، ما يقف حائلاً دون تجدد حوادث الفتن والعنف الطائفي، أملا في استعادة الوحدة الوطنية ما فاخر المصريون برسوخها.

. ومن ناحية أخرى نقرأ في أوراق المؤرخ قاسم عبده قاسم كيف كان اليهود المصريون حقيقة تاريخية وليس فقط وطنية وجزءًا من الأمة المصرية من جميع الجوانب حتى جاءت الحركة الصهيونية لتزرع ألغام الشك وعدم الثقة بينهم وبين المصريين فخرجوا من مصر .

وترصد الأوراق قضايا شائكة تتعلق بالتاريخ العربي الإسلامي ، مثل التأثير الثقافي والديني في اليهود أو العلاقات مع الآخر سواء كان هذا الآخر متمثلاً في الإمبراطورية الصينية في زمن الفتوح الإسلامية ، أو التتار بعد زمن الهجوم التتري على الخلافة العباسية رمز إقامة شرع الله ، أو المسيحيين في العالم قبل الحروب الصليبية . ويكشف لنا عن إشكالية التعامل الغربي مع الإسلام والمسلمين بكل ما تستثيره من تحيزات أو إخفاقات أو صناعة للقوالب الذهنية مما تثير مفارقة واضحة ؛خاصةً لدى من يحاولون استلهام الإدراك الحقيقي لمعنى الأمة الإسلامية أو حتى لمعنى الإسلام من خلال الغرب.

بحثت الأوراق أيضاً في منطقة الحدود بين التاريخ والأدب والموروث الشعبي وقارن المؤرخ قاسم عبده قاسم بين القراءة الأكاديمية العلمية للتاريخ والقراءة الشعبية للتاريخ ، وذلك في محاولة لوضع تصور نظري للعلاقة بين الأدب والتاريخ ، وهى علاقة مؤكدة في كل الأحوال . وموضحاً أهمية الموروث الشعبي (الأسطورة) في خدمة التاريخ ، بوصفها أدلة وأسانيد ووثائق دامغة تعين المؤرخ القادر على استنطاقها والنفاذ من خلالها إلى الحركة المضمرة في هذه الأنساق الشعبية مما يوسع بلا شك من آفاق البحث التاريخي ، ومن ثم إيجاد سبل جديدة للوصول إلى المعرفة التاريخية .وفي الوقت نفسه يفند قاسم عبده قاسم ما يطالب به المثقفون من النخبة بما يسمى (إعادة كتابة التاريخ) أوقولبة التاريخ داخل إطار أو قالب يناسب حاجات الحاضر ؛ وهو أمر غاية في الخطورة لأنه في التحليل الأخير دعوة لتطهير التاريخ من (الزيف والأسطورة والخيال) بالزيف والأسطورة والخيال ! . 

 في الأوراق التاريخية تجد قراءة معاصرة في فلسفة التاريخ وتعرية حقيقية لواقع الدراسات التاريخية المعاصرة في المدارس والجامعات المصرية ، كورقة عمل داعية بأن تسترد الجامعات بعضاًَ من وعيها الحضاري فتتحول إلى مؤسسات حضارية ، تهتم بقضايا الأمة وتعرف لها حقها تحفز كل عناصر الإحياء ومساراته في بناء حضاري متكامل ومتوازن .

 ترصد الأوراق كذلك أزمة الكتاب في العصر الحالي ، سواء من حيث علاقته بالقارئ ومدى تأثير هذه العلاقة على انتشار عادة القراءة بين الناس من حيث ازدهار صناعة الكتاب في العالم العربي ، كما تناقش إحدى (الأوراق) قضية العلمانية بين الأصول التاريخية ومشكلات المجتمع المصري الحديث ؛ وهى قضية ذات أهمية بالغة تكتنفها ضبابية الجهل والتعميم والتعصب باسم الدين . الكتاب يكتسي قيمة نوعية عالية في المسار الثقافي المصري خصوصاً والعربي عموماً ولعل وعي صاحب الأوراق التاريخية بمجمل الاستفهامات التاريخية والفكرية الحادة قد انعكس على كتاباته في الآونة الأخيرة وهو ما يلاحظه القارئ العربي منذ كتابه (قراءة التاريخ)ومن قبله (فكرة التاريخ)  وظهر ذلك جلياً على كتاب الأوراق التاريخية بالوضوح في الريادة ، والتميز في الطرح ، وعدم الاستسلام لما سلَّم السابقون به .ضمن أجندته البحثية الممتدة والموصولة والواصلة بين هموم أمته وطرائق مواجهتها . وقد ساعده على ذلك رحلته العلمية الطويلة المشرفة التي أتاحت له الإحاطة بموضوعاته من شتى الجوانب والنظر إلى الجانب الواحد من زوايا مختلفة لتأتي لنا كتاباته في الآونة الأخير بثمار رحلته العلمية ، وثمار الرحلات القادمات خُيرُ وأحلى وأغنى وأغلى إن شاء الله . إن العديد من (خطرات) هذا الكتاب المتميز : يضعنا من جديد أمام إمكانية الفرح ـ ثانية ـ بوجهنا الذي حاولوا تضييعه منذ انعدام فترة العافية كحلم عابر . ويكشف عن قدرة الشيخ المؤرخ قاسم عبده قاسم على النفاذ إلى روح مصر ولما لا ؟ ! وهو المعفًر بأديم ثقافة وتراث وتاريخ هذا الشعب ناثراً رؤيته الخلاقة في أوراق هذا الكتاب الذي يضمن المتعة حتى لغير المتخصصين .